قوله تعالى : { وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم } يعني الملائكة ، قاله قتادة ومقاتل والكلبي ، قال مجاهد : يعني الأوثان ، وإنما لم يعجل عقوبتنا على عبادتنا إياها لرضاه منا بعبادتها . قال الله تعالى :{ ما لهم بذلك من علم } فيما يقولون ما هم إلا كاذبون في قولهم : إن الله تعالى رضي منا بعبادتها ، وقيل : إن هم إلا يخرصون ، فيما يقولون { إن هم إلا يخرصون } في قولهم : إن الملائكة إناث وأنهم بنات الله .
وقوله تعالى : { وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ } فاحتجوا على عبادتهم الملائكة بالمشيئة ، وهي حجة لم يزل المشركون يطرقونها ، وهي حجة باطلة في نفسها ، عقلا وشرعا . فكل عاقل لا يقبل الاحتجاج بالقدر ، ولو سلكه في حالة من أحواله لم يثبت عليها قدمه .
وأما شرعا ، فإن اللّه تعالى أبطل الاحتجاج به ، ولم يذكره عن غير المشركين به المكذبين لرسله ، فإن اللّه تعالى قد أقام الحجة على العباد ، فلم يبق لأحد عليه حجة أصلا ، ولهذا قال هنا : { مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ } أي : يتخرصون تخرصا لا دليل عليه ، ويتخبطون خبط عشواء .
ثم يتابع الفرية وما يصوغونه حولها من جدل واعتذار :
( وقالوا : لو شاء الرحمن ما عبدناهم . ما لهم بذلك من علم . إن هم إلا يخرصون ) . .
إنهم يحاولون التهرب حين تحاصرهم الحجج ، وتتهافت بين أيديهم الأسطورة . فيحيلون على مشيئة الله ، يزعمون أن الله راض عن عبادتهم للملائكة ؛ ولو لم يكن راضيا ما مكنهم من عبادتهم ، ولمنعهم من ذلك منعاً !
وهذا القول احتيال على الحقيقة . فإن كل شيء يقع في هذا الوجود إنما يقع وفق مشيئة الله . هذا حق . ولكن من مشيئة الله أن جعل للإنسان قدرة على اختيار الهدى أو اختيار الضلال . وكلفه اختيار الهدى ورضيه له ، ولم يرض له الكفر والضلال . وإن كانت مشيئته أن يخلقه قابلاً للهدى أو الضلال .
وهم حين يحيلون على مشيئة الله إنما يخبطون خبطاً ؛ فهم لا يوقنون أن الله أراد لهم أن يعبدوا الملائكة - ومن أين يأتيهم اليقين ? - ( ما لهم بذلك من علم إن هم إلا يخرصون ) . . ويتبعون الأوهام والظنون .
ذكر الله تعالى احتجاج الكفار لمذهبهم ليبين فساد منزعهم ، وذلك أنهم جعلوا إمهال الله لهم وإنعامه عليهم وهم يعبدون الأصنام ، دليلاً على أنه يرضى عبادة الأصنام ديناً ، وأن ذلك كالأمر به ، فنفى الله عن الكفرة أن يكون لهم علم بهذا وليس عندهم كتاب منزل يقتضي ذلك ، وإنما هم يظنون و { يخرصون } ويخمنون ، وهذا هو الخرص والتخرص .
عطف على جملة { ولئن سألتهم مَن خلق السماوات والأرض ليقولُنّ خلقهن العزيز العليم } [ الزخرف : 9 ] ، فإنها استدلال على وَحدانية الله تعالى وعلى أن معبوداتهم غيرُ أهل لأن تُعْبَد . فحكي هنا ما استظهروه من معاذيرهم عند نهوض الحجة عليهم يرومون بها إفحام النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين فيقولون : لو شاء الله ما عبَدْنا الأصنام ، أي لو أن الله لا يحب أن نعبدها لكان الله صرفنا عن أن نعبدها ، وتوهموا أن هذا قاطع لجدال النبي صلى الله عليه وسلم لهم لأنهم سمعوا من دينه أن الله هو المتصرف في الحوادث فتأولوه على غير المراد منه . فضمير الغيبة في { ما عبدناهم } عائد إلى معلوم من المقام ومن ذكر فعل العبادة لأنهم كانوا يعبدون الأصنام وهم الغالب ، وأقوام منهم يعبدون الجنّ قال تعالى : { بل كانوا يعبدون الجنّ } [ سبأ : 41 ] .
قال ابن مسعود : كان نفر من العرب يعبدون الجنّ ، وأقوام يعبدون الملائكة مثل بني مُلَيْح بضم الميم وفتح اللام وبحاء مهملة وهم حيّ من خزاعة . فضمير جمع المذكر تغليب وليس عائداً إلى الملائكة لأنهم كانوا يزعمون الملائكة إناثاً فلو أرادوا الملائكة لقالوا ما عبدناها أو ما عبدناهنّ . وهذا هو الوجه في معنى الآية . ومثله مروي عن مجاهد وابن جريج واقتصر عليه الطبري وابن عطية ، ومن المفسرين من جعل معاد الضمير { الملائكة } [ الزخرف : 19 ] ولعلهم حملهم على ذلك وقوع هذا الكلام عقب حكاية قولهم في الملائكة : إنهم إناث وليس اقتران كلام بكلام بموجب اتحاد محمَليْهما . وعلى هذا التفسير درج صاحب « الكشاف » وهو بعيد من اللّفظ لتذكير الضمير كما علمت ، ومن الواقع لأن العرب لم يعبد منهم الملائكة إلا طوائف قليلة عبدوا الجن والملائكة مع الأصنام وليست هي الديانة العامة للعرب . وهذه المقالة مثارها تخليط العامة والدهماء من عهد الجاهلية بينَ المشيئة والإرادة ، وبين الرضى والمحبة ، فالعرب كانوا يقولون : شاءَ الله وإن شاء الله ، وقال طرفة :
فلو شاء ربّي كنت قيس بن عاصم *** ولو شاء ربّي كنت عَمرو بن مَرثد
فبنوا على ذلك تخليطاً بين مشيئة الله بمعنى تعلق إرادته بوقوع شيء ، وبين مشيئته التي قدَّرها في نظام العالم من إناطة المسببات بأسبابها ، واتصال الآثار بمؤثراتها التي رتبها الله بقدَر حين كوَّن العالم ونظَّمه وأقام له سنناً ونواميس لا تخرج عن مدارها إلاّ إذا أراد الله قلب نظمها لحكمة أخرى . فمشيئة الله بالمعنى الأول يدل عليها ما أقامه من نظام أحوال العالم وأهله . ومشيئته بالمعنى الثاني تدل عليها شرائعه المبعوث بها رسُلُه .
وهذا التخليط بين المشيئتين هو مثار خبط أهل الضلالات من الأمم ، ومثار حيرة أهل الجهالة والقصور من المسلمين في معنى القضاء والقدر ومعنى التكليف والخطاب . وقد بيّنا ذلك عند قوله تعالى : { سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرَّمْنا من شيء كذلك كذّب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا } في سورة الأنعام ( 148 ) .
وهذا القول الصادر منهم ينتظم منه قياس استثنائي أن يقال : لو شاء الله ما عبدنا الأصنام ، بدليل أن الله هو المتصرف في شؤوننا وشؤون الخلائق لكنا عبدنا الأصنام بدليل المشاهدة فَقد شاء الله أن نعبد الأصنام .
وقد أجيبوا عن قولهم بقوله تعالى : { ما لهم بذلك من علم } أي ليس لهم مستند ولا حجة على قياسهم لأن مُقدَّم القياس الاستثنائي وهو { لو شاء الرحمان ما عبدناهم } مبنيّ على التباس المشيئة التكوينية بالمشيئة التكليفية فكان قياسهم خلياً عن العلم وهو اليقين ، فلذلك قال الله : { ما لهم بذلك } أي بقولهم ذلك { من علم } بل هو من جهالة السفسطة واللّبس . والإشارة إلى الكلام المحكي بقوله : { وقالوا لو شاء الرحمن } .
وجملة { إن هم إلا يخرصون } بيان لجملة { ما لهم بذلك من علم } .
والخرص : التوهم والظنّ الذي لا حجة فيه قال تعالى : { قتل الخرَّاصون } [ الذاريات : 10 ] .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.