التفسير الحديث لدروزة - دروزة  
{وَجَعَلۡنَا مِنۡهُمۡ أَئِمَّةٗ يَهۡدُونَ بِأَمۡرِنَا لَمَّا صَبَرُواْۖ وَكَانُواْ بِـَٔايَٰتِنَا يُوقِنُونَ} (24)

{ ولقد أتينا موسى الكتاب فلا تكن في مرية من لقائه وجعلناه هدى لبني إسرائيل ( 23 ) وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون ( 24 ) } [ 23-24 ] .

في الآيتين : تذكير بموسى وبني إسرائيل ، فقد نزل الله على موسى الكتاب .

وجعله هدى لبني إسرائيل . وقد جعل من بني إسرائيل أئمة يهدون الناس إلى طريق الحق بأمر الله وتوفيقه بسبب ما بدا من هؤلاء الأئمة من الصبر والإيقان بآيات الله .

والمتبادر أن الآيتين جاءتا لتطمين النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين وتثبيتهم في الظرف الذي أخذ موقفهم فيه يتحرّج وأزمتهم تشتد من الكفار . فكما فعل لموسى وبني إسرائيل ؛ لأنهم أيقنوا وصبروا فسيفعل لهم ؛ لأنهم أيقنوا وصبروا أيضا . وبهذا التوجيه الذي نرجو أن يكون صوابا تتصل الآيتان بسابقاتهما اتصالا وثيقا بالرغم مما يبدو لأول وهلة من انقطاعهما .

ولقد تعددت الأقوال في تأويل جملة { فلا تكن في مرية من لقائه } وبخاصة في ضمير { لقائه } فمن المفسرين {[1642]} من قال : إن الجملة لرفع الشك في لقاء الله لموسى أو لرفع الشك في لقاء النبي صلى الله عليه وسلم لموسى ليلة الإسراء ، وأوردوا في صدد ذلك بعض أحاديث غير واردة في كتب الصحاح جاء في بعضها عزوا إلى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( أريت ليلة أسري بي موسى بن عمران رجلا آدم طوالا جعدا كأنه من رجال شنوءة . ورأيت عيسى رجلا مربوع الخلق إلى الحمرة والبياض سبط الرأس . ورأيت مالكا خازن النار والدجال ) . وفي بعضها عن أنس قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أسري بي إلى السماء : رأيت موسى يصلي في قبره ) . ومنهم من قال عزوا إلى السدي أن الجملة بمعنى ( فلا تكن في شك من تلقي موسى كتاب الله بالرضا والقبول ) ومنهم من قال : إنها بمعنى ( فلا تكن في شك من تلقي القرآن مثل تلقي موسى الكتاب ) وأورد الزمخشري الذي قال القول الأخير آية يونس هذه : { فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فسئل الذين يقرؤون الكتاب من قبلك } [ 94 ] ليؤيد قوله . والأرجح فيما يتبادر لنا أن الضمير في { لقائه } يعود إلى الكتاب ؛ لأنه الأقرب ويكون التأويل الأخير هو الأكثر وجاهة والأكثر انسجاما مع روح الآيتين ويكون معنى { لقائه } هو تلقيه والله أعلم .

تعليق على الآية

{ وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما

صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون }

وضمير { لما صبروا } يحتمل أن يكون راجعا إلى بني إسرائيل كما يحتمل أن يكون إلى الأئمة ، ورجوعه إلى الأئمة أوجه ؛ لأنهم الأقرب إلى الجملة أولا ، ولأن الوصف لا يمكن أن يكون شاملا لجميع بني إسرائيل لا في زمن موسى ولا بعده ؛ لأن أسفار العهد القديم من لدن موسى {[1643]} قد سجلت انحرافات كثيرة دينية وخلقية لفئات كثيرة من بني إسرائيل كانت أحيانا غالبيتهم الكبرى . وهو ما رددته آيات قرآنية عديدة مكية ومدنية . وقد مر منها أمثلة عديدة مثل آية الأنعام [ 146 ] وآيات الأعراف [ 148-153 و 160- 170 ] وكان ترديده في القرآن أقوى وأشد وأوسع ؛ لأنه ربط بين مواقفهم من الرسالة المحمدية والقرآن وبين مواقف آبائهم وانحرافاتهم الدينية والخلقية في زمن موسى وبعده كما جاءت في آيات سورة البقرة { 40-149و 246-253 ] وسورة آل عمران [ 51-120 ] والنساء [ 44-52و 149-161 ] والمائدة [ 12-13 و 31-33و 41-45و 50-71 ] .

وجملة { لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون } صريحة الدلالة على سبب جعل الله تعالى منهم أئمة يهدون بأمره . والآيات التي ذكرنا أرقامها آنفا من مكية ومدنية ونصوص الأسفار الكثيرة جدا . ثم عدم إيمان من لم يؤمن منهم بالرسالة المحمدية التي ذكرت الآيات القرآنية أن صفات نبيها مكتوبة في التوراة ، وأنهم كانوا يعرفون أنها الحق ، وأن كتابها منزل من الله برغم إيمان بعضهم الذين استطاعوا التغلب على الأنانية والهوى كل ذلك قد أنهى وجود السبب المذكور كما هو المتبادر .


[1642]:انظر تفسيرها في تفسير الطبري والبغوي والخازن وابن كثير والكشاف للزمخشري.

[1643]:إن هذا مبثوث بكثرة في معظم اسفار العهد القديم بحيث لا يحتاج إلى إيراد الأمثلة فكل من تصفح هذه الأسفار اوشيئا منها يجد الدليل على ذلك. اقرأ إذا شئت كتابنا " تاريخ بني إسرائيل من أسفارهم "