قوله تعالى : { هيهات هيهات لما توعدون } قال ابن عباس : هي كلمة بعد ، أي : بعيد ما توعدون ، قرأ أبو جعفر هيهات هيهات بكسر التاء ، وقرأ نصر بن عاصم بالضم ، وكلها لغات صحيحة فمن نصب جعله مثل أين وكيف ، ومن رفع جعله مثل منذ وقط وحيث ، ومن كسر جعله مثل أمس وهؤلاء ، ووقف عليها أكثر القراء بالتاء ، ويروى عن الكسائي الوقف عليها بالهاء .
ثم يزيد المترفون هنا إنكار البعث بعد الموت والبلى ؛ ويعجبون من هذا الرسول الذي ينبئهم بهذا الأمر الغريب .
أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما أنكم مخرجون ? هيهات هيهات لما توعدون : إن هي إلا حياتنا الدنيا ، نموت و نحيا ، وما نحن بمبعوثين . .
ومثل هؤلاء لا يمكن أن يدركوا حكمة الحياة الكبرى ؛ ودقة التدبير في أطوارها للوصول بها إلى غايتها البعيدة . هذه الغاية التي لا تتحقق بكمالها في هذه الأرض . فالخير لا يلقى جزاءه الكامل في الحياة الدنيا . والشر كذلك . إنما يستكملان هذا الجزء هنالك ، حيث يصل المؤمنون الصالحون إلى قمة الحياة المثلى ، التي لا خوف فيها ولا نصب ، ولا تحول فيها ولا زوال - إلا أن يشاء الله - ويصل المرتكسون المنتكسون إلى درك الحياة السفلية التي تهدر فيها آدميتهم ، ويرتدون فيها أحجارا ، أو كالأحجار !
مثل هؤلاء لا يدركون هذه المعاني ؛ ولا يستدلون من أطوار الحياة الأولى - التي سبقت في السورة - على أطوارها الأخيرة ؛ ولا ينتبهون إلى أن القوة المدبرة لتلك الأطوار لا تقف بالحياة عند مرحلة الموت والبلى كما يظنون . . لذلك هم يستعجبون ويعجبون من ذلك الذي يعدهم أنهم مخرجون ؛ ويستبعدون في جهالة أن ذلك يكون ؛ ويجزمون في تبجح بأن ليس هنالك إلا حياة واحدة وموت واحد . يموت جيل ويحيا بعده جيل . فأما الذين ماتوا ، وصاروا ترابا وعظاما ، فهيهات هيهات الحياة لهم ، كما يقول ذلك الرجل الغريب !
وقوله { هيهات هيهات } استبعاد ، وهذه كلمة لها معنى الفعل ، التقدير بعد كذا ، فطوراً تلي الفاعل دون لام تقول هيهات مجيء زيد أَي بعد ذلك ، ومنه قول جرير : [ الطويل ]
فأيهات أيهات العقيق ومن به . . . وأيهات خل بالعقيق نواصله{[8481]}
وأحياناً يكون الفاعل محذوفاً وذلك عند اللام كهذه الآية ، التقدير بعد الوجود لما توعدون ، ومن حيث كانت هذه اللفظة بمعنى الفعل أشبهت الحروف مثل صه وغيرها ، فلذلك بنيت على الفتح{[8482]} ، وهذه قراءة الجماعة بفتح التاء وهي مفرد سمي به الفعل في الخبر ، أي بعد ، كما أَن شتان اسم افترق وعرف تسمية الفعل أَن يكون في الأمر كصه وحسن{[8483]} ، وقرأ أبو جعفرٍ «هيهاتِ هيهاتِ » بكسر التاء غير منونة ، وقرأها عيسى بن عمر وأَبو حيوة بخلاف عنه «هيهاتٍ هيهاتٍ » بتاء مكسورة منونة وهي على هاتين القراءتين عند سيبويه جمع «هيهات » وكان حقها أَن تكون «هيهاتي » إلا أن ضعفها لم يقتض إظهار الياء فقال سيبويه رحمه الله هي مثل بيضات أَراد في أَنها جمع فظن بعض النحاة أَنه أَراد في اتفاق المفرد فقال واحد «هيهات » هيهة وليس كما قال ، وتنوين عيسى على إرادة التنكير وترك التعريف ، وقرأ عيسى الهمداني «هيهاتْ » بتاء ساكنة وهي على هذا الجماعة لا مفرد ، وقرأها كذلك الأعرج ، ورويت عن أَبي عمرو وقرأ أبو حيوة «هيهاتٌ » بتاء مرفوعة منونة وهذا على أَنه اسم معرب مستقل وخبره { توعدون } أي البعد لوعدكم ، كما تقول النجح لسعيكم{[8484]} ، وروي عن أَبي حيوة «هيهاتُ » بالرفع دون تنوين ، وقرأ خالد بن إلياس «هيهاتاً هيهاتاً » بالنصب والتنوين والوقف على «هيهات » من حيث هي مبنية بالهاء ، ومن قرأ بكسر التاء وقف بالتاء ، وفي اللفظة لغات «هيها وهيهات وهيهان وأيهات وهيهات وهيهاتاً وهيهاء »{[8485]} قال رؤبة ، «هيهاه » من منخرق «هيهاوه »{[8486]} ، وقرأ ابن أَبي عبلة «هيهات هيهات ما توعدون » بغير لام .
جملة { هيهات } بيان لجملة { يَعِدُكم } فلذلك فُصلت ولم تعطف .
و { هيهات } كلمة مبنية على فتح الآخر وعلى كسره أيضاً . وقرأها الجمهور بالفتح . وقرأها أبو جعفر بالكسر . وتدل على البعد . وأكثر ما تستعمل مكررة مرتين كما في هذه الآية أو ثلاثاً كما جاء في شعر لحُميد الأرقط وجرير يأتيان .
واختلف فيها أهي فعل أم اسم ؛ فجمهور النحاة ذهبوا إلى أن ( هيهات ) اسم فعل للماضي من البُعد ، فمعنى هيهات كذا : بعُد . فيكون ما يلي ( هيهات ) فاعلاً . وقيل هي اسم للبُعد ، أي فهي مصدر جامد وهو الذي اختاره الزجاج في « تفسيره » .
قال الراغب : وقال البعض : غلط الزجاج في « تفسيره » واستهواه اللام في قوله تعالى : { هيهات هيهات لما توعدون } .
وقيل : هيهات ظرف غير متصرف ، وهو قول المبرد . ونسبه في « لسان العرب » إلى أبي علي الفارسي . قال : قال ابن جني : كان أبو علي يقول في هيهات : أنا أفتي مرة بكونها اسماً سمي به الفعل مثل صَهْ ومَهْ ، وأُفتي مرة بكونها ظرفاً على قدر ما يحضرني في الحال .
وفيها لغات كثيرة وأفصحها أنها بهاءين وتاء مفتوحة فتحة بناء ، وأن تاءها تثبت في الوقف وقيل يوقف عليها هاء ، وأنها لا تنون تنوين تنكير .
وقد ورد ما بعد ( هيهات ) مجروراً باللام كما في هذه الآية . وورد مرفوعاً كما في قول جرير :
فهيهاتَ هيهاتَ العقيقُ وأهلُهُ *** وهيهاتَ خِلّ بالعقيق نحاوله
وورد مجروراً ب ( مِن ) في قول حميد الأرقط :
هيهاتِ من مُصبَحها هيهاتِ *** ههياتِ حِجْرٌ من صُنَيْبِعَاتِ
فالذي يتضح في استعمال ( هيهات ) أن الأصل فيما بعدها أن يكون مرفوعاً على تأويل ( هيهات ) بمعنى فعل ماض من البُعد كما في بيت جرير ، وأن الأفصح أن يكون ما بعدها مجروراً باللام فيكون على الاستغناء عن فاعل اسم الفعل للعلم به مما يسبق ( هيهات ) من الكلام لأنها لا تقع غالباً إلا بعد كلام ، وتجعل اللام للتبيين ، أي إيضاح المراد من الفاعل ، فيحصل بذلك إجمال ثم تفصيل يفيد تقوية الخبر . وهذه اللام ترجع إلى لام التعليل . وإذا ورد ما بعدها مجروراً ب ( مِن ) ف ( مِن ) بمعنى ( عن ) أي بَعُد عنه أو بُعداً عنه .
على أنه يجوز أن تؤوّل ( هيهات ) مرة بالفعل وهو الغالب ومرة بالمصدر فتكون اسم مصدر مبنياً جامداً غير مشتق . ويكون الإخبار بها كالإخبار بالمصدر ، وهو الوجه الذي سلكه الزجاج في تفسير هذه الآية ويشير كلام الزمخشري إلى اختياره .
وجاء هنا فعل { توعدون } من ( أوعد ) وجاء قبله فعل { أيَعِدكم } وهو من ( وَعَدَ ) مع أن الموعود به شيء واحد . قال الشيخ ابن عرفة : لأن الأول : راجع إليهم في حال وجودهم فجعل وعداً ، والثاني راجع إلى حالتهم بعد الموت والانعدام فناسب التعبير عنه بالوعيد اه .
وأقول : أحسن من هذا أنه عبَّر مرة بالوعد ومرة بالوعيد على وجه الاحتباك ، فإن إعلامهم بالبعث مشتمل على وعد بالخير إن صدّقوا وعلى وعيد إن كذّبوا ، فذكر الفعلان على التوزيع إيجازاً .