قوله تعالى : { قال بل سولت لكم } ، زينت ، { أنفسكم أمراً } ، وفيه اختصار معناه : فرجعوا إلى أبيهم وذكروا لأبيهم ما قال كبيرهم ، فقال يعقوب : { بل سولت لكم أنفسكم أمراً } ، أي : حمل أخيكم إلى مصر لطلب نفع عاجل .
قوله تعالى : { فصبر جميل عسى الله أن يأتيني بهم جميعاً } ، يعني : يوسف ، وبنيامين ، وأخاهم المقيم بمصر { إنه هو العليم } ، بحزني ووجدي على فقدهم { الحكيم } في تدبير خلقه .
ويطوي السياق الطريق بهم ، حتى يقفهم في مشهد أمام أبيهم المفجوع ، وقد أفضوا إليه بالنبأ الفظيع . فلا نسمع إلا رده قصيرا سريعا ، شجيا وجيعا . ولكن وراءه أملا لم ينقطع في الله أن يرد عليه ولديه ، أو أولاده الثلاثة بما فيهم كبيرهم الذي أقسم ألا يبرح حتى يحكم الله له . وإنه لأمل عجيب في ذلك القلب الوجيع :
( قال : بل سولت لكم أنفسكم أمرا ، فصبر جميل ، عسى الله أن يأتيني بهم جميعا إنه هو العليم الحكيم ) . .
( بل سولت لكم أنفسكم أمرا ، فصبر جميل ) . . كلمته ذاتها يوم فقد يوسف . ولكنه في هذه المرة يضيف إليها هذا الأمل أن يرد الله عليه يوسف وأخاه فيرد ابنه الآخر المتخلف هناك . . ( إنه هو العليم الحكيم ) . . الذي يعلم حاله ، ويعلم ما وراء هذه الأحداث والامتحانات ، ويأتي بكل أمر في وقته المناسب ، عندما تتحقق حكمته في ترتيب الأسباب والنتائج .
هذا الشعاع من أين جاء إلى قلب هذا الرجل الشيخ ؟ إنه الرجاء في الله ، والاتصال الوثيق به ، والشعور بوجوده ورحمته . ذلك الشعور الذي يتجلى في قلوب الصفوة المختارة ، فيصبح عندها أصدق وأعمق من الواقع المحسوس الذي تلمسه الأيدي وتراه الأبصار .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ف {قال بل سولت لكم} يعني: ولكن زينت لكم {أنفسكم أمرا}، كان هو منكم هذا، {فصبر جميل}، يعني: صبرا حسنا لا جزع فيه، {عسى الله أن يأتيني بهم جميعا}، يعني: بنيه الأربعة، {إنه هو العليم} بخلقه، {الحكيم} يعني: الحاكم فيهم، ولم يخبر الله يعقوب بأمر يوسف ليختبر صبره...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
في الكلام متروك، وهو: فرجع إخوة بنيامين إلى أبيهم... فأخبروه خبره، فلما أخبروه أنه سرق قال:"بَلْ سَوّلَتْ لَكُمْ أنْفُسُكُمْ أمْرا" يقول: بل زيّنت لكم أنفسكم أمرا هممتم به وأردتموه. "فصَبْرٌ جَمِيلٌ "يقول: فصبري على ما نالني من فقد ولدي صبر جميل لا جزع فيه ولا شكاية، عسى الله أن يأتيني بأولادي جميعا فيردّهم عليّ. "إنّهُ هُوَ العَلِيمُ" بوحدتي وبفقدهم وحزني عليهم وصدق ما يقولون من كذبه، "الحَكِيمِ" في تدبيره خلقه...
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
{قال بل سولت لكم أنفسكم أمراً} فيه وجهان:
الثاني: بل زينت لكم أنفسكم أمراً في قولكم إن ابني سرق وهو لا يسرق، وإنما ذاك لأمر يريده الله تعالى...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
والتسويل: حديث النفس بما تطمع فيه...
جهود الإمام الغزالي في التفسير 505 هـ :
قيل في معنى قوله {فصبر جميل} لا شكوى فيه [المستصفى: 1/342]...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا} أردتموه، وإلا فما أدرى ذلك الرجل أنّ السارق يؤخذ بسرقته لولا فتواكم وتعليمكم...
{الحكيم} الذي لم يبتلني بذلك إلا لحكمة ومصلحة...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
و {سولت} معناه: زينت وخيلت وجعلت سولاً، والسول: ما يتمناه الإنسان ويحرص عليه...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
فكأنه قيل: فما قال لهم؟ فقيل: {قال بل} أي ليس الأمر كذلك، لم تصح نسبة ابني إلى السرقة ظاهراً ولا باطناً، أي لم يأخذ شيئاً من صاحبه في خفاء بل {سولت} أي زينت تزييناً فيه غي {لكم أنفسكم أمراً} أي حدثتكم بأمر ترتب عليه ذلك، والأمر: الشيء الذي من شأنه أن تأمر النفس به، وكلا الأمرين صحيح، أما النفي فواضح، لأن بنيامين لم يسرق الصواع ولا همّ بذلك، ولذلك لم ينسبه يوسف عليه الصلاة والسلام ولا مناديه إلى ذلك بمفرده، وأما الإثبات فأوضح، لأنه لولا فعلهم بيوسف عليه الصلاة والسلام لما سولت لهم فيه أنفسهم. لم يقع هذا الأمر لبنيامين عليه السلام {فصبر جميل} مني، لأن ظني في الله جميل، وفي قوله: {عسى الله} أي المحيط بكل شيء قدرة وعلماً {أن يأتيني بهم} أي بيوسف وشقيقه [وأخيهما] {جميعاً} ما يدل الفطن على أنه تفرس أن هذه الأفعال نشأت عن يوسف عليه الصلاة والسلام، وأن الأمر إلى سلامة واجتماع؛ ثم علل ذلك بقوله: {إنه هو} أي وحده {العليم} أي البليغ العلم بما خفي علينا من ذلك، فيعلم أسبابه الموصلة إلى المقاصد {الحكيم} أي البليغ في إحكام الأمور في ترتيب الأسباب بحيث لا يقدر أحد على نقض ما أبرمه منها، وترتيب الوصفين على غاية الإحكام -كما ترى- لأن الحال داع إلى العلم بما غاب من الأسباب أكثر من دعائه إلى معرفة حكمتها؛ قال هذه المقالة.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ويطوي السياق الطريق بهم، حتى يقفهم في مشهد أمام أبيهم المفجوع، وقد أفضوا إليه بالنبأ الفظيع. فلا نسمع إلا رده قصيرا سريعا، شجيا وجيعا. ولكن وراءه أملا لم ينقطع في الله أن يرد عليه ولديه، أو أولاده الثلاثة بما فيهم كبيرهم الذي أقسم ألا يبرح حتى يحكم الله له. وإنه لأمل عجيب في ذلك القلب الوجيع: (قال: بل سولت لكم أنفسكم أمرا، فصبر جميل، عسى الله أن يأتيني بهم جميعا إنه هو العليم الحكيم).. (بل سولت لكم أنفسكم أمرا، فصبر جميل).. كلمته ذاتها يوم فقد يوسف. ولكنه في هذه المرة يضيف إليها هذا الأمل أن يرد الله عليه يوسف وأخاه فيرد ابنه الآخر المتخلف هناك.. (إنه هو العليم الحكيم).. الذي يعلم حاله، ويعلم ما وراء هذه الأحداث والامتحانات، ويأتي بكل أمر في وقته المناسب، عندما تتحقق حكمته في ترتيب الأسباب والنتائج. هذا الشعاع من أين جاء إلى قلب هذا الرجل الشيخ؟ إنه الرجاء في الله، والاتصال الوثيق به، والشعور بوجوده ورحمته. ذلك الشعور الذي يتجلى في قلوب الصفوة المختارة، فيصبح عندها أصدق وأعمق من الواقع المحسوس الذي تلمسه الأيدي وتراه الأبصار...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وجملة {إنه هو العليم الحكيم} تعليل لرجائه من الله بأن الله عليم فلا تخفى عليه مواقعهم المتفرقة. حكيم فهو قادر على إيجاد أسباب جمعهم بعد التفرق...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
رد عليهم في أمر أخ يوسف، كما رد عليهم في أمر يوسف، و {بل} هنا للإضراب برد كلامهم، وعدم تصديقه، و {سولت}: معناها حسنت لكم أنفسكم أمر سوء، وإذا كان ذلك حقا في أمر يوسف فهو ظن في هذا الموضوع سوغه له ماضيهم مع أخيه، {فصبر جميل}، أي فأمري، أو فصبري لا أنين فيه ولا شكوى لأحد من الناس. ولكن الرجاء في رحمة الله سابق إليه دائما، ولذا قال: {عسى الله أن يأتيني بهم جميعا}، أي بيوسف وأخيه، ولعله قد انضم إليهم أخوهم الأكبر الذي لم يشترك في تفريطهم في يوسف ولامهم بعد عودته، وكان غائبا وقد أكد رجاءه بأن يأتوا إليه مجتمعين غير متفرقين. وختم الله سبحانه وتعالى الآية الكريمة، بما يقوي رجاءه {إنه هو العليم الحكيم} الضمير يعود إلى الله تعالى الحاضر في الألسن المؤمنة دائما، العليم الذي يعلم كل شيء، لا يخفي عليه شيء في الأرض ولا في السماء، الحكيم الذي يدبر الأمور بحكمته وعلى مقتضى علمه الواسع...
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
و "الصبر الجميل "يطلق على الصبر الذي لا يصحبه جزع ولا شكوى. لكن أباهم يعقوب لم يفقد رجاءه في الله، ولا في حسن العاقبة له ولأبنائه الثلاثة، فقال {عسى الله أن يأتيني بهم جميعا، إنه هو العليم الحكيم}...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
... الصبر الجميل والإحساس بالفرج: لهذا كان رد فعله مختلفاً عما كان أولاده يأملونه، بعد تقديم كافة البراهين له، {قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا} إن هناك شيئاً ما في هذه القضية، ولا بد من وجود خلل ما في بعض التفاصيل، فهو لا يثق بأولاده، بعد ما صدر عنهم في قصة ولده يوسف. إنّ هناك غموضاً في الجوّ، وعليه أن يتماسك أمام الفاجعة، فلا يواجهها بالانفعال السريع، بل بالصبر، لذا أعلن لهم عن مشاعره، وموقفه، {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} وللصبر نتائجه الطيبة على مستوى عواقب الأمور، واستطاع الصبر أن يفتح قلبه على آفاق الفرج الكبير في ساحات رحمة الله. وها هي صورة يوسف تلمع في ذهنه فلا يلمح فيها أيّ شحوب يقربها من أجواء الموت، وها هي صورة أخيه تلتقي بصورته، فهل هي صدفةٌ أو أن هناك وحياً ربّانياً يهمس في قلبه أن المشكلة تقترب من الحل، وأن اللقاء بهما قريب، وأنّ شمل العائلة سيجتمع في الأجواء الحميمة التي تخفّف الالام، وتصفّي القلوب؟؟ وهذا ما عاشه يعقوب كنبي يستشرف الغيب، في مثل لمعة الضوء الخاطفة، {عَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا} إنه الإحساس العميق بالفرج القريب الذي يستمده من الله، {إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} الذي يعلم خفايا الأمور، ويدبّر خلقه برحمته، ويحتوي حياتهم بحكمته...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
وأخيراً غادروا مصر متّجهين إلى كنعان في حين تخلّف أخواهم الكبير والصغير، ووصلوا إلى بيتهم منهوكي القوى وذهبوا لمقابلة أبيهم، وحينما رأى الأب الحزن والألم مستولياً على وجوههم (خلافاً للسفرة السابقة والتي كانوا فيها في غاية الفرح) علم أنّهم يحملون إليه أخباراً محزنة وخاصّة حينما افتقد بينهم بنيامين وأخاه الأكبر، وحينما أخبروه عن الواقعة بالتفصيل، استولى عليه الغضب وقال مخاطباً إيّاهم بنفس العبارة التي خاطبهم بها حينما أرادوا أن يشرحوا له خديعتهم مع يوسف (قال بل سوّلت لكم أنفسكم أمراً) أي إنّ أهواءكم الشيطانية هي التي استولت عليكم وزيّنت لكم الأمر بهذه الصورة التي أنتم تصفونه. السؤال الذي يطرح نفسه هنا، هو أنّ يعقوب هل اكتفى في نسبة الكذب واتّباع الهوى لأولاده استنادا إلى ما فعلوه في المرّة السابقة مع يوسف من سوء الفعل والحنث باليمين والعهد، مع أنّ مثل هذا الظنّ والقول واتّهام الآخرين لمجرّد تجربة سابقة بعيد عن سيرة عامّة الناس فضلا عن يعقوب الذي هو نبي معصوم، وعلى الخصوص إذا استند المدّعي في دعواه على وثائق ومستندات تثبت دعواه، كما أنّ طريق الفحص والتحقيق عن واقع الحال كان مفتوحاً ليعقوب. أو كان يعقوب يقصد بقوله: (بل سوّلت لكم... إلى آخر) الإشارة إلى اُمور أُخرى، منها:
لعلّه عتاب لأولاده لخضوعهم أمام الأمر الواقع وتسليمهم لحكم العزيز بمجرّد عثور الصاع عند أخيهم، مع أنّ العثور بمفرده لا يعدّ دليلا منطقيّاً على السرقة.
ولعلّه عتاب لأولاده لما بيّنوه للعزيز من أنّ عقوبة السارق عندهم هو استعباده مع أنّ هذه السنّة السائرة في أهل كنعان سنّة باطلة ولا تعدّ قانوناً سماوياً (هذا إن قلنا أنّ هذه السنّة لم تكن مأخوذة من شريعة يعقوب كما ذهب إليه بعض المفسّرين).
وأخيراً لعلّه عتاب لأولاده على استعجالهم في الخضوع لأحكام العزيز وخلق المعاذير والمبرّرات والرجوع مستعجلين إلى كنعان دون الاقتداء بأخيهم الكبير في البقاء بمصر برغم العهود والمواثيق المغلّظة التي قطعوها مع أبيهم. لكن بعد هذا العتاب المليء بالحزن والأسى رجع يعقوب إلى قرارة نفسه وقال: (فصبر جميل) أي أنّني سوف أمسك بزمام نفسي، ولا أسمح لها بأن تطغى عليّ بل أصبر صبراً جميلا على أمل بأنّ الله سبحانه وتعالى سوف يعيد لي أولادي (يوسف وبنيامين وأخوهم الأكبر) (عسى الله أن يأتيني بهم جميعاً) فإنّه هو العالم بواقع الأُمور والخبير بحوادث العالم ما مضى منها وما سوف يأتي، ولا يفعل إلاّ عن حكمة وتدبير (إنّه هو العليم الحكيم). ثمّ بعد هذه المحاورات بين يعقوب وأولاده، استولى عليه الحزن والألم، وحينما رأى مكان بنيامين خالياً عادت ذكريات ولده العزيز يوسف إلى ذهنه، وتذكّر تلك الأيّام الجميلة التي كان يحتضن فيها ولده الجميل ذا الأخلاق الفاضلة والصفات الحسنة والذكاء العالي فيشمّ رائحته الطيّبة ويستعيد نشاطه، أمّا اليوم فلم يبق منه أثر ولا عن حياته خبر، كما أنّ خليفته (بنيامين) أيضاً قد ابتلي مثل يوسف بحادث مؤلم وذهب إلى مصير مجهول لا تعرف عاقبته...