معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{فَمَآ أُوتِيتُم مِّن شَيۡءٖ فَمَتَٰعُ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَاۚ وَمَا عِندَ ٱللَّهِ خَيۡرٞ وَأَبۡقَىٰ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَلَىٰ رَبِّهِمۡ يَتَوَكَّلُونَ} (36)

قوله تعالى : { فما أوتيتم من شيء } من رياش الدنيا ، { فمتاع الحياة الدنيا } ، ليس من زاد المعاد ، { وما عند الله } من الثواب ، { خير وأبقى للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون } فيه بيان أن المؤمن والكافر يستويان في أن الدنيا متاع لهما يتمتعان بها فإذا صارا إلى الآخرة كان ما عند الله خير للمؤمن .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{فَمَآ أُوتِيتُم مِّن شَيۡءٖ فَمَتَٰعُ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَاۚ وَمَا عِندَ ٱللَّهِ خَيۡرٞ وَأَبۡقَىٰ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَلَىٰ رَبِّهِمۡ يَتَوَكَّلُونَ} (36)

{ 36-39 } { فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ * وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ }

هذا تزهيد في الدنيا وترغيب في الآخرة ، وذكر الأعمال الموصلة إليها فقال : { فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ } من ملك ورياسة ، وأموال وبنين ، وصحة وعافية بدنية . { فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } لذة منغصة منقطعة . { وَمَا عِنْدَ اللَّهِ } من الثواب الجزيل ، والأجر الجليل ، والنعيم المقيم { خَيْرٌ } من لذات الدنيا ، خيرية لا نسبة بينهما { وَأَبْقَى } لأنه نعيم لا منغص فيه ولا كدر ، ولا انتقال .

ثم ذكر لمن هذا الثواب فقال : { لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } أي : جمعوا بين الإيمان الصحيح ، المستلزم لأعمال الإيمان الظاهرة والباطنة ، وبين التوكل الذي هو الآلة لكل عمل ، فكل عمل لا يصحبه التوكل فغير تام ، وهو الاعتماد بالقلب على الله في جلب ما يحبه العبد ، ودفع ما يكرهه مع الثقة به تعالى .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{فَمَآ أُوتِيتُم مِّن شَيۡءٖ فَمَتَٰعُ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَاۚ وَمَا عِندَ ٱللَّهِ خَيۡرٞ وَأَبۡقَىٰ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَلَىٰ رَبِّهِمۡ يَتَوَكَّلُونَ} (36)

36

( فما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا ، وما عند الله خير وأبقى ) . .

إن في هذه الأرض متاعاً جذاباً براقاً ، وهناك أرزاق وأولاد وشهوات ولذائذ وجاه وسلطان ؛ وهناك نعم آتاها الله لعباده في الأرض تلطفا منه وهبة خالصة ، لا يعلقها بمعصية ولا طاعة في هذه الحياة الدنيا . وإن كان يبارك للطائع - ولو في القليل - ويمحق البركة من العاصي ولو كان في يده الكثير .

ولكن هذا كله ليس قيمة ثابتة باقية . إنما هو متاع . متاع محدود الأجل . لا يرفع ولا يخفض ، ولا يعد بذاته دليل كرامة عند الله أو مهانة ؛ ولا يعتبر بذاته علامة رضى من الله أو غضب . إنما هو متاع . ( وما عند الله خير وأبقى ) . . خير في ذاته . وأبقى في مدته . فمتاع الحياة الدنيا زهيد حين يقاس إلى ما عند الله ، ومحدود حين يقاس إلى الفيض المنساب . ومتاع الحياة الدنيا معدود الأيام . أقصى أمده للفرد عمر الفرد ، وأقصى أمده للبشرية عمر هذه البشرية ؛ وهو بالقياس إلى أيام الله ومضة عين أو تكاد .

وبعد تقرير هذه الحقيقة يأخذ في بيان صفة المؤمنين الذين يذخر الله لهم ما هو خير وأبقى . .

ويبدأ بصفة الإيمان : ( وما عند الله خير وأبقى للذين آمنوا ) . . وقيمة الإيمان أنه معرفة بالحقيقة الأولى التي لا تقوم في النفس البشرية معرفة صحيحة لشيء في هذا الوجود إلا عن طريقها . فمن طريق الإيمان بالله ينشأ إدراك لحقيقة هذا الوجود ، وأنه من صنع الله ؛ وبعد إدراك هذه الحقيقة يستطيع الإنسان أن يتعامل مع الكون وهو يعرف طبيعته كما يعرف قوانينه التي تحكمه . ومن ثم ينسق حركته هو مع حركة هذا الوجود الكبير ، ولا ينحرف عن النواميس الكلية فيسعد بهذا التناسق ، ويمضي مع الوجود كله إلى بارىء الوجود في طاعة واستسلام وسلام . وهذه الصفة لازمة لكل إنسان ، ولكنها ألزم ما تكون للجماعة التي تقود البشرية إلى بارئ الوجود .

وقيمة الإيمان كذلك الطمأنينة النفسية ، والثقة بالطريق ، وعدم الحيرة أو التردد ، أو الخوف أو اليأس . وهذه الصفات لازمة لكل إنسان في رحلته على هذا الكوكب ؛ ولكنها ألزم ما تكون للقائد الذي يرتاد الطريق ، ويقود البشرية في هذا الطريق .

وقيمة الإيمان التجرد من الهوى والغرض والصالح الشخصي وتحقيق المغانم . إذ يصبح القلب متعلقاً بهدف أبعد من ذاته ؛ ويحس أن ليس له من الأمر شيء ، إنما هي دعوة الله ، وهو فيها أجير عند الله ! وهذا الشعور ألزم ما يكون لمن توكل إليه مهمة القيادة كي لا يقنط إذا أعرض عنه القطيع الشارد أو أوذي في الدعوة ؛ ولا يغتر إذا ما استجابت له الجماهير ، أو دانت له الرقاب . فإنما هو أجير .

ولقد آمنت العصبة الأولى من المسلمين إيماناً كاملاً أثر في نفوسهم وأخلاقهم وسلوكهم تأثيراً عجيباً . وكانت صورة الإيمان في نفس البشرية قد بهتت وغمضت حتى فقدت تأثيرها في أخلاق الناس وسلوكهم ، فلما أن جاء الإسلام أنشأ صورة للإيمان حية مؤثرة فاعلة تصلح بها هذه العصبة للقيادة التي وضعت على عاتقها .

يقول الأستاذ أبو الحسن الندوي في كتابه : " ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين " . عن هذا الإيمان :

" انحلت العقدة الكبرى - عقدة الشرك والكفر - فانحلت العقد كلها ؛ وجاهدهم الرسول جهاده الأول ، فلم يحتج إلى جهاد مستأنف لكل أمر ونهي ، وانتصر الإسلام على الجاهلية في المعركة الأولى ، فكان النصر حليفه في كل معركة ؛ وقد دخلوا في السلم كافة بقلوبهم وجوارحهم وأرواحهم كافة ، لا يشاقون الرسول من بعد ما تبين لهم الهدى ، ولا يجدون في أنفسهم حرجاً مما قضى ، ولا يكون لهم الخيرة من بعد ما أمر أو نهى . . . . "

" حتى إذا خرج حظ الشيطان من نفوسهم - بل خرج حظ نفوسهم من نفوسهم - وأنصفوا من أنفسهم إنصافهم من غيرهم ، وأصبحوا في الدنيا رجال الآخرة ، وفي اليوم رجال الغد ، لا تجزعهم مصيبة ، ولا تبطرهم نعمة ، ولا يشغلهم فقر ، ولا يطغيهم غنى ، ولا تلهيهم تجارة ، ولا تستخفهم قوة ، ولا يريدون علواً في الأرض ولا فسادا ، وأصبحوا للناس القسطاس المستقيم ، قوامين بالقسط شهداء لله على أنفسهم أو الوالدين والأقربين . . وطأ لهم أكناف الأرض ، وأصبحوا عصمة للبشرية ، ووقاية للعالم . وداعية إلى دين الله . . . "

ويقول عن تأثير الإيمان الصحيح في الأخلاق والميول :

" كان الناس عرباً وعجماً يعيشون حياة جاهلية ، يسجدون فيها لكل ما خلق لأجلهم ويخضع لإرادتهم وتصرفهم ، لا يثيب الطائع بجائزة ، ولا يعذب العاصي بعقوبة ، ولا يأمر ولا ينهى ؛ فكانت الديانة سطحية طافية في حياتهم ، ليس لها سلطان على أرواحهم ونفوسهم وقلوبهم ، ولا تأثير لها في أخلاقهم واجتماعهم . كانوا يؤمنون بالله كصانع أتم عمله واعتزل وتنازل عن مملكته لأناس خلع عليهم خلعة الربوبية ؛ فأخذوا بأيديهم أزمة الأمر ، وتولوا إدارة المملكة وتدبير شؤونها وتوزيع أرزاقها ، إلى غير ذلك من مصالح الحكومة المنظمة . فكان إيمانهم بالله لا يزيد على معرفة تاريخية ، وكان إيمانهم بالله ، وإحالتهم خلق السماوات والأرض إلى الله لا يختلف عن جواب تلميذ من تلاميذ فن التاريخ ، يقال له : من بنى هذا القصر العتيق ? فيسمي ملكا من الملوك الأقدمين من غير أن يخافه ويخضع له ؛ فكان دينهم عارياً عن الخشوع لله ودعائه ، وما كانوا يعرفون عن الله ما يحببه إليهم ، فكانت معرفتهم مبهمة غامضة ، قاصرة مجملة ، لا تبعث في نفوسهم هيبة ولا محبة . . .

. . . انتقل العرب والذين أسلموا من هذه المعرفة العليلة الغامضة الميتة إلى معرفة عميقة واضحة روحية ذات سلطان على الروح والنفس والقلب والجوارح ، ذات تأثير في الأخلاق والاجتماع ، ذات سيطرة على الحياة وما يتصل بها . آمنوا بالله الذي له الأسماء الحسنى والمثل الأعلى . آمنوا برب العالمين ، الرحمن الرحيم ، مالك يوم الدين ، الملك ، القدوس ، السلام ، المؤمن ، المهيمن ، العزيز ، الجبار ، المتكبر ، الخالق ، البارئ ، المصور ، العزيز ، الحكيم ، الغفور ، الودود ، الرؤوف ، الرحيم ، له الخلق والأمر ، بيده ملكوت كل شيء ، يجير ولا يجار عليه . . . إلى آخر ما جاء في القرآن من وصفه . يثيب بالجنة ويعذب بالنار ، ويبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ، يعلم الخبء في السماوات والأرض ، يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور . إلى آخر ما جاء في القرآن من قدرته وتصرفه وعلمه . فانقلبت نفسيتهم بهذا الإيمان الواسع العميق الواضح انقلاباً عجيباً . فإذا آمن أحد بالله وشهد أن لا إله إلا الله انقلبت حياته ظهراً لبطن . تغلغل الإيمان في أحشائه وتسرب إلى جميع عروقه ومشاعره ، وجرى منه مجرى الروح والدم ، واقتلع جراثيم الجاهلية وجذورها ، وغمر العقل والقلب بفيضانه ، وجعل منه رجلا غير الرجل ، وظهر منه من روائع الإيمان واليقين والصبر والشجاعة ، ومن خوارق الأفعال والأخلاق ما حير العقل والفلسفة وتاريخ الأخلاق ، ولا يزال موضع حيرة ودهشة منه إلى الأبد ، وعجز العلم عن تعليله بشيء غير الإيمان الكامل العميق " .

" وكان هذا الإيمان مدرسة خلقية وتربية نفسية تملي على صاحبها الفضائل الخلقية من صرامة إرادة وقوة نفس ، ومحاسبتها والإنصاف منها ، وكان أقوى وازع عرفه تاريخ الأخلاق وعلم النفس عن الزلات الخلقية والسقطات البشرية ، حتى إذا جمحت السورة البهيمية في حين من الأحيان ، وسقط الإنسان سقطة وكان ذلك حيث لا تراقبه عين ، ولا تتناوله يد القانون ، تحول هذا الإيمان نفساً لوامة عنيفة ، ووخزاً لاذعاً للضمير ، وخيالاً مروعاً ، لا يرتاح معه صاحبه حتى يعترف بذنبه أمام القانون ، ويعرض نفسه للعقوبة الشديدة ، ويتحملها مطمئناً مرتاحاً ، تفادياً من سخط الله وعقوبة الآخرة " . .

" . . . وكان هذا الإيمان حارساً لأمانة الإنسان وعفافه وكرامته ، يملك نفسه النزّع أمام المطامع والشهوات الجارفة ، وفي الخلوة والوحدة حيث لا يراه أحد ، وفي سلطانه ونفوذه حيث لا يخاف أحداً . وقد وقع في تاريخ الفتح الإسلامي من قضايا العفاف عند المغنم ، وأداء الأمانات إلى أهلها ، والإخلاص لله ، ما يعجز التاريخ البشري عن نظائره ، وما ذاك إلا نتيجة رسوخ الإيمان ، ومراقبة الله واستحضار علمه في كل مكان وزمان " .

" وكانوا قبل هذا الإيمان في فوضى من الأفعال والأخلاق والسلوك والأخذ والترك والسياسة والاجتماع ، لا يخضعون لسلطان ، ولا يقرون بنظام ، ولا ينخرطون في سلك ، يسيرون على الأهواء ، ويركبون العمياء ، ويخبطون خبط عشواء . فأصبحوا الآن في حظيرة الإيمان والعبودية لا يخرجون منها ، واعترفوا لله بالملك والسلطان ، والأمر والنهي ، ولأنفسهم بالرعوية والعبودية والطاعة المطلقة ، وأعطوا من أنفسهم المقادة ، واستسلموا للحكم الإلهي استسلاما كاملاً ووضعوا أوزارهم ، وتنازلوا عن أهوائهم وأنانيتهم ، وأصبحوا عبيداً لا يملكون مالاً ولا نفساً ولا تصرفاً في الحياة إلا ما يرضاه الله ويسمح به ، لا يحاربون ولا يصالحون

إلا بإذن الله ، ولا يرضون ولا يسخطون ، ولا يعطون ولا يمنعون ، ولا يصلون ولا يقطعون إلا بإذنه ووفق أمره " .

وهذا هو الإيمان الذي تشير إليه الآية وهي تصف الجماعة التي اختيرت لقيادة البشرية بهذه العقيدة . ومن مقضيات هذا الإيمان التوكل على الله . ولكن القرآن يفرد هذه الصفة بالذكر ويميزها :

( وعلى ربهم يتوكلون ) . .

وهذا التقديم والتأخير في تركيب الجملة يفيد قصر التوكل على ربهم دون سواه . والإيمان بالله الواحد يقتضي التوكل عليه دون سواه . فهذا هو التوحيد في أول صورة من صوره . إن المؤمن يؤمن بالله وصفاته ، ويستيقن أنه لا أحد في هذا الوجود يفعل شيئاً إلا بمشيئته ، وأنه لا شيء يقع في هذا الوجود إلا بإذنه . ومن ثم يقصر توكله عليه ، ولا يتوجه في فعل ولا ترك لمن عداه .

وهذا الشعور ضروري لكل أحد ، كي يقف رافع الرأس لا يحني رأسه إلا لله . مطمئن القلب لا يرجو ولا يرهب أحدا إلا الله . ثابت الجأش في الضراء ؛ قرير النفس في السراء ، لا تستطيره نعماء ولا بأساء . . ولكن هذا الشعور أشد ضرورة للقائد ، الذي يحتمل تبعة ارتياد الطريق .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{فَمَآ أُوتِيتُم مِّن شَيۡءٖ فَمَتَٰعُ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَاۚ وَمَا عِندَ ٱللَّهِ خَيۡرٞ وَأَبۡقَىٰ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَلَىٰ رَبِّهِمۡ يَتَوَكَّلُونَ} (36)

يقول تعالى محقرا بشأن الحياة الدنيا وزينتها ، وما فيها من الزهرة والنعيم الفاني ، بقوله : { فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } أي : مهما حصلتم وجمعتم فلا تغتروا به ، فإنما هو متاع الحياة الدنيا ، وهي دار دنيئة فانية زائلة لا محالة ، { وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى } أي : وثواب الله خير من الدنيا ، وهو باق سرمدي ، فلا تقدموا الفاني على الباقي ؛ ولهذا قال : { لِلَّذِينَ آمَنُوا } أي : للذين صبروا على ترك الملاذ في الدنيا ، { وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } أي : ليعينهم على الصبر في أداء الواجبات وترك المحرمات .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{فَمَآ أُوتِيتُم مِّن شَيۡءٖ فَمَتَٰعُ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَاۚ وَمَا عِندَ ٱللَّهِ خَيۡرٞ وَأَبۡقَىٰ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَلَىٰ رَبِّهِمۡ يَتَوَكَّلُونَ} (36)

وقوله : فَمَا أُوتِيُتمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الحَياةِ الدّنيْا يقول تعالى ذكره : فما أعطيتم أيها الناس من شيء من رياش الدنيا من المال والبنين ، فمتاع الحياة الدنيا ، يقول تعالى ذكره : فهو متاع لكم تتمتعون به في الحياة الدنيا ، وليس من دار الاَخرة ، ولا مما ينفعكم في معادكم وَما عِنْدَ اللّهِ خَيْرٌ وأبْقَى يقول تعالى ذكره : والذي عند الله لأهل طاعته والإيمان به في الاَخرة ، خير مما أوتيتموه في الدنيا من متاعها وأبقى ، لأن ما أوتيتم في الدنيا فإنه نافد ، وما عند الله من النعيم في جنانه لأهل طاعته باقٍ غير نافد لِلّذِينَ آمنوا : يقول : وما عند الله للذين آمنوا به ، وعليه يتوكلون في أمورهم ، وإليه يقومون في أسبابهم ، وبه يثقون ، خير وأبقى مما أوتيتموه من متاع الحياة الدنيا .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{فَمَآ أُوتِيتُم مِّن شَيۡءٖ فَمَتَٰعُ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَاۚ وَمَا عِندَ ٱللَّهِ خَيۡرٞ وَأَبۡقَىٰ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَلَىٰ رَبِّهِمۡ يَتَوَكَّلُونَ} (36)

تفريع على جملة { ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا } [ الشورى : 27 ] إلى آخرها ، فإنها اقتضت وجود منعَم عليه ومحْروم ، فذُكِّروا بأن ما أوتوه من رزق هو عَرَض زائل ، وأن الخير في الثواب الذي ادخره الله للمؤمنين ، مع المناسبة لما سبقه من قوله : { ويَعْفُ عن كثير } [ الشورى : 34 ] من سلامة الناس من كثير من أهوال الأسفار البحرية فإن تلك السلامة نعمة من نعم الدنيا ، ففرعت عليه الذكرى بأن تلك النعمة الدنيوية نعمة قصيرة الزمان صائرة إلى الزوال فلا يَجعلها الموفَّقُ غاية سعيه وليسعَ لعمل الآخرة الذي يأتي بالنعيم العظيم الدائم وهو النعيم الذي ادّخره الله عنده لعباده المؤمنين الصالحين .

والخطاب في قوله : أوتيتم } للمشركين جرياً على نسق الخطاب السابق في قوله : { وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم } [ الشورى : 30 ] وقوله : { وما أنتم بمعجزين في الأرض وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير } [ الشورى : 31 ] ، وينسحب الحكم على المؤمنين بلحن الخطاب ، ويجوز أن يكون الخطاب لِجميع الأمة ، فالفاء الأولى للتفريع ، و{ مَا } موصولة ضمنت معنى الشرط والفاء الثانية في قوله : { فمتاع الحياة الدنيا } داخلة على خبر { ما } الموصولة لتضمنها معنى الشرط وإنما لم نَجعل { ما } شرطية لأن المعنى على الإخبار لا على التعليق ، وإنما تضمن معنى الشرط وهو مجرد ملازمة الخبر لمدلول اسم الموصول كما تقدم نظيره آنفاً في قوله : { وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم } [ الشورى : 30 ] في قراءة غير نافع وابننِ عامر .

ويتعلق قوله : { خَيْرٌ وأبقى للذين آمنوا } على وجه التنازع ، واتبعت صلة ( الذين آمنوا ) بما يدل على عملهم بإيمانهم في اعتقادهم فعطف على الصلة أنهم يتوكلون على ربّهم دون غيره . وهذا التوكل إفراد لله بالتوجُّه إليه في كل ما تعجز عنه قدرة العبد ، فإن التوجه إلى غيره في ذلك ينافي التوحيد لأن المشركين يتوكلون على آلهتهم أكثر من توكلهم على الله ، ولكون هذا متمّماً لمعنى ( الذين آمنوا ) عطف على الصلة ولم يُؤت معه باسم موصول بخلاف ما ورد بعده .