قوله : «هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ » . «هَيْهَاتَ » اسم فعل{[32695]} معناه : بَعُدَ ، وكُرر للتوكيد وليست المسألة من التنازع ، قال جرير :
فَهَيْهَات هَيْهَاتَ العقيقُ وأهلهُ *** وهَيْهَاتَ خِلٌّ بالعقيقِ نُوَاصِلُه{[32696]}
وفسره الزجاج في عبارته بالمصدر ، فقال : البُعْدُ لِمَا تُوعَدُونَ{[32697]} ، أو بُعْدٌ لِمَا تُوعَدُون{[32698]} فظاهرها أنه مصدر بدليل عطف الفعل عليه ، ويمكن أن يكون فسّر المعنى فقط .
و «هَيْهَات » اسم لفعل قاصر{[32699]} برفع الفاعل{[32700]} ، وهنا قد جاء ما ظاهره الفاعل مجروراً باللام فمنهم من جعله على ظاهره وقال «مَا تُوعدُون » فاعل به ، وزيدت فيه اللام التقدير : بَعُدَ بَعُدَ ما تُوعدُون{[32701]} ، وهو ضعيف : إذ لم يعهد زيادتها في الفاعل . ومنهم من جعل الفاعل مضمراً لدلالة{[32702]} الكلام عليه ، فقدره أبو البقاء : هيهات التصديق ، أو : الصحة لما توعدون{[32703]} . وقدّره غيره : بَعُدَ إخْرَاجُكُم{[32704]} . و ( لِمَا تُوعَدُونَ ) للبيان ، قال الزمخشري : لبيان المستبعد ما هو بعد التصويت بكلمة الاستبعاد كما جاءت اللام في «هَيْتَ لَكَ »{[32705]} لبيان المهيت به{[32706]} . وقال الزجاج : «البُعْدُ لِمَا تُوعَدُونَ »{[32707]} فجعله مبتدأ والجار بعد الخبر . قال{[32708]} الزمخشري : فإن قُلْتَ : ( مَا تُوعَدُونَ ) هو المستبعد ، فمن حقه أن يرتفع ب «هَيْهَاتَ » كما ارتفع بقوله :
هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ العَقِيقُ وأَهْلُه{[32709]} *** . . .
فما هذه اللام ؟ قُلتُ : قال الزجاج في تفسيره : البعْدُ لِمَا تُوعدُونَ أو بُعْدٌ لِمَا تُوعَدُونَ فيمن{[32710]} نَوّن ، فنزّله منزلة المصدر{[32711]} . قال أبو حيان : وقول{[32712]} الزمخشري ( فمن نَوّنه نزّله منزلة المصدر ) ليس بواضح ، لأنهم قد نَوّنُوا أسماء الأفعال ولا نقول : إنها إذا نُوّنت تنزلت منزلة المصادر{[32713]} . قال شهاب الدين : الزمخشري لم يقل كذا ، إنما قال : فيمن نَوَّن نزله منزلة المصدر لأجل قوله : أو بُعْد ، فالتنوين علة لتقديره إياه نكرة لا لكونه منزلاً منزلة المصدر ، فإنّ أسماء الأفعال ما نُوّن منها نكرة ، وما لم يُنوّن معرفة نحو : صَهْ وصَهٍ يقدر الأول بالسكوت ، والثاني بسكوت ما{[32714]} .
وقال ابن عطية : طوراً تلي الفاعل دون لام ، تقول : هيهات مجيء زيد أي : بَعُدَ ، وأحياناً يكون الفاعل محذوفاً عند اللام ، كهذه الآية ، والتقدير : بَعُدَ الوجودُ لمَا تُوعَدُونَ{[32715]} . ولم يستجيده أبو حيان من حيث قوله : حذف الفاعل ، والفاعل لا يحذف ، ومن حيث إنّ فيه حذف المصدر ، وهو الموجود ، وإبقاء معموله وهو «لِمَا تُوعَدُون »{[32716]} و «هَيْهَاتَ » الثاني تأكيد للأول تأكيداً لفظياً ، وقد جاء غير مؤكد كقوله{[32717]} :
هَيْهَاتَ مَنْزِلُنَا بِنَعْفِ سُوَيْقَةٍ *** كانت مُبَارَكَةً على الأَيَّامِ{[32718]}
هَيْهَاتَ نَاسٌ مِنْ أُنَاس دِيَارُهُمْ *** دُقَاق ودَارُ الآخِرِينَ الأَوَائِنُ{[32719]}
هَيْهَاتَ مِن مُنْخَرِقٍ هَيْهَاؤُه{[32720]} *** . . .
قال القيسي{[32721]} شارح أبيات الإيضاح : وهذا مثل قولك : «بَعُدَ بُعْدَهُ » وذلك أَنَّه بَنَى من هذه اللفظة ( فَعْلاَلاً ) فجاء به مجيء القَلْقَال{[32722]} والزلزَال . والألف في «هَيْهَاتَ » غير الألف في ( هَيْهَاؤُه ) ، وهي في «هَيْهَاتَ » لام الفعل الثانية كقاف الحَقْحَقَة{[32723]} الثانية ، وهي في ( هَيْهَاؤُه ) ألف الفعلال الزائدة{[32724]} . وفي هذه اللفظة لغات كثيرة تزيد على الأربعين ، ذكر منها الصَّاغَانِي{[32725]} ستة وثلاثين لغة ، وهي : ( هَيْهَاتَ ) ، وأَيْهَاتَ ، وهَيْهَانَ ، وأَيْهَانَ وهَيْهَاه{[32726]} ، وأَيْهَاه{[32727]} كل واحد من هذه الستة مضمومة الآخرة ومفتوحته ، ومكسورته ، وكل واحدةٍ منها منوّنة وغير منوّنة ، فتكون ستًّا وثلاثين{[32728]} . وحكى غيره : هَيْهَاك{[32729]} ، وأَيْهَاكَ - بكاف الخطاب - ، وأَيْهاء ، وأَيْهَا ، وهَيْهَاء{[32730]} ، فأمّا المشهور ما قرئ به . فالمشهور «هَيْهَات » بفتح التاء من غير تنوين بُني لوقوعه موقع المبني ، أو لشبهه بالحرف{[32731]} ، وتقدم تحقيق ذلك وبها قرأ العامة{[32732]} وهي لغة أهل الحجاز{[32733]} . و «هَيْهَاتاً » بالفتح والتنوين ، وبها قرأ أبو عمرو في رواية هارون عنه ونسبها ابن عطية{[32734]} لخالد بن إلياس {[32735]} .
و «هَيْهَاتٌ » بالضم والتنوين وبها قرأ الأحمر{[32736]} وأبو حيوة{[32737]} . وبالضم من غير تنوين ، ويروى عن أبي حيوة أيضاً{[32738]} ، فعنه فيها وجهان وافقه أبو السمال في الأولى دون الثانية {[32739]} .
و «هَيْهَاتٍ » بالكسر والتنوين ، وبها قرأ عيسى وخالد بن إلياس{[32740]} . وبالكسر من غير تنوين ، وهي قراءة أبي جعفر وشيبة ، وتُروى عن عيسى أيضاً{[32741]} وهي لغة تميم وأسد {[32742]} .
و «هَيْهَاتْ » بإسكان التاء ، وبها قرأ عيسى بن عمر الهمداني{[32743]} أيضاً وخارجة{[32744]} عن أبي عمرو والأعرج{[32745]} . و «هَيْهَاه » بالهاء آخراً وصلاً ووقفاً . و «أيْهَاتَ » بإبدال الهاء همزة مع فتح التاء ، وبهاتين قرأ بعض القراء فيما نقل أبو البقاء{[32746]} . فهذه تسع لغات قد قرئ بهنّ لم يتواتر منها غير الأولى . ويجوز إبدال الهمزة من الهاء الأولى{[32747]} في جميع ما تقدم فيكمل بذلك ست عشرة لغة . و «أَيْهَان » بالنون آخراً . و «أَيْهَا » بألف آخراً .
فمن فتح التاء قالوا : فهي عنده اسم مفرد ، ومن كسرها فهي عنده جمع تأنيث كزَيْنَبَات وهِنْدَات . ويُعْزَى هذا لسيبويه ، لأنه قال : هي مثل بَيْضَات{[32748]} ، فنسب إليه أنه جمع من ذلك ، حتى قال بعض النحويين : مفردها ( هَيْهَة ) {[32749]} مثل بَيْضَة .
وليس بشيء بل مفردها ( هَيْهَاتَ ) .
قالوا{[32750]} : وكان يبغي على أصله أن يقال فيها : ( هَيْهَيَات ) بقلب ألف ( هَيْهَاتَ ) ياء ، لزيادتها على الأربعة نحو : مَلْهَيَات ، ومَغْزَيات ، ومَرْمَيات{[32751]} ، لأنها من بنات الأربعة المضعّفة من الياء من باب حَاحَيْتَ وصِيْصِية{[32752]} ، وأصلها بوزن القَلْقلة والحَقْحَقَة فانقلبت الياء ألفاً لتحركها وانفتاح ما قبلها ، فصارت : هَيْهَاة كالسلْقَاة والجَعْبَاة . وإن كانت الياء التي انقلبت عنها ألف سلْقَاة وجَعْبَاة زائدة ، وياء هَيْهية أصلاً ، فلما جمعت كان قياسها على قولهم : أَرْطَيَاتٍ وعَلْقَيَاتٍ{[32753]} أن يقولوا فيها : ( هَيْهَياتٍ ) ، إلاّ أنهم حذفوا الألف لالتقاء الساكنين لمّا كانت في آخر اسم مبني كما حذفُوها في ( ذان ) ، و ( اللَّتان ) و ( تان ) : ليفصلوا بين الألفات في أواخر المبنية ، والألفات في أواخر المتمكنة ، وعلى هذا حذفوها في أولات وذَوَات ، لتخالف ياء حَصَيات ونَوَيات{[32754]} . وقالوا : من فتح تاء ( هَيْهَاتَ ) فحقه أن يكتبها هاء ، لأنها في مفرد كتَمْرة ونَواة ، ومن كسرها فحقه أن يكتبها تاء{[32755]} ، لأنها{[32756]} في جمع كهِنْدَات{[32757]} ، وكذلك حكم الوقف سواء ، ولا التفات إلى لغة : كيف الإخوهْ والأخواهْ ، ولا هذه ثمرت ، لقلتها{[32758]} ، وقد رسمت في المصحف بالهاء .
واختلف القراء في الوقف عليها ، فمنهم من اتبع الرسم فوقف بالهاء وهما الكسائي والبزيّ{[32759]} عن ابن كثير . ومنهم من وقف بالتاء وهم الباقون{[32760]} . وكان ينبغي أن يكون الأكثر على الوقف بالهاء لوجهين :
والثاني{[32761]} : أنهم قالوا : المفتوح اسم مفرد أصله هَيْهَيَة كَوَلولة وقَلْقَلة في{[32762]} مضاعف الرباعي ، وقد تقدم أن المفرد يوقف على تاء تأنيثه بالهاء . وأمّا التنوين{[32763]} فهو على قاعدة تنوين أسماء الأفعال دخوله دال على التنكير ، وخروجه دال على التعريف{[32764]} .
قال القيسي : من نَوّن اعتقد تنكيرها ، وتصوَّرَ معنى المصدر النكرة ، كأنه قال : بُعْداً بُعْداً . ومن لم يُنوّن اعتقد تعريفها ، وتصوَّر معنى المصدر المعرفة ، كأنه قال : البُعْدُ البُعْدُ فجعل التنوين دليل التنكير وعدمه دليل التعريف{[32765]} انتهى .
ولا يوجد تنوين التنكير إلا في نوعين : أسماء الأفعال وأسماء الأصوات ( نحو صَهْ وصَهٍ ، وبَخْ وبَخٍ ، والعلم المختوم ب ( ويه ) ) {[32766]} نحو سيبويهِ وسيبويهٍ ، وليس بقياس بمعنى : أنه ليس لك أن{[32767]} تنوّن منها ما شئت بل ما سمع تنوينه اعتقد تنكيره{[32768]} . والذي يقال في القراءات المتقدمة : إنّ من نوّن جعله للتنكير كما تقدم . ومن لم ينوّن جعل عدم التنوين للتعريف . ومن فتح فللخفةِ وللاتباع . ومن كسر فعلى أصل التقاء الساكنين ، ومن ضم فتشبيهاً بقَبْل وبَعْد . ومن سَكّن فلأنّ أصل البناء السكون . ومن وقف بالهاء فاتباعاً للرسم ، ومن وقف بالتاء فعلى الأصل سواء كُسرت التاء أو فتحت ، لأنّ الظاهر أنهما سواء ، وإنما ذلك من تغيير اللغات وإن كان المنقول عن مذهب سيبويه{[32769]} ما تقدم .
هكذا ينبغي أن تعلل القراءات المتقدمة . وقال ابن عطية فيمن ضم ونوّن{[32770]} : إنه اسم معرب مستقل مرفوع بالابتداء ، وخبره «لِمَا تُوعدُونَ » أي : البُعْد لوعدكم{[32771]} ، كما تقول : النجح لسعيك {[32772]} .
وقال الرازي في اللوامح : فأمَّا مَنْ رَفَعَ وَنَوَّنَ احتمل أن يكونا{[32773]} اسمين{[32774]} متمكنين مرفوعين ، خبرهما من حروف الجر بمعنى : البُعْدُ لِمَا تُوعَدُونَ ، والتكرار للتأكيد ، ويجوز أن يكونا اسماً للفعل ، والضم للبناء مثل : حُوبُ{[32775]} في زجر الإبل لكنه نَوّنه ( لكونه ) {[32776]} نكرة {[32777]} .
قال شهاب الدين : وكان ينبغي لابن عطية وأبي{[32778]} الفضل أن يجعلاه اسماً أيضاً في حالة النصب مع التنوين على أنه مصدر واقع موقع الفعل{[32779]} وقرأ ابن أبي عبلة : { هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ مَا تُوعَدُونَ } من غير لام جر{[32780]} . وهي واضحة ، مؤيدة لمدعي زيادتها في قراءة العامة{[32781]} . و «ما » في «لِمَا تُوعَدُونَ » تحتمل المصدرية ، أي : لوعدكم ، وأن تكون بمعنى الذي ، والعائد محذوف ، أي : توعدونه .