التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور  
{وَقَالُواْ لَوۡ شَآءَ ٱلرَّحۡمَٰنُ مَا عَبَدۡنَٰهُمۗ مَّا لَهُم بِذَٰلِكَ مِنۡ عِلۡمٍۖ إِنۡ هُمۡ إِلَّا يَخۡرُصُونَ} (20)

عطف على جملة { ولئن سألتهم مَن خلق السماوات والأرض ليقولُنّ خلقهن العزيز العليم } [ الزخرف : 9 ] ، فإنها استدلال على وَحدانية الله تعالى وعلى أن معبوداتهم غيرُ أهل لأن تُعْبَد . فحكي هنا ما استظهروه من معاذيرهم عند نهوض الحجة عليهم يرومون بها إفحام النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين فيقولون : لو شاء الله ما عبَدْنا الأصنام ، أي لو أن الله لا يحب أن نعبدها لكان الله صرفنا عن أن نعبدها ، وتوهموا أن هذا قاطع لجدال النبي صلى الله عليه وسلم لهم لأنهم سمعوا من دينه أن الله هو المتصرف في الحوادث فتأولوه على غير المراد منه . فضمير الغيبة في { ما عبدناهم } عائد إلى معلوم من المقام ومن ذكر فعل العبادة لأنهم كانوا يعبدون الأصنام وهم الغالب ، وأقوام منهم يعبدون الجنّ قال تعالى : { بل كانوا يعبدون الجنّ } [ سبأ : 41 ] .

قال ابن مسعود : كان نفر من العرب يعبدون الجنّ ، وأقوام يعبدون الملائكة مثل بني مُلَيْح بضم الميم وفتح اللام وبحاء مهملة وهم حيّ من خزاعة . فضمير جمع المذكر تغليب وليس عائداً إلى الملائكة لأنهم كانوا يزعمون الملائكة إناثاً فلو أرادوا الملائكة لقالوا ما عبدناها أو ما عبدناهنّ . وهذا هو الوجه في معنى الآية . ومثله مروي عن مجاهد وابن جريج واقتصر عليه الطبري وابن عطية ، ومن المفسرين من جعل معاد الضمير { الملائكة } [ الزخرف : 19 ] ولعلهم حملهم على ذلك وقوع هذا الكلام عقب حكاية قولهم في الملائكة : إنهم إناث وليس اقتران كلام بكلام بموجب اتحاد محمَليْهما . وعلى هذا التفسير درج صاحب « الكشاف » وهو بعيد من اللّفظ لتذكير الضمير كما علمت ، ومن الواقع لأن العرب لم يعبد منهم الملائكة إلا طوائف قليلة عبدوا الجن والملائكة مع الأصنام وليست هي الديانة العامة للعرب . وهذه المقالة مثارها تخليط العامة والدهماء من عهد الجاهلية بينَ المشيئة والإرادة ، وبين الرضى والمحبة ، فالعرب كانوا يقولون : شاءَ الله وإن شاء الله ، وقال طرفة :

فلو شاء ربّي كنت قيس بن عاصم *** ولو شاء ربّي كنت عَمرو بن مَرثد

فبنوا على ذلك تخليطاً بين مشيئة الله بمعنى تعلق إرادته بوقوع شيء ، وبين مشيئته التي قدَّرها في نظام العالم من إناطة المسببات بأسبابها ، واتصال الآثار بمؤثراتها التي رتبها الله بقدَر حين كوَّن العالم ونظَّمه وأقام له سنناً ونواميس لا تخرج عن مدارها إلاّ إذا أراد الله قلب نظمها لحكمة أخرى . فمشيئة الله بالمعنى الأول يدل عليها ما أقامه من نظام أحوال العالم وأهله . ومشيئته بالمعنى الثاني تدل عليها شرائعه المبعوث بها رسُلُه .

وهذا التخليط بين المشيئتين هو مثار خبط أهل الضلالات من الأمم ، ومثار حيرة أهل الجهالة والقصور من المسلمين في معنى القضاء والقدر ومعنى التكليف والخطاب . وقد بيّنا ذلك عند قوله تعالى : { سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرَّمْنا من شيء كذلك كذّب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا } في سورة الأنعام ( 148 ) .

وهذا القول الصادر منهم ينتظم منه قياس استثنائي أن يقال : لو شاء الله ما عبدنا الأصنام ، بدليل أن الله هو المتصرف في شؤوننا وشؤون الخلائق لكنا عبدنا الأصنام بدليل المشاهدة فَقد شاء الله أن نعبد الأصنام .

وقد أجيبوا عن قولهم بقوله تعالى : { ما لهم بذلك من علم } أي ليس لهم مستند ولا حجة على قياسهم لأن مُقدَّم القياس الاستثنائي وهو { لو شاء الرحمان ما عبدناهم } مبنيّ على التباس المشيئة التكوينية بالمشيئة التكليفية فكان قياسهم خلياً عن العلم وهو اليقين ، فلذلك قال الله : { ما لهم بذلك } أي بقولهم ذلك { من علم } بل هو من جهالة السفسطة واللّبس . والإشارة إلى الكلام المحكي بقوله : { وقالوا لو شاء الرحمن } .

وجملة { إن هم إلا يخرصون } بيان لجملة { ما لهم بذلك من علم } .

والخرص : التوهم والظنّ الذي لا حجة فيه قال تعالى : { قتل الخرَّاصون } [ الذاريات : 10 ] .