قوله تعالى : { وجعلناه } يعني : الكتاب وهو التوراة ، وقال قتادة : موسى ، { هدى لبني إسرائيل*وجعلنا منهم } يعني : من بني إسرائيل ، { أئمةً } قادة في الخير يقتدى بهم ، يعني : الأنبياء الذين كانوا فيهم . وقال قتادة : أتباع الأنبياء ، { يهدون } يدعون ، { بأمرنا لما صبروا } قرأ حمزة ، والكسائي ، بكسر اللام وتخفيف الميم ، أي : لصبرهم ، وقرأ الباقون بفتح اللام وتشديد الميم ، أي : حين صبروا على دينهم وعلى البلاء من عدوهم بمصر . { وكانوا بآياتنا يوقنون* }
{ وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ } أي : من بني إسرائيل { أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا } أي : علماء بالشرع ، وطرق الهداية ، مهتدين في أنفسهم ، يهدون غيرهم بذلك الهدى ، فالكتاب الذي أنزل إليهم ، هدى ، والمؤمنون به منهم ، على قسمين : أئمة يهدون بأمر اللّه ، وأتباع مهتدون بهم .
والقسم الأول أرفع الدرجات بعد درجة النبوة والرسالة ، وهي درجة الصديقين ، وإنما نالوا هذه الدرجة العالية بالصبر على التعلم والتعليم ، والدعوة إلى اللّه ، والأذى في سبيله ، وكفوا أنفسهم عن جماحها في المعاصي ، واسترسالها في الشهوات .
{ وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ } أي : وصلوا في الإيمان بآيات اللّه ، إلى درجة اليقين ، وهو العلم التام ، الموجب للعمل ، وإنما وصلوا إلى درجة اليقين ، لأنهم تعلموا تعلمًا صحيحًا ، وأخذوا المسائل عن أدلتها المفيدة لليقين .
فما زالوا يتعلمون المسائل ، ويستدلون عليها بكثرة الدلائل ، حتى وصلوا لذاك ، فبالصبر واليقين ، تُنَالُ الإمامة في الدين .
فإن اللقاء على الحق الثابت ، والعقيدة الواحدة ، هو الذي يستحق الذكر ، والذي ينسلك في سياق التثبيت على ما يلقاه النبي [ صلى الله عليه وسلم ] من التكذيب والإعراض ، ويلقاه المسلمون من الشدة واللأواء . وكذلك هو الذي يتسق مع ما جاء بعده في الآية : ( وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون ) . . للإيحاء للقلة المسلمة يومذاك في مكة أن تصبر كما صبر المختارون من بني إسرائيل ، وتوقن كما أيقنوا ، ليكون منهم أئمة للمسلمين كما كان أولئك أئمة لبني إسرائيل . ولتقرير طريق الإمامة والقيادة ، وهو الصبر واليقين .
وقوله : { وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ } ، أي : لما كانوا صابرين على أوامر الله وترك نواهيه وزواجره وتصديق رسله واتباعهم فيما جاؤوهم به ، كان منهم أئمة يهدون إلى الحق بأمر الله ، ويدعون إلى الخير ، ويأمرون بالمعروف ، وينهون عن المنكر . ثم لما بدلوا وحَرَّفوا وأوَّلوا ، سلبوا ذلك المقام ، وصارت قلوبهم قاسية ، يحرفون الكلم عن مواضعه ، فلا عمل صالحًا ، ولا اعتقاد صحيحًا ؛{[23155]} ولهذا قال : { وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا } {[23156]} قال قتادة وسفيان : لما صبروا عن الدنيا : وكذلك قال الحسن بن صالح .
قال سفيان : هكذا كان هؤلاء ، ولا ينبغي للرجل أن يكون إماما يُقتَدى به حتى يتحامى عن الدنيا .
قال وكيع : قال سفيان : لا بد للدين من العلم ، كما لا بد للجسد من الخبز .
وقال ابن بنت الشافعي : قرأ أبي على عمي - أو : عمي على أبي - سئل سفيان عن قول علي ، رضي الله عنه : الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد ، ألم تسمع قوله : { وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا } ، قال : لما أخذوا برأس الأمر صاروا رؤوسًا . قال بعض العلماء : بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين .
ولهذا قال تعالى ] :{[23157]} { وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّة [ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ . وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الأمْرِ ] فَمَا اخْتَلَفُوا إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ } [ الجاثية : 16 ، 17 ] {[23158]} ، كما قال هنا : { إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ }
أشير إلى ما مَنّ الله به على بني إسرائيل إذ جعل منهم أيمة يهدون بأمر الله والأمر يشمل الوحي بالشريعة لأنه أمر بها ، ويشمل الانتصاب للإرشاد فإن الله أمر العلماء أن يبينوا الكتاب ويرشدوا إليه فإذا هدوا فإنما هدوا بأمره وبالعلم الذي آتاهم به أنبياؤهم وأحبارهم فأنعم الله عليهم بذلك لما صبروا وأيقنوا لما جاءهم من كتاب الله ومعجزات رسولهم فإن كان المراد من قوله { بآياتنا يُوقِنُونَ } دلائل صدق موسى عليه السلام ، فالمعنى : أنهم صبروا على مشاق التكليف والخروج بهم من أرض مصر وما لقوه من فرعون وقومه من العذاب والاضطهاد وتيههم في البرية أربعين سنة وتدبروا في الآيات ونظروا حتى أيقنوا .
وإن كان المراد من الآيات ما في التوراة من الشرائع والمواعظ فإطلاق اسم الآيات عليها مشاكلة تقديرية لما هو شائع بين المسلمين من تسمية جمل القرآن آيات لأنها مُعجزة في بلاغتها خارجة عن طوق تعبير البشر . فكانت دلالات على صدق محمد صلى الله عليه وسلم وهذا نحو ما وقع في حديث رجم اليهوديين من قول الراوي : فوضع اليهودي يده على آية الرجم ، أي الكلام الذي فيه حكم الرجم في التوراة فسماه الراوي آية مشاكلة لكلام القرآن . وفي هذا تعريض بالبشارة لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنهم يكونون أيمة لدين الإسلام وهداة للمسلمين إذ صبروا على ما لحقهم في ذات الله من أذى قومهم وصبروا على مشاق التكليف ومعاداة أهلهم وقومهم وظلمهم إياهم . وتقديم { بآياتنا } على { يوقنون } للاهتمام بالآيات .
وقرأ الجمهور { لَمَّا صَبَروا } بتشديد الميم وهي { لمّا التي هي حرف وجود لوجود وتسمى التوقيتية ، أي : جعلناهم أيمة حين صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون . وقرأ حمزة والكسائي وخلف ورويس عن يعقوب بتخفيف الميم على أنها مركبة من لام التعليل و ( ما ) المصدرية ، أي جعلناهم أيمة لأجل صبرهم وإيقانهم .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.