قوله تعالى : { ولله ما في السموات وما في الأرض وكفى بالله وكيلاً } ، قال عكرمة عن ابن عباس : يعني شهيداً ، أن فيها عبيداً ، وقيل : دافعاً ومجيراً . فإن قيل : فأي فائدة في تكرار قوله تعالى : { ولله ما في السموات وما في الأرض } قيل : لكل واحد منهما وجه . أما الأول فمعناه : لله ما في السموات وما في الأرض ، وهو يوصيكم بالتقوى فاقبلوا وصيته . وأما الثاني فيقول : فإن لله ما في السموات وما في الأرض وكان الله غنياً ، أي : هو الغني ، وله الملك ، فاطلبوا منه ما تطلبون . وأما الثالث فيقول : { ولله ما في السموات وما في الأرض وكفى بالله وكيلاً } أي : له الملك ، فاتخذوه وكيلاً ، ولا تتوكلوا على غيره .
ثم كرر إحاطة ملكه لما في السماوات وما في الأرض ، وأنه على كل شيء وكيل ، أي : عالم قائم بتدبير الأشياء على وجه الحكمة ، فإن ذلك من تمام الوكالة ، فإن الوكالة تستلزم العلم بما هو وكيل عليه ، والقوة والقدرة على تنفيذه وتدبيره ، وكون ذلك التدبير على وجه الحكمة والمصلحة ، فما نقص من ذلك فهو لنقص بالوكيل ، والله تعالى منزه عن كل نقص .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ولله ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا}: شهيدا، فلا شاهد أفضل من الله عز وجل أن من فيهما عباده وفي ملكه...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
ولله ملك جميع ما حوته السموات والأرض، وهو القيم بجميعه، والحافظ لذلك كله، لا يعزب عنه علم شيء منه، ولا يؤوده حفظه وتدبيره. فإن قال قائل: وما وجه تكرار قوله: {ولِلّهِ ما فِي السّمَوَاتِ وما فِي الأرْضِ} في آيتين إحداهما في إثر الأخرى؟ قيل: كرّر ذلك لاختلاف معنى الخبرين عما في السموات والأرض في الآيتين، وذلك أن الخبر عنه في إحدى الآيتين ذكر حاجته إلى بارئه وغنى بارئه عنه، وفي الأخرى حفظ بارئه إياه به وعلمه به وتدبيره. فإن قال: أفلا قيل: وكان الله غنيا حميدا وكفى بالله وكيلاً؟ قيل: إن الذي في الآية التي قال فيها: {وكانَ اللّهُ غَنِيّا حَمِيدا} مما صلح أن يختم ما ختم به من وصف الله بالغني وأنه محمود ولم يذكر فيها ما يصلح أن يختم بوصفه معه بالحفظ والتدبير، فلذلك كرّر قوله: {ولِلّهِ ما فِي السّمَوَاتِ وَما فِي الأرْضِ}.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
قَطَعَ الأسرار عن التَّعلُّق بالأغيار بأن عرَّفهم انفراده بمُلْكِ ما في السموات والأرض، ثم أطمعهم في حسن تولِّيه، وقيامه بما يحتاجون إليه بجميل اللطف وحسن الكفاية بقوله: {وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلاً} يصلح يملك حالك ولا يختزل مالك...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{للَّهِ مَا فِي السموات وَمَا فِي الأرض} تقرير لما هو موجب تقواه ليتقوه فيطيعوه ولا يعصوه، لأن الخشية والتقوى أصل الخير كله...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
ثم جاء بعد ذلك قوله {ولله ما في السماوات وما في الأرض، وكفى بالله وكيلاً} مقدمة للوعيد، فهذه وجوه تكرار هذا الخبر الواحد ثلاث مرات متقاربة... «الوكيل»: القائم بالأمور المنفذ فيها ما رآه...
فإن قيل: ما الفائدة في تكرير قوله {ولله ما في السموات وما في الأرض}
قلنا: إنه تعالى ذكر هذه الكلمات في هذه الآية ثلاث مرات لتقرير ثلاثة أمور: فأولها: أنه تعالى قال: {وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته} والمراد منه كونه تعالى جوادا متفضلا، فذكر عقيبه قوله {ولله ما في السموات وما في الأرض} والغرض تقرير كونه واسع الجود والكرم. وثانيها: قال {وإن تكفروا فإن لله ما في السموات وما في الأرض} والمراد منه أنه تعالى منزه عن طاعات المطيعين وعن ذنوب المذنبين، فلا يزداد جلاله بالطاعات، ولا ينقص بالمعاصي والسيئات، فذكر عقيبه قوله {فإن لله ما في السموات وما في الأرض} والغرض منه تقرير كونه غنيا لذاته عن الكل. وثالثها: قال: {ولله ما في السموات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا إن يشأ يذهبكم أيها الناس ويأت بآخرين وكان الله على ذلك قديرا} والمراد منه أنه تعالى قادر على الإفناء والإيجاد، فإن عصيتموه فهو قادر على إعدامكم وإفنائكم بالكلية، وعلى أن يوجد قوما آخرين يشتغلون بعبوديته وتعظيمه، فالغرض هاهنا تقدير كونه سبحانه وتعالى قادرا على جميع المقدورات، وإذا كان الدليل الواحد دليلا على مدلولات كثيرة فإنه يحسن ذكر ذلك الدليل ليستدل به على أحد تلك المدلولات، ثم يذكره مرة أخرى ليستدل به على الثاني، ثم يذكره ثالثا ليستدل به على المدلول الثالث، وهذه الإعادة أحسن وأولى من الاكتفاء بذكر الدليل مرة واحدة، لأن عند إعادة ذكر الدليل يخطر في الذهن ما يوجب العلم بالمدلول، فكان العلم الحاصل بذلك المدلول أقوى وأجلى، فظهر أن هذا التكرير في غاية الحسن والكمال. وأيضا فإذا أعدته ثلاث مرات وفرعت عليه في كل مرة إثبات صفة أخرى من صفات جلال الله تنبه الذهن حينئذ لكون تخليق السماوات والأرض دالا على أسرار شريفة ومطالب جليلة، فعند ذلك يجتهد الإنسان في التفكر فيها والاستدلال بأحوالها وصفاتها على صفات الخالق سبحانه وتعالى، ولما كان الغرض الكلي من هذا الكتاب الكريم صرف العقول والأفهام عن الاشتغال بغير الله إلى الاستغراق في معرفة الله، وكان هذا التكرير مما يفيد حصول هذا المطلوب ويؤكده، لا جرم كان في غاية الحسن والكمال.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
أمّا جملة {ولله ما في السماوات وما في الأرض وكفَى بالله وكيلاً} فهي عطف على جملة {ولقد وصيّنا}، أتى بها تمهيداً لقوله: {إن يشأ يذهبكم} فهي مراد بها معناها الكنائي الذي هو التمكّن من التصرّف بالإيجاد والإعدام، ولذلك لا يحسن الوقف على قوله: {وكيلاً}. فقد تكرّرت جملة {ولله ما في السماوات وما في الأرض} هنا ثلاث مرّات متتاليات متّحدة لفظاً ومعنى أصلياً، ومختلفة الأغراض الكنائية المقصودة منها، وسبقتها جملة نظيرتهنّ: وهي ما تقدّم من قوله: {ولله ما في السماوات وما في الأرض وكان الله بكلّ شيء محيطاً} [النساء: 126]. فحصل تكرارها أربع مرات في كلام متناسق. فأمّا الأولى السابقة فهي واقعة موقع التعليل لجملة {إنّ الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} [النساء: 116]، ولقوله: {ومن يشرك بالله فقد ضلّ ضلالاً بعيداً} [النساء: 116]، والتذييلِ لهما، والاحتراس لجملة {واتّخذ الله إبراهيم خليلاً} [النساء: 125]، كما ذكرناه آنفاً.
وأما الثانية التي بعدها فواقعة موقع التعليل لجملة {يغني الله كلاَّ من سعته}. وأما الثالثة التي تليها فهي علّة للجواب المحذوف، وهو جواب قوله: {وإن تكفروا}؛ فالتقدير: وإن تكفروا فإنّ الله غنيّ عن تقواكم وإيمانكم فإنّ له ما في السماوات وما في الأرض وكان ولا يزال غنيّاً حميداً. وأمّا الرابعة التي تليها فعاطفة على مقدّر معطوف على جواب الشرط تقديره: وإن تكفروا بالله وبرسوله فإنّ الله وكيل عليكم ووكيل عن رسوله وكفى بالله وكيلاً.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
{ولله ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا}
الوكيل هو من يتولى الأمر ويحفظه ويرعاه، والمعنى: كفى أن يكون الله تعالى حافظا للإنسان يتولاه، ويكلؤه ويقيه، فإذا كان الله تعالى غنيا عن عباده فعباده فقراء إليه، كما قال سبحانه: {والله الغني وأنتم الفقراء.} (محمد 38)، فعلى المؤمن أن يتق الله تعالى، وأن يعلم أنه مالك أمره، وهو الذي يتوكل عليه، وأن الله سبحانه يحب المتوكلين لأنهم يحسون بقدرته وعظم سلطانه، فكل متوكل عليه سبحانه يحس بعظم سلطان ربه، وضآلة سلطانه وقدره وذلك إيمان صادق، إذا قام بما يستطيع وما تمكنه قدرته المحدودة، ويترك بعد ذلك الأمر لربه، وهنا أمر يجب أن نشير إليه، وهو تكرار قوله تعالى:
{ولله ما في السماوات وما في الأرض} فقد ذكر ذلك القول السامي ثلاث مرات، فلماذا كان ذلك التكرار؟ إنه بلا شك بهذا التكرار يتأكد المعنى الذي يشتمل عليه القول، ولكن هذا التوكيد للمعنى جاء في كل مرة مبينا معنى خاصا، فالذكر الأول لتربية الإحساس بعدله، وعظم سلطانه وسعة رحمته، وأنه تسع رحمته كل الناس، فينصف المظلوم، ويبسط الرزق لذي الفاقة، فلا يضيق أحد الزوجين بالفراق بل الله سبحانه يكلؤه، ويسعه برحمته، وذكر ذلك القول في المرة الثانية لبيان استغنائه عن خلقه، وأن تقواهم لمصلحة أنفسهم ولخيرهم وليس له بها حاجة بل هو الغنى المحمود دائما. وذكر هذا الكلام في المرة الثالثة لبيان حاجة الناس إليه، وأنهم فقراء إليه في مقابل غناه عنهم تعالى الله علوا كبيرا.
وبعد هذا بين سبحانه قدرته القاهرة، وأنه هو الذي أنشأ الناس وطالبهم بالعبادة وأن من أنشأ يستطيع الإفناء ويستطيع التبديل والتغيير في خلقه فيستبدل بالناس ناسا، وبالأقوام أقواما ولذلك قال سبحانه: {إن يشأ يذهبكم أيها الناس ويأت بآخرين وكان الله على ذلك قديرا}.
ومجيء المقولة لثالث مرة لطمأنة الإنسان أن الله يضمن ويحفظ مقومات الحياة فلن تتمرد الشمس يوما ولا تشرق أو يتمرد الهواء ولا يهب، أو تضن الأرض عليك بعناصرها لأن كل هذه الأمور مسخرة بأمر الله الذي خلقك وقد خلقها وقدر فيها قوتك.
ولذلك يوضح ربنا: أنا الوكيل الذي أكلفكم وأكفيكم وأغنيكم عن كل وكيل.
والوكيل هو الذي يقوم لك بمهامك وتجلس أنت مرتاح البال والإنسان منا عندما يوكل عنه وكيلا ليقوم ببعض الأعمال يحس بالسعادة على الرغم من أن هذا الوكيل الذي من البشر قد يخطئ أو يضطرب أو يخون أو يفقد حكمته أو يرتشي لكن الحق بكامل قدرته يطمئن العبد أنه الوكيل القادر، فلتطمئن إلى أن مقومات وجودك ثابتة فسبحانه مالك الشمس فلن تخرج عن تسخيرها ومالك المياه ومالك الريح ومالك عناصر الأرض كلها ومادام الله هو المليك فهو الحفيظ على كل هذه الأشياء وهو نعم الوكيل لأنه وكيل قادر وليس له مصلحة.