فتح الرحمن في تفسير القرآن لتعيلب - تعيلب  
{مِن دُونِ ٱللَّهِۖ قَالُواْ ضَلُّواْ عَنَّا بَل لَّمۡ نَكُن نَّدۡعُواْ مِن قَبۡلُ شَيۡـٔٗاۚ كَذَٰلِكَ يُضِلُّ ٱللَّهُ ٱلۡكَٰفِرِينَ} (74)

{ ألم تر إلى الذين يجادلون في آيات الله أنى يصرفون( 69 ) الذين كذبوا بالكتاب وبما أرسلنا به رسلنا فسوف يعلمون( 70 )إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل يسحبون( 71 )في الحميم ثم في النار يسجرون( 72 )ثم قيل لهم أين ما كنتم تشركون( 73 )من دون الله قالوا ضلوا عنا بل لم نكن ندعوا من قبل شيئا كذلك يضل الله الكافرين( 74 )ذلكم بما كنتم تفرحون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تمرحون( 75 )ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فبئس مثوى المتكبرين( 76 ) } .

ومع ظهور الحجة القرآنية ، والحجة الآفاقية ، والآيات والعلامات الأنفسية ، فهم يمارون في الحق ، ويذيعون الباطل ، فأمرهم عجيب شنيع ، لهذا بدأت الآيات الكريمة باستفهام إنكاري تعجيبا من ضلالهم ، وتقبيحا لفساد رأيهم .

[ وتكرير ذكر المجادلة لتعدد المجادل ، بأن يكون هناك قوما وهنا قوما آخرين ، أو المجادل فيه بأن يحمل في كل على معنى مناسب ، ففيما مر في البعث ؛ وهنا للتوحيد ، أي انظر إلى هؤلاء المكابرين المجادلين في آياته تعالى الواضحة الموجبة للإيمان بها ، الزاجرة عن الجدال فيها ، كيف يُصرفون عنها مع تعاضد الدواعي إلى الإقبال عليها ، وانتفاء الصوارف عنها بالكلية ] ؟ ! .

الذين يجادلون هم الذين كذبوا بالقرآن ، وبما أنزل من وحي وتشريع-إذ الوحي أعم من أن يكون قرآنا لفظه ومعناه من عند الله ، أو يوحى إلى النبي معناه ويبلغه الرسول بلفظ من عنده- وجاء الفعل في الآية الأولى مضارعا للدلالة على تجدد المجادلة وتكررها ، وبصيغة الماضي في هذه للدلالة على التحقيق ؛ فيعلمون حين يرون العذاب كيف كان ضلالهم بعيدا ، وكيف كان جرمهم عظيما ؛ ذلك حال كون القيود في رقابهم والسلاسل{[4080]} تشد وثاقهم ، يسحبون بها في النار على وجوههم ، ويجرون في السائل الحار المغلى ، ثم يحشرون في جهنم ليكونوا وقودا لها وحطبا ، ثم يُزادون فوق عذاب السعير التحسير ، فيقال لهم : أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون ؟ ! هل ينصرونكم أو لأنفسهم ينتصرون ؟ فيقولون غابوا عنا ، وإن حضروا تبرؤوا منا [ بل تبين لنا اليوم أنا لم نكن نعبد في الدنيا شيئا يعتدّ به ، وهو إضراب عن كون الآلهة الباطلة ليست بموجودة عندهم أو ليست بنافعة إلى أنها ليست شيئا يعتد به ]{[4081]} .

ومثل ذلك الإضلال يضل الله كل من كفر وجحد وفسد ، فالحيرة والحسرة ، والسعير والتخسير لكل من تديّن بالكفر-ملحدا أو زنديقا أو جاحدا-ونقل عن الحسن : . . . إضلال الكافرين على معنى إضلال أعمالهم أي إبطالها والعواقب : من الأغلال والسحْب والخبال ، والحيرة والضلال ، وبطلان ثواب الأعمال بسبب الفرح بما كانوا قد أوتوا في الدنيا من متاع والركون إليه ، والبطر به والخيلاء والتفاخر ؛ أو تفرحون بما يصيب أحبابي من بلاء ، كما شهد بذلك قول الحق –تبارك اسمه- : { إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها . . }{[4082]} { إن تصبك حسنة تسؤهم وإن تصبك مصيبة يقولوا قد أخذنا أمرنا من قبل ويتولوا وهم فرحون }{[4083]} ، ويؤمر بهم أن يُزجّوا في أبواب النار المقسومة لكل منهم ، ليتهاووْا ويستقروا خالدين في دركاتها ؛ نسأل الله النجاة من النار .


[4080]:ولعل من المفيد أن نذكر ملحظا لغويا فيه إشارة إلى أن الغل والسلسلة لا يستويان، فالغل جامعة توضع في العنق ..وقد يكون من قد وعليه شعر، قالوا: وفي الحديث (وإن من النساء غلا قملا..) أصله أن العرب كانوا إذا أسروا أسيرا أغلوه بغل من قيد وعليه شعر فربما قمل في عنقه، فتجمع عليه محنتان: الغل والقمل؛ ضربه مثلا للمرأة السيئة الخلق الكثيرة المهر لا يجد بعلها منها مخلصا.
[4081]:ما بين العارضتين مما أورد الألوسي.
[4082]:سورة آل عمران من الآية 120.
[4083]:سورة التوبة الآية 50.