هذا مثل ضربه الله تعالى للمشركين في اتخاذهم آلهة من دون الله ، يرجون نصرهم ورزقهم ، ويتمسكون بهم في الشدائد ، فهم في ذلك كبيت العنكبوت في ضعفه ووهنه{[22591]} فليس في أيدي هؤلاء من آلهتهم إلا كمَنْ يتمسك ببيت العنكبوت ، فإنه لا يجدي عنه شيئا ، فلو عَلموا هذا الحال لما اتخذوا من دون الله أولياء ، وهذا بخلاف المسلم المؤمن قلبه لله ، وهو مع ذلك يحسن العمل في اتباع الشرع فإنه مستمسك{[22592]} بالعروة الوثقى لا انفصام لها ، لقوتها وثباتها .
ثم قال تعالى متوعدا لِمَنْ عبد غيره وأشرك به : إنه تعالى يعلم ما هم عليه من الأعمال ، ويعلم ما يشركون به من الأنداد ، وسيجزيهم وصفهم إنه حكيم عليم .
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَتِلْكَ الأمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَآ إِلاّ الْعَالِمُونَ } .
اختلف القرّاء في قراءة قوله : إنّ اللّهَ يَعْلَمُ ما يدْعُونَ فقرأته عامة قرّاء الأمصار «تَدْعُونَ » بالتاء بمعنى الخطاب لمشركي قريش إنّ اللّهَ أيها الناس «يَعْلَمُ ما تَدْعُونَ إلَيْهِ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ » . وقرأ ذلك أبو عمرو : إنّ اللّهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ بالياء بمعنى الخبر عن الأمم ، إن الله يعلم ما يدعو هؤلاء الذين أهلكناهم من الأمم من دونه من شيء .
والصواب من القراءة في ذلك عندنا ، قراءة من قرأ بالتاء ، لأن ذلك لو كان خبرا عن الأمم الذين ذكر الله أنه أهلكهم ، لكان الكلام : إن الله يعلم ما كانوا يدعون ، لأن القوم في حال نزول هذا الخبر على نبيّ الله لم يكونوا موجودين ، إذ كانوا قد هلكوا فبادوا ، وإنما يقال : إن الله يعلم ما تدعون إذا أريد به الخبر عن موجودين ، لا عمن قد هلك .
فتأويل الكلام إذ كان الأمر كما وصفنا : إن الله يعلم أيها القوم حال ما تعبدون من دونه من شيء ، وأن ذلك لا ينفعكم ولا يضرّكم ، إن أراد الله بكم سوءا ، ولا يغني عنكم شيئا وإن مثله في قلة غنائه عنكم ، مَثَلُ بيت العنكبوت في غنَائه عنها .
وقوله : وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ يقول : والله العزيز في انتقامه ممن كفر به ، وأشرك في عبادته معه غيره فاتقوا أيها المشركون به عقابه بالإيمان به قبل نزوله بكم ، كما نزل بالأمم الذين قصّ الله قصصهم في هذه السورة عليكم ، فإنه إن نزل بكم عقابُه لم تغن عنكم أولياؤكم الذين اتخذتموهم من دونه أولياء ، كما لم يُغْنِ عنهم من قبلكم أولياؤهم الذين اتخذوهم من دونه ، الحكيم في تدبيره خلقه ، فمُهلك من استوجب الهلاك في الحال التي هلاكه صلاح ، والمؤخر من أخّر هلاكه من كفرة خلقه به إلى الحين الذي في هلاكه الصلاح .
{ إن الله يعلم ما تدعون من دونه من شيء } على إضمار القول أي قل للكفرة إن الله يعلم ، وقرأ البصريان بالياء حملا على ما قبله و { ما } استفهامية منصوبة ب { تدعون } و{ يعلم } معلقة عنها و{ من } للتبيين أو نافية و { من } مزيدة و { شيء } مفعول { تدعون } أو مصدرية و { شيء } مصدر أو موصولة مفعول ليعلم ومفعول { تدعون } عائدها المحذوف ، والكلام على الأولين تجهيل لهم وتوكيد للمثل وعلى الأخيرين وعيد لهم . { وهو العزيز الحكيم } تعليل على المعنيين فإن من فرط الغباوة إشراك ما لا يعد شيئا بمن هذا شأنه ، وأن الجماد بالإضافة إلى القادر القاهر على كل شيء البالغ في العلم وإتقان الفعل الغاية كالمعدوم ، وأن من هذا وصفه قادر على مجازاتهم .
لما نفى عنهم العلم بما تضمنه التمثيل من حقارة أصنامهم التي يعبدونها وقلة جدواها بقوله { لو كانوا يعلمون } [ العنكبوت : 41 ] المفيد أنهم لا يعلمون ، أعقبه بإعلامهم بعلمه بدقائق أحوال تلك الأصنام على اختلافها واختلاف معتقدات القبائل التي عبدتها ، وأن من آثار علمه بها ضرب ذلك المثل لحال من عبدوها وحالها أيضاً دفعاً بهم إلى أن يتهموا عقولهم وأن عليهم النظر من حقائق الأشياء تعريضاً بقصور علمهم كقوله تعالى { والله يعلم وأنتم لا تعلمون } [ البقرة : 216 ] ، فهذا توقيف لهم على تفريطهم في علم حقائق الأمور التي عَلِمها الله وأبلغهم دلائلها النظرية ونظائرها التاريخية ، وقربها إليهم بالتمثيلات الحسية فعموا وصموا عن هذا وذاك .
و { ما } من قوله { ما تدعون } يجوز أن تكون نافية معلِّقة فعل { يعلم } عن العمل ، وتكون { من } زائدة لتوكيد النفي ، ومجرورها مفعول في المعنى ل { تدعون } ظهرت عليه حركة حرف الجر الزائد . ومعنى الكلام : أن الله يعلم أنكم لا تدعون موجوداً ولكنكم تدعون أموراً عدمية ، ففيه تحقير لأصنامهم بجعلها كالعدم لأنها خلو عن جميع الصفات اللائقة بالإلهية . فهي في بابها كالعدم فلما شابهت المعدومات في انتفاء الفائدة المزعومة لها استعمل لها التركيب الدال على نفي الوجود على طريقة التمثيلية . ولا يتوهم السامع أن المراد نفيُ أن يكونوا قد دعوا أولياء من دون الله ، لأن سياق الكلام سابقه ولاحقه يأباه وهذا كقوله تعالى { ليست النصارى على شيء } في سورة البقرة ( 113 ) ، و { لستم على شيء } في سورة المائدة ( 68 ) ، وكقول النبي صلى الله عليه وسلم لما سُئل عن الكهان : إنهم ليسوا بشيء ، أي ليسوا بشيء فيما يدعونه من معرفة الغيب .
وحاصل المعنى : أن من علمه تعالى بأنها موجودات كالعدم ضرَبَ لها مثلاً ببيت العنكبوت ولعبدتها مثلاً بالعنكبوت الذي اتخذها ، وعلى هذا الوجه فالكلام صريح في إبطال إلهية الأصنام وفي أنها كالعدم .
ويجوز أن تكون { ما } استفهامية معلِّقة فعل { يعلم } عن العمل من باب قولهم : علمت هل زيد قائم ، أي علمت جوابه . و { من } بيانية لما في { ما } الاستفهامية من الإبهام ، أي من شيء من المدعوات العديدة في الأمم . ففيه تعريض بأن المشركين لا يعلمون جواب سؤال السائل « ما تدعون من دون الله » ، أي قد علم الله ذلك ، ومن علمه بذلك أنه ضرب لهم المثل بالعنكبوت اتخذت بيتاً ، وللمعبودات مثلاً ببيت العنكبوت ، وأنتم لو سئلتم : ما تدعون من دون الله ، لتلعثمتم ولم تحيروا جواباً ؛ فإن شأن العقائد الباطلة والأفهام السقيمة أن لا يستطيع صاحبها بيانها بالقول وشرحها ، لأنها لما كانت تتألف من تصديقات غير متلائمة لا يستطيع صاحبها تقريرها فلا يلبث قليلاً حتى يفتضح فاسد معتقده من تعذر إفصاحه عنه .
وجعل بعض المفسرين { يعلم } هنا متعدياً إلى مفعول واحد وأنه بمعنى ( يعرف ) وجعل { ما } موصولة مفعول { يدعون } والعائذ محذوفاً ، ويعكر عليه أن إسناد العلم بمعنى المعرفة وهو المتعدي إلى مفعول واحد إلى الله يؤول إلى إسناد فعل المعرفة إلى الله بناء على إثبات الفرق بين فعل ( علم ) وفعل ( عرف ) عند من فسر المعرفة بإدراك الشيء بواسطة آثاره وخصائصه المحسوسة ، وأنها أضعف من العلم لأن العلم شاع في معرفة حقائق الأشياء ونسبها .
وعن الخليل بن أحمد{[311]} « العلم معرفتان مجتمعان » ، ففي قولك : عرفت زيداً قائماً ، يكون ( قائماً ) حالاً من ( زيداً ) ، وفي قولك : علمت زيداً قائماً ، يكون ( قائماً ) مفعولاً ثانياً ل ( علمت ) اه . يريد أن فعل ( عرف ) يدل على إدراك واحد وهو إدراك الذات ، وفعل ( علم ) يدل على إدراكين هما إدراك الذات وإدراك ثبوت حكم لها ، على نحو ما قاله أهل المنطق في التصور والتصديق ، فلذلك لم يرد في الكتاب والسنة إسناد فعل المعرفة إلى الله فكيف يسند إليه ما يؤوَّل بمعناها .
وجملة { وهو العزيز الحكيم } تذييل لجملة { إن الله يعلم } لأن الجملة على كلا المعنيين في معاني { ما } تدل على أن الذي بيَّن حقارة حال الأصنام واختلال عقول عابديها فلم يعبأ بفضحها وكشفها بما يسوءها مع وفرة أتباعها ومع أوهام أنها لا يمسها أحد بسوء إلا كانت ألْباً عليه ؛ فلو كان للأصنام حظ في الإلهية لما سلم من ضرّها من يُحقرها كقوله تعالى { قل لو كان معه ءالهة كما تقولون إذن لابتغوا إلى ذي العرش سبيلاً } [ الإسراء : 42 ] كما تقدم ، وأنه لما فضح عقول عُبادها لم يخشهم على أوليائه بَلْهَ ذاته ، فهو عزيز لا يُغلب ، وحكيم لا تنطلي عليه الأوهام والسفاسط بخلاف حال هاتيك وأولئك .
وقرأ الجمهور { تدعون } بالفوقية على طريقة الالتفات . وقرأه أبو عمرو وعاصم ويعقوب بالتحتية .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{إن الله يعلم ما يدعون من دونه من شيء} يعني الأصنام {وهو العزيز الحكيم} يعني العزيز في ملكه الحكيم في أمره.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
اختلف القرّاء في قراءة قوله:"إنّ اللّهَ يَعْلَمُ ما يدْعُونَ" فقرأته عامة قرّاء الأمصار «تَدْعُونَ» بالتاء بمعنى الخطاب لمشركي قريش "إنّ اللّهَ "أيها الناس «يَعْلَمُ ما تَدْعُونَ إلَيْهِ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ». وقرأ ذلك أبو عمرو: "إنّ اللّهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ" بالياء بمعنى الخبر عن الأمم، إن الله يعلم ما يدعو هؤلاء الذين أهلكناهم من الأمم من دونه من شيء.
والصواب من القراءة في ذلك عندنا، قراءة من قرأ بالتاء، لأن ذلك لو كان خبرا عن الأمم الذين ذكر الله أنه أهلكهم، لكان الكلام: إن الله يعلم ما كانوا يدعون، لأن القوم في حال نزول هذا الخبر على نبيّ الله لم يكونوا موجودين، إذ كانوا قد هلكوا فبادوا، وإنما يقال: إن الله يعلم ما تدعون إذا أريد به الخبر عن موجودين، لا عمن قد هلك.
فتأويل الكلام إذ كان الأمر كما وصفنا: إن الله يعلم أيها القوم حال ما تعبدون من دونه من شيء، وأن ذلك لا ينفعكم ولا يضرّكم، إن أراد الله بكم سوءا، ولا يغني عنكم شيئا وإن مثله في قلة غنائه عنكم، مَثَلُ بيت العنكبوت في غنَائه عنها.
وقوله: "وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ" يقول: والله العزيز في انتقامه ممن كفر به، وأشرك في عبادته معه غيره فاتقوا أيها المشركون به عقابه بالإيمان به قبل نزوله بكم، كما نزل بالأمم الذين قصّ الله قصصهم في هذه السورة عليكم، فإنه إن نزل بكم عقابُه لم تغن عنكم أولياؤكم الذين اتخذتموهم من دونه أولياء، كما لم يُغْنِ عنهم من قبلكم أولياؤهم الذين اتخذوهم من دونه، الحكيم في تدبيره خلقه، فمُهلك من استوجب الهلاك في الحال التي هلاكه صلاح، والمؤخر من أخّر هلاكه من كفرة خلقه به إلى الحين الذي في هلاكه الصلاح.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{إن الله يعلم ما يدعون من دونه من شيء} يقول: إن الله تعالى لم يزل عالما بما يكون منهم من اتخاذهم الأصنام معبودات، وإنه عن علم أنشأهم لا عن غفلة وسهو، لكن أنشأهم لمنافع أنفسهم ولحاجة لهم لا لحاجة ومنفعة له في إنشائه إياهم. وهو ما قال: {إن الله لغني عن العالمين}. [العنكبوت: 6] وقال ههنا: {وهو العزيز الحكيم} العزيز: قيل: أنه المنيع، وقيل: أنه الذي يذّل كل شيء دونه. لكن العزيز عندنا، هو الذي لا يعلو سلطانه شيء، ولا يقهر ملكه شيء، ويعلو سلطانه وإرادته على جميع الأشياء، ويقهرها. والحكيم عندنا، هو الذي لا يلحقه الخطأ في التدبير، والله أعلم.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
هذا توكيد للمثل وزيادة عليه، حيث لم يجعل ما يدعونه شيئاً {وَهُوَ العزيز الحكيم} فيه تجهيل لهم حيث عبدوا ما ليس بشيء؛ لأنه جماد ليس معه مصحح العلم والقدرة أصلاً، وتركوا عبادة القادر القاهر على كل شيء، الحكيم الذي لا يفعل شيئاً إلا بحكمة وتدبير.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
... معناه أن الله يعلم الذين يدعون من دونه من جميع الأشياء أن حالهم هذه وأنهم لا قدرة لهم، وقيل قوله {إن الله يعلم} إخبار تام، وقوله {وهو العزيز الحكيم} متصل به، واعترض بين الكلامين {ما تدعون من دونه من شيء}، وذلك على هذا النحو من النظر يحتمل معنيين؛ أحدهما أن تكون {ما} نافية أي لستم تدعون شيئاً له بال ولا قدر ولا خلاق فيصلح أن يسمى شيئاً وفي هذا تعليق {يعلم} وفيه نظر. الثاني أن تكون {ما} استفهاماً كأنه قرر على جهة التوبيخ على هذا المعبود من جميع الأشياء ما هو إذا لم يكن الله تعالى، أي ليس لهم على هذا التقرير جواب مقنع البتة.
إن كنا نجعل ما خبرية فيكون معناه ما يدعون من شيء فالله يعلمه وهو العزيز الحكيم قادر على إعدامه وإهلاكهم، لكنه حكيم يمهلهم ليكون الهلاك عن بينة والحياة عن بينة، ومن ههنا يكون الخطاب مع أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا لو قال قائل ما وجه تعلق هذه الآية بالتمثيل السابق؟ فنقول لما قال إن مثلهم كمثل العنكبوت، فكان للكافر أن يقول أنا لا أعبد هذه الأوثان التي أتخذها وهي تحت تسخيري، وإنما هي صورة كوكب أنا تحت تسخيره ومنه نفعي وضري وخيري وشري ووجودي ودوامي فله سجودي وإعظامي، فقال الله تعالى: الله يعلم أن كل ما يعبدون من دون الله هو مثل بيت العنكبوت لأن الكوكب والملك وكل ما عدا الله لا ينفع ولا يضر إلا بإذن الله فعبادتكم للغائب كعبادتكم للحاضر ولا معبود إلا الله ولا إله سواه.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما انتفى نفعهم بعلمهم، صح نفيه، فكانوا وإياها على حد سواء، ليس لفريق منهما شيء مما نوى، فيا لها من صفقة خاسرة، وتجارة كاسدة بائرة. ولما كان ضرب المثل للشيء لا يصح إلا من العالم بذلك الشيء، وكان النصير على شيء لا يمكن أن يتوجه إلى معارضته إلا أن يعلمه ويعلم مقدار قدرته، وعدة جنوده، وصل بذلك أن هذا شأنه سبحانه وأن شركاءهم في غاية البعد عن ذلك، فكيف يعلقون بنصرهم آمالهم، وزاد ذلك ذاك حسناً تعقيبه لنفي العلم عنهم، فقال إشارة إلى جهلهم في إنكارهم أن يقدر أحد على إهلاك آلهتهم التي هي أوهى الأشياء: {إن الله} أي الذي له صفات الكمال {يعلم} بما له من تلك الصفات {ما} أي الذي {يدعون} أي الذين ضرب لهم المثل...، أو أنتم -في قراءة الفوقانية التفاتاً إلى أسلوب الخطاب إيذاناً بالغضب {من دونه} إشارة إلى سفول رتبتهم، وأكد العموم بقوله: {من شيء} أي سواء كان نجماً أو صنماً أو ملكاً أو جنياً أو غيره، وهم لا يعلمونه ولا يعلمون شيئاً مما يتوصلون إليه، فكيف يشفعون عنده أو ينصرون منه، وإليه الإشارة بقوله: {وهو العزيز} أي عن أن يعلمه شركاؤهم أو يحيط به أحد علماً، أو يمتنع عليه شيء يريده...؛ وجوزوا أن تكون ما نافية، أي شيء يعتد به. ولما كان ذلك ربما أفهم أنه لا يعلم أصلاً قال: {الحكيم} أي البالغ العلم، الواضع كل شيء يريده في أكمل مواضعه، فأبطن نفسه بكبريائه وجلاله حتى لا باطن سواه، وأظهرها بأفعاله وما كشف من جماله حتى لا ظاهر في الحقيقة غيره، وهو يغلب من شاء بعزته، ويمهله إن شاء بحكمته، فلا يغتر أحد بإمهاله فيظن أنه لإهماله...
روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي 1270 هـ :
فيها وعيد لهم لأن العلم بدعوتهم وعبادتهم عبارة عن مجازاتهم عليها، وكذا العلم بما يدعونه عبارة عن مجازاتهم على دعائهم إياه.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
لما نفى عنهم العلم بما تضمنه التمثيل من حقارة أصنامهم التي يعبدونها وقلة جدواها بقوله {لو كانوا يعلمون} المفيد أنهم لا يعلمون، أعقبه بإعلامهم بعلمه بدقائق أحوال تلك الأصنام على اختلافها واختلاف معتقدات القبائل التي عبدتها، وأن من آثار علمه بها ضرب ذلك المثل لحال من عبدوها وحالها أيضاً دفعاً بهم إلى أن يتهموا عقولهم وأن عليهم النظر من حقائق الأشياء تعريضاً بقصور علمهم كقوله تعالى {والله يعلم وأنتم لا تعلمون} [البقرة: 216]، فهذا توقيف لهم على تفريطهم في علم حقائق الأمور التي عَلِمها الله وأبلغهم دلائلها النظرية ونظائرها التاريخية، وقربها إليهم بالتمثيلات الحسية فعموا وصموا عن هذا وذاك...
{وهو العزيز الحكيم} تذييل لجملة {إن الله يعلم} لأن الجملة على كلا المعنيين في معاني {ما} تدل على أن الذي بيَّن حقارة حال الأصنام واختلال عقول عابديها فلم يعبأ بفضحها وكشفها بما يسوءها مع وفرة أتباعها ومع أوهام أنها لا يمسها أحد بسوء إلا كانت ألْباً عليه؛ فلو كان للأصنام حظ في الإلهية لما سلم من ضرّها من يُحقرها كقوله تعالى {قل لو كان معه ءالهة كما تقولون إذن لابتغوا إلى ذي العرش سبيلاً} [الإسراء: 42] كما تقدم، وأنه لما فضح عقول عُبادها لم يخشهم على أوليائه بَلْهَ ذاته، فهو عزيز لا يُغلب، وحكيم لا تنطلي عليه الأوهام والسفاسط بخلاف حال هاتيك وأولئك.