الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{۞هَيۡهَاتَ هَيۡهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ} (36)

قوله : { هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ } : اسمُ فعلٍ معناه : بَعُدَ ، وكُرِّر للتوكيدِ ، فليسَتِ المسألةُ من التنازعِ . قال جرير :

فهيهاتَ هيهاتَ العَقيقُ وأهلُه *** وهيهاتَ خِلٌّ بالعقيقِ نُواصِلُهْ

وفَسَّره الزجَّاجُ في ظاهر عبارتِه بالمصدرِ فقال : " البُعْدُ لِما تُوعدون ، أو بَعُدَ لِما توعدون " . فظاهرُها أنَّه مصدرٌ بدليلِ عَطْفِ الفعل عليه . ويمكنُ أَنْ يكونَ فَسَّر المعنى فقط . و " هيهاتَ " اسمُ فعلٍ قاصرٍ يرفعُ الفاعلَ ، وهنا قد جاء ما ظاهرُه الفاعلُ مجروراً باللامِ : فمنهم مَنْ جعله على ظاهِره وقال : " ما توعدون " فاعلٌ به ، وزِيْدت فيه اللامُ . التقديرُ : بَعُدَ بَعُدَ ما تُوْعَدُون . وهو ضعيفٌ إذ لم يُعْهَدْ زيادتُها في الفاعلِ . ومنهم مَنْ جَعَل الفاعلَ مضمراً لدلالةِ الكلامِ عليه ، فقَدَّره أبو البقاء : " هيهاتَ التصديقُ أو الصحةُ لِما تُوْعَدون " . وقدَّره غيرُه : بَعُدَ إخراجُكم ، و " لِما تُوْعدون " للبيانِ . قال/ الزمخشريُّ : " لبيانِ المُسْتَبْعَدِ ما هو بَعْدَ التصويبِ بكلمةِ الاستبعادِ ؟ كما جاءَتِ اللامُ في { هَيْتَ لَكَ } [ يوسف : 23 ] لبيانِ المُهَيَّتِ به " . وقال الزجاج : " البُعْدُ لِما تُوعدون " فجعله مبتدأً ، والجارُّ بعدَه الخبرُ . قال الزمخشري : " فإنْ قلت : ما تُوعدون هو المستبعَدُ ، ومِنْ حَقِّه أَنْ يرتفع ب " هيهاتَ " كما ارتفع بقولِه :

فهيهاتَ هيهاتَ العَقيقُ وأهلُه *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

فما هذه اللام ؟ قلت : قال الزجاجُ في تفسيرِه : " البُعْدُ لِما تُوْعَدون ، أو بُعْدٌ لِما تُوْعَدون فيمَنْ نَوَّن فَنَزَّلَه مَنْزِلَةَ المصدر " . قال الشيخ : " وقولُ الزمخشري : فَمَنْ نَوَّنَه نَزَّله منزلةَ المصدرِ ، ليس بواضحٍ ، لأنهم قد نَوَّنوا أسماءَ الأفعال ولا نقول : إنها إذا نُوِّنَتْ تَنَزَّلَتْ منزلةَ المصادر " . قلت : الزمخشريُّ لم يَقُل كذا ، إنما قال فيمن نَوَّن نَزَّله منزلةَ المصدرِ لأجلِ قولِه : " أو بُعْدٌ " فالتنوينُ علةٌ لتقديره إياه نكرةً لا لكونِه مُنَزَّلاً منزلةَ المصدرِ ؛ فإنَّ أسماءَ الأفعال ما نُوِّن منها نكرةٌ ، وما لم يُنَوَّنْ معرفةٌ نحو : صَهْ وصَهٍ ، تقديرُ الأول بالسكوت ، والثاني بسكوتٍ ما .

وقال ابن عطية : " طَوْراً تلي الفاعلَ دون لامٍ ، تقول : هيهات مجيءُ زيدٍ أي : بَعُدَ ، وأحياناً يكون الفاعلُ محذوفاً عند اللام كهذه الآيةِ . التقديرُ : بَعُدَ الوجودُ لِما تُوْعدون " . ولم يَسْتَجْوِزْه الشيخُ ومن حيث قولُه حُذِفَ الفاعلُ ، والفاعلُ لا يُحْذَفُ . ومن حيث إن فيه حَذْفَ المصدرِ وهو الوجودُ وإبقاءَ معمولِه وهو " لِما تُوعدون " . وهيهاتَ الثاني تأكيدٌ للأولِ تأكيداً لفظياً . وقد جاء غيرَ مؤكَّدٍ كقوله :

هيهات مَنْزِلُنا بنَعْفِ سُوَيْقَةٍ *** كانت مباركةً على الأيام

وقال آخر :

هيهاتَ ناسٌ مِنْ أُناسٍ ديارُهُمْ *** دُقاقٌ ودارُ الآخرين الأوانسُ

وقال رؤبة :

هيهاتَ مِنْ مُنْخَرِقٍ هَيْهاؤه ***

قال القيسي شارحُ " أبيات الإِيضاح " : " وهذا مِثْلُ قولِك : بَعُدَ بُعْدُه ؛ وذلك أنه بنى من هذه اللفظةِ فَعْلالاً ، فجاء به مجيءَ القَلْقَال والزَّلْزال .

والألفُ في " هيهات " غيرُ الألفِ في " هيهاؤه " ، وهي في " هيهات " لامُ الفعلِ الثانيةُ كقاف الحَقْحَقَة الثانية ، وهي في " هيهاؤه " ألف الفَعْلال الزائدة " .

وفي هذه اللفظةِ لغاتٌ كثيرةٌ تزيد على الأربعين ، وأذكر هنا مشهورَها وما قُرِىء به : فالمشهورُ هَيْهات بفتح التاءِ من غيرِ تنوينٍ ، بُني لوقوعِه موقعَ المبنيِّ أو لشِبْهِه بالحرفِ وقد تقدَّم تحقيق ذلك . وبها قرأ العامَّةُ وهي لغة الحجازيين . و " هَيْهاتاً " بالفتح والتنوين ، وبها قرأ أبو عمروٍ في روايةِ هارون عنه . ونسبها ابن عطية لخالد بن إلياس . و " هَيْهاتٌ " بالضمِّ والتنوين وبها قرأ الأحمر وأبو حيوة . وبالضم من غير تنوين ، وتُرْوى عن أبي حيوةَ أيضاً ، فعنه فيها وجهان ، وافقه أبو السَّمَّال في الأول دونَ الثانية .

و " هَيْهاتٍ " بالكسر والتنوين ، وبها قرأ عيسى وخالد بن إلياس ، وبالكسرِ من غير تنوين ، وهي قرءاةُ أبي جعفرٍِ وشَيْبة ، وتروى عن عيسى أيضاً ، وهي لغة تميم وأسد . وهَيْهاتْ بإسكانِ التاء ، وبها قرأ عيسى أيضاً وخارجة عن أبي عمرو والأعرج . وهَيْهاهْ " بالهاء آخراً وصلاً ووَقْفاً . و " أَيْهاتَ " بإبدال الهاء همزة مع فتح التاء ، وبهاتين قرأ بعضُ القرَّاء فيما نقل أبو البقاء . فهذه تسعُ لغاتٍ قد قُرِىء بهن ، ولم يتواتَرْ منها غيرُ الأولى .

ويجوز إبدالُ الهمزةِ من الهاء الأولى في جميعِ ما تقدَّم فيَكْمُل بذلك ستَ عشرةَ لغةً . و " إيهان " بالنون آخراً ، و " أَيْهَى " بالألفِ آخراً . فَمَنْ فَتَح التاءَ قالوا فهي عنده اسم مفرد . ومَنْ كسرها فهي عنده جمعٌ تأنيثٍ كزَيْنبات وهنِْدات ويُعْزى هذا لسيبويه لأنه قال : " هي مثل بَيْضات " فنُسِب إليه أنه جَمْعٌ مِنْ ذلك ، حتى قال بعض النحويين : مفردُها هَيْهَة مثل بَيْضَة . وليس بشيءٍ بل مفردُها هَيْهات قالوا : وكان ينبغي على أصلِه أن يُقال فيها : هَيْهَيَات بقلب ألف هَيْهات ياءً لزيادتِها على الأربعة نحو : مَلْهَيات ومَغْوَيَات ومَرْمَيات ؛ لأنها من بناتِ الأربعة المضعَّفة من الياء من باب حاحَيْت وصِيصِيَة . وأصلُها بوزنِ القَلْقَلة والحَقْحَقَةُ/ فانقلبت الياءُ ألفاً لتحرُّكِها وانفتاحِ ما قبلَها فصارَتْ هَيْهاة كالسَّلْقاة والجَعْباة ، وإنْ كانت الياءُ التي انقلبَتْ عنها ألفُ " سَلْقاة " و " جَعْباة " زائدةً ، وياء هَيْهَيَة أصلاً ، فلمَّا جُمِعت كان قِياسُها على قولِهم أَرْطَيات وعَلْقيات أن يقلولوا فيها هَيْهَيَات ، إلاَّ أنهم حَذَفوا الألف لالتقاء الساكنين لما كانت في آخر اسمٍ مبنيٍّ ، كما حَذَفوها في ذان واللتان وتان ليَفْصِلوا بين الألفاتِ في أواخر المبنية والألفات في أواخر المتمكنة ، وعلى هذا حذفوها في أُوْلات وذوات لتخالِفَ ياء " حَصَيَات " و " نَوَيات " .

وقالوا : مَنْ فتح تاء " هيهات " فحقُّه أَنْ يكتبَها هاء لأنها في مفرد كتمرة ونواة . ومَنْ كسرها فَحَقُّه أَنْ يكتبَها تاءً لأنها في جمعٍ كهندات . وكذلك حكمُ الوقفِ سواءٌ . ولا التفاتَ إلى لغة " كيف الإِخوةُ والأخَواهْ " ولا " هذه ثَمَرَتْ " لقلَّتِها . وقد رُسِمَتْ في المصحفِ بالهاء .

واختلف القراءُ في الوقفِ عليها : فمنهم مَنْ اتَّبع الرسمَ فَوَقَفَ بالهاءِ وهما الكسائيُّ والبزيُّ عن ابن كثير . ومنهم مَنْ وَقَفَ بالتاءِ ، وهم الباقونَ . وكان ينبغي أَنْ يكونَ الأكثرُ على الوقفِ بالهاءِ لوجهين ، أحدُهما : موافقةُ الرسمِ . والثاني : أنهم قالوا : المفتوح اسمٌ مفردٌ أصله هَيْهَيَة كزَلْزَلة وقَلْقَلَة من مضاعفِ الرُّباعي . وقد تقدَّم : أنَّ المفردَ يُوقف على تاء تأنيثِه بالهاء .

وأمَّا التنوينُ فهو على قاعدةِ تنوينِ أسماء الأفعال : دخولُه دالٌّ على التنكيرِ ، وخروجُه دالٌّ على التعريف . قال القَيْسِيُّ : " مَنْ نَوَّن اعتقد تنكيرَها وتَصَوَّر معنى المصدرِ النكرةِ كِأنه قال : بُعْداً بُعْداً . ومَنْ لم ينوِّنْ اعتقد تعريفَها وتَصَوَّر معنى المصدرِ المعرفةِ كأنه قال : البُعْدَ البُعْدَ فجعل التنوينَ دليلَ التنكيرِ وعدمَه دليلَ التعريفِ " . انتهى . ولا يُوجد تنوينُ التنكير إلاَّ في نوعين : أسماءِ الأفعال وأسماءِ الأصوات نحو : سيبويهِ وسيبويهٍ ، وليس بقياسٍ : بمعنى أنه ليس لك أَنْ تُنَوِّن منها ما شِئْتَ بل ما سُمِع تنوينُه اعَتُقِد تنكيرُه . والذي يُقال في القراءاتِ المتقدمةِ : إنَّ مَنْ نَوَّن جعله للتنكيرِ كما تقدَّمَ ، ومَنْ لم يُنَوِّنْ جَعَلَ عدَم التنوينَ للتعريفِ . ومَنْ فَتَحَ فللخِفَّةِ وللإِتْباع ، ومَنْ كَسَرَ فعلى أصلِ التقاءِ الساكنين ، ومن ضم فتشبيهاً بقبلُ وبعدُ ، ومَنْ سَكَّن فلأنَّ أصلَ البناءِ السكونُ ، ومَنْ وقف بالهاءِ فإتْباعاً للرسم ، ومن وقف بالتاءِ فعلى الأصلِ سواءً كُسِرت التاءُ أو فُتحت ؛ لأنَّ الظاهرَ أنهما سواءٌ ، وإنما ذلك مِنْ تغييرِ اللغاتِ ، وإن كان المنقولُ مِنْ مذهب سيبويه ما تقدَّم . هكذا ينبغي أن تُعَلَّل القراءاتُ المتقدمةُ .

وقال ابنُ عطية فيمَنْ ضَمَّ ونَوَّن : " إنه اسمٌ معربٌ مستقلٌ مرفوعٌ بالابتداءِ ، وخبرُه " لِما تُوْعَدون " أي : البعدُ لوعدكم كما تقول : النُّجح لسَعْيك " . وقال الرازي في " اللوامح " : " فأمَّا مَنْ رَفع ونَوَّنَ احتمل أَنْ يكونا اسمين متمكنين مرفوعين [ بالابتداء ] ، خبرُهما من حروف الجر بمعنى : البُعْدُ لِما تُوعدون . والتكرارُ للتأكيد . ويجوز أَنْ يكونا اسماً للفعل . والضمُّ للبناء مثل : حَوْبُ في زَجْرِ الإِبل ، لكنه نَوَّنه نكرةً " . قلت : وكان ينبغي لابنِ عطيةَ ولأبي الفضل أن يَجْعلاه اسماً أيضاً في حالةِ النصبِ مع التنوين ، على أنه مصدرٌ واقعٌ موقعَ الفعلِ .

قرأ ابنُ أبي عبلةَ " هَيْهات هَيْهات ما تُوْعدون " من غير لامِ جرٍّ . وهي واضحةٌ مؤيِّدَةٌ لمدَّعي زيادتِها في قراءةِ العامَّة .

و " ما " في " لِما تُوْعدون " تحتمل المصدريةَ أي : لِوَعْدِكم ، وأَنْ تكونَ بمعنى الذي ، / والعائدُ محذوفٌ أي : تُوْعَدُوْنَه .