نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي  
{مِن دُونِ ٱللَّهِۖ قَالُواْ ضَلُّواْ عَنَّا بَل لَّمۡ نَكُن نَّدۡعُواْ مِن قَبۡلُ شَيۡـٔٗاۚ كَذَٰلِكَ يُضِلُّ ٱللَّهُ ٱلۡكَٰفِرِينَ} (74)

ثم بين سفولهم بقوله لافتاً القول عن مظهر العظمة إلى أعظم منه فقال : { من دون الله } أي المحيط بجميع العز وكل العظمة ، لتطلبوا منهم تخليصكم مما أنتم فيه أو تخفيفه : { قالوا } أي مسترسلين مع الفطرة وهي الفطرة الأولى على الصدق : { ضلوا عنا } فلا نراهم كما ضللنا نحن في الدنيا عما ينفعنا .

ولما رأوا أن صدقهم قد أوجب اعترافهم بالشرك ، دعتهم رداءة المكر ورذالة الطباع إلى الكذب ، فاسترسلوا معها فبادروا إلى أن أظهروا الغلظ فقالوا ملبسين على من يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور ظانين أن ذلك ينفعهم كما كان ينفعهم عند المؤمنين في دار الدنيا : { بل لم نكن ندعو } أي لم يكن ذلك في طباعنا . ولما كان مرادهم نفي دعائهم أصلاً ورأساً في لحظة فما فوقها ، لا النفي المقيد بالاستغراق ، فإنه لا ينفي ما دونه ، أثبتوا الجار فقالوا : { من قبل } أي قبل هذه الإعادة { شيئاً } لنكون قد أشركنا به ، فلا يقدرهم الله إلا على ما يزيد في ضرهم ويضاعف ندمهم ويوجب لعن أنفسهم ولعن بعضهم بعضاً بحيث لا يزالون في ندم كما كان حالهم في الدنيا{ انظر كيف كذبوا على أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون }[ الأنعام : 24 ] فالآية من الاحتباك : ذكر الإشراك أولاً دليلاً على نفيهم له ثانياً ، والدعاء ثانياً دليلاً على تقديره أولاً .

ولما كان في غاية الإعجاب من ضلالهم ، كان كأنه قيل : هل يضل أحد من الخلق ضلال هؤلاء ، فأجيب بقوله : { كذلك } أي نعم مثل هذا الضلال البعيد عن الصواب { يضل الله } أي المحيط علماً وقدرة ، عن القصد النافع من حجة وغيرها { الكافرين * } أي الذين ستروا مرائي بصائرهم لئلا يتجلى فيها ثم صار لهم ذلك ديدناً .