مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{وَقَالُواْ لَوۡ شَآءَ ٱلرَّحۡمَٰنُ مَا عَبَدۡنَٰهُمۗ مَّا لَهُم بِذَٰلِكَ مِنۡ عِلۡمٍۖ إِنۡ هُمۡ إِلَّا يَخۡرُصُونَ} (20)

قوله تعالى : { وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم ما لهم بذلك من علم إن هم إلا يخرصون * أم آتيناهم كتابا من قبله فهم به مستمسكون * بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون * وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون * قال أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم قالوا إنا بما أرسلتم به كافرون * فانتقمنا منهم فانظر كيف كان عاقبة المكذبين } .

اعلم أنه تعالى حكى نوعا آخر من كفرهم وشبهاتهم ، وهو أنهم قالوا لو شاء الرحمان ما عبدناهم ، وفيه مسائل :

المسألة الأولى : قالت المعتزلة هذه الآية تدل على فساد قول المجبرة في أن كفر الكافر يقع بإرادة الله من وجهين ( الأول ) أنه تعالى حكى عنهم أنهم قالوا { لو شاء الرحمان ما عبدناهم } وهذا صريح قول المجبرة ، ثم إنه تعالى أبطله بقوله { ما لهم بذلك من علم إن هم إلا يخرصون } فثبت أنه حكى مذهب المجبرة ، ثم أردفه بالإبطال والإفساد ، فثبت أن هذا المذهب باطل ، ونظيره قوله تعالى في سورة الأنعام : { سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا } إلى قوله { قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون } .

والوجه الثاني : أنه تعالى حكى عنهم قبل هذه الآية أنواع كفرهم ( فأولها ) قوله { وجعلوا له من عباده جزءا } ، ( وثانيها ) قوله { وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا } ، ( وثالثها ) قوله تعالى : { وقالوا لو شاء الرحمان ما عبدناهم } فلما حكى هذه الأقاويل الثلاثة بعضها على إثر بعض ، وثبت أن القولين الأولين كفر محض فكذلك هذا القول الثالث يجب أن يكون كفرا ، واعلم أن الواحدي أجاب في «البسيط » عنه من وجهين ( الأول ) ما ذكره الزجاج : وهو أن قوله تعالى : { ما لهم بذلك من علم } عائد إلى قولهم الملائكة إناث وإلى قولهم الملائكة بنات الله ( والثاني ) أنهم أرادوا بقولهم { لو شاء الرحمان ما عبدناهم } أنه أمرنا بذلك ، وأنه رضي بذلك ، وأقرنا عليه ، فأنكر ذلك عليهم ، فهذا ما ذكره الواحدي في الجواب ، وعندي هذان الوجهان ضعيفان أما ( الأول ) فلأنه تعالى حكى عن القوم قولين باطلين ، وبين وجه بطلانهما ، ثم حكى بعده مذهبا ثالثا في مسألة أجنبية عن المسألتين الأوليين ، ثم حكم بالبطلان والوعيد فصرف هذا الإبطال عن هذا الذي ذكره عقيبه إلى كلام متقدم أجنبي عنه في غاية البعد وأما ( الوجه الثاني ) فهو أيضا ضعيف ، لأن قوله { لو شاء الرحمان ما عبدناهم } ليس فيه بيان متعلق بتلك المشيئة ، والإجمال خلاف الدليل ، فوجب أن يكون التقدير لو شاء الله ألا نعبدهم ما عبدناهم ، وكلمة لو تفيد انتفاء الشيء لانتفاء غيره ، فهذا يدل على أنه لم توجد مشيئة الله لعدم عبادتهم ، وهذا عين مذهب المجبرة ، فالإبطال والإفساد يرجع إلى هذا المعنى ، ومن الناس من أجاب عن هذا الاستدلال بأن قال إنهم إنما ذكروا ذلك الكلام على سبيل الاستهزاء والسخرية فلهذا السبب استوجبوا الطعن والذم ، وأجاب صاحب «الكشاف » عنه من وجهين ( الأول ) أنه ليس في اللفظ ما يدل على أنهم قالوا مستهزئين ، وادعاء ما لا دليل عليه باطل ( الثاني ) أنه تعالى حكى عنهم ثلاثة أشياء وهي : أنهم { جعلوا له من عباده جزءا } وأنهم جعلوا الملائكة إناثا ، وأنهم قالوا { لو شاء الرحمن ما عبدناهم } فلو قلنا بأنه إنما جاء الذم على القول الثالث لأنهم ذكروه على طريق الجد ، وجب أن يكون الحال في حكاية القولين الأولين كذلك ، فلزم أنهم لو نطقوا بتلك الأشياء على سبيل الجد أن يكونوا محقين ، ومعلوم أنه كفر ، وأما القول بأن الطعن في القولين الأولين إنما توجه على نفس ذلك القول ، وفي القول الثالث لا على نفسه بل على سبيل الاستهزاء ، فهذا يوجب تشويش النظم ، وإنه لا يجوز في كلام الله .

واعلم أن الجواب الحق عندي عن هذا الكلام ما ذكرناه في سورة الأنعام ، وهو أن القوم إنما ذكروا هذا الكلام لأنهم استدلوا بمشيئة الله تعالى للكفر على أنه لا يجوز ورود الأمر بالإيمان فاعتقدوا أن الأمر والإرادة يجب كونهما متطابقين ، وعندنا أن هذا باطل فالقوم لم يستحقوا الذم بمجرد قولهم إن الله يريد الكفر من الكافر بل لأجل أنهم قالوا لما أراد الكفر من الكافر وجب أن يقبح منه أمر الكافر بالإيمان ، وإذا صرفنا الذم والطعن إلى هذا المقام سقط استدلال المعتزلة بهذه الآية ، وتمام التقرير مذكور في سورة الأنعام والله أعلم .

المسألة الثانية : أنه تعالى لما حكى عنهم ذلك المذهب الباطل قال : { ما لهم بذلك من علم إن هم إلا يخرصون } وتقريره كأنه قيل إن القوم يقولون لما أراد الله الكفر من الكافر وخلق فيه ما أوجب ذلك الكفر وجب أن يقبح منه أن يأمره بالإيمان لأن مثل هذا التكليف قبيح في الشاهد فيكون قبيحا في الغائب فقال تعالى : { ما لهم بذلك من علم } أي ما لهم بصحة هذا القياس من علم ، وذلك لأن أفعال الواحد منا وأحكامه مبنية على رعاية المصالح والمفاسد لأجل أن كل ما سوى الله فإنه ينتفع بحصول المصالح ويستضر بحصول المفاسد ، فلا جرم أن صريح طبعه وعقله يحمله على بناء أحكامه وأفعاله على رعاية المصالح ، أما الله سبحانه وتعالى فإنه لا ينفعه شيء ولا يضره شيء فكيف يمكن القطع بأنه تعالى يبني أحكامه وأفعاله على رعاية المصالح مع ظهور هذا الفارق العظيم فقوله تعالى : { ما لهم بذلك من علم } أي ما لهم بصحة قياس الغائب على الشاهد في هذا الباب علم .

ثم قال : { إن هم إلا يخرصون } أي كما لم يثبت لهم صحة ذلك القياس فقد ثبت بالبرهان القاطع كونهم كذابين خراصين في ذلك القياس لأن قياس المنزه عن النفع والضر من كل الوجوه على المحتاج المنتفع المتضرر قياس باطل في بديهة العقل .