{ كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ } فيه خير كثير ، وعلم غزير ، فيه كل هدى من ضلالة ، وشفاء من داء ، ونور يستضاء به في الظلمات ، وكل حكم يحتاج إليه المكلفون ، وفيه من الأدلة القطعية على كل مطلوب ، ما كان به أجل كتاب طرق العالم منذ أنشأه اللّه .
{ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ } أي : هذه الحكمة من إنزاله ، ليتدبر الناس آياته ، فيستخرجوا علمها ويتأملوا أسرارها وحكمها ، فإنه بالتدبر فيه والتأمل لمعانيه ، وإعادة الفكر فيها مرة بعد مرة ، تدرك بركته وخيره ، وهذا يدل على الحث على تدبر القرآن ، وأنه من أفضل الأعمال ، وأن القراءة المشتملة على التدبر أفضل من سرعة التلاوة التي لا يحصل بها هذا المقصود .
{ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ } أي : أولو العقول الصحيحة ، يتذكرون بتدبرهم لها كل علم ومطلوب ، فدل هذا على أنه بحسب لب الإنسان وعقله يحصل له التذكر والانتفاع بهذا الكتاب .
وعند تقرير مبدأ الحق في خلافة الأرض ، وفي الحكم بين الناس . . وقبل أن تمضي قصة داود إلى نهايتها في السياق . . يرد هذا الحق إلى أصله الكبير . أصله الذي تقوم عليه السماء والأرض وما بينهما . أصله العريق في كيان هذا الكون كله . وهو أشمل من خلافة الأرض ، ومن الحكم بين الناس . وهو أكبر من هذه الأرض . كما أنه أبعد مدى من الحياة الدنيا . إذ يتناول صميم الكون كما يتناول الحياة الآخرة . ومنه وعليه جاءت الرسالة الأخيرة ، وجاء الكتاب المفسر لذلك الحق الشامل الكبير :
وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلاً . ذلك ظن الذين كفروا . فويل للذين كفروا من النار . أن نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض ? أن نجعل المتقين كالفجار ? كتاب أنزلناه إليك مبارك ، ليدبروا آياته ، وليتذكر أولو الألباب . .
وهكذا : في هذه الآيات الثلاث ، تتقرر تلك الحقيقة الضخمة الهائلة الشاملة الدقيقة العميقة . بكل جوانبها وفروعها وحلقاتها . .
إن خلق السماء والأرض وما بينهما لم يكن باطلاً ، ولم يقم على الباطل . إنما كان حقاً وقام على الحق . ومن هذا الحق الكبير تتفرع سائر الحقوق . الحق في خلافة الأرض . والحق في الحكم بين الخلق . والحق في تقويم مشاعر الناس وأعمالهم ؛ فلا يكون الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض ؛ ولا يكون وزن المتقين كوزن الفجار . والحق الذي جاء به الكتاب المبارك الذي أنزله الله ليتدبروا آياته وليتذكر أصحاب العقول ما ينبغي أن يتذكروه من هذه الحقائق الأصيلة ، التي لا يتصورها الكافرون ، لأن فطرتهم لا تتصل بالحق الأصيل في بناء هذا الكون ، ومن ثم يسوء ظنهم بربهم ولا يدركون من أصالة الحق شيئاً . . ( ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار ) . .
إن شريعة الله للناس طرف من ناموسه في خلق الكون . وإن كتابه المنزل بيان للحق الذي يقوم عليه الناموس . وإن العدل الذي يطالب به الخلفاء في الأرض والحكام بين الناس إنما هو طرف من الحق الكلي ، لا يستقيم أمر الناس إلا حين يتناسق مع بقية الأطراف . وإن الانحراف عن شريعة الله والحق في الخلافة والعدل في الحكم إنما هو انحراف عن الناموس الكوني الذي قامت عليه السماء والأرض ؛ وهو أمر عظيم إذن وشر كبير ، واصطدام مع القوى الكونية الهائلة لا بد أن يتحطم في النهاية ويزهق . فما يمكن أن يصمد ظالم باغ منحرف عن سنة الله وناموس الكون وطبيعة الوجود . . ما يمكن أن يصمد بقوته الهزيلة الضئيلة لتلك القوى الساحقة الهائلة ، ولعجلة الكون الجبارة الطاحنة !
وهذا ما ينبغي أن يتدبره المتدبرون وأن يتذكره أولو الألباب . .
ولما كان القرآن يرشد إلى المقاصد الصحيحة والمآخذ العقلية الصريحة ، قال : { كِتَابٌ أَنزلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الألْبَابِ } أي : ذوو العقول وهي الألباب ، جمع لب ، وهو العقل .
قال الحسن البصري : والله ما تَدَبُّره بحفظ حروفه وإضاعة حدوده ، حتى إن أحدهم ليقول : قرأت القرآن كله ما يرى له القرآنُ في خلق ولا عمل . رواه ابن أبي حاتم .
وقوله : ( كِتابٌ أنْزَلْناهُ إلَيْكَ ) : يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : وهذا القرآن كِتَابٌ أنْزَلْناهُ إلَيْكَ يا محمد مُبَارَكٌ . ( لِيَدّبّرُوا آياتِهِ ) : يقول : ليتدبّروا حُجَج الله التي فيه ، وما شرع فيه من شرائعه ، فيتعظوا ويعملوا به .
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة القرّاء : لِيَدّبّرُوا بالياء ، يعني : ليتدبّر هذا القرآن من أرسلناك إليه من قومك يا محمد . وقرأه أبو جعفر وعاصم «لِتَدّبّرُوا آياتِهِ » بالتاء ، بمعنى : لتتدبره أنت يا محمد وأتباعك .
وأولى القراءتين عندنا بالصواب في ذلك أن يقال : إنهما قراءتان مشهورتان صحيحتا المعنى ، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب وَليَتَذَكّرَ أُولُو الأَلْبَابِ يقول : وليعتبر أولو العقول والحِجَا ما في هذا الكتاب من الاَيات ، فيرتدعوا عما هم عليه مقيمين من الضلالة ، وينتهوا إلى ما دلهم عليه من الرشاد وسبيل الصواب . وبنحو الذي قلنا في معنى قوله : ( أُولُوا الأَلْبابِ ) : قال أهل التأويل : ذكر من قال ذلك : حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ أُولُوا الأَلْباب قال : أولو العقول من الناس .
وقد بيّنا ذلك فيما مضى قبل بشواهده ، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع .
{ كتاب أنزلناه إليك مبارك } نفاع ، وقرئ بالنصب على الحال . { ليدبروا آياته } ليتفكروا فيها فيعرفوا ما يدبر ظاهرها من التأويلات الصحيحة والمعاني المستنبطة وقرئ ليتدبروا على الأصل ولتدبروا أي أنت وعلماء أمتك . { وليتذكر أولوا الألباب } وليتعظ به ذوو العقول السليمة ، أو ليستحضروا ما هو كالمركوز في عقولهم من فرط تمكنهم من معرفته بما نصب عليه من الدلائل ، فإن الكتب الإلهية بيان لما لا يعرف إلا من الشرع ، وإرشاد إلى ما يستقل به العقل ، ولعل التدبر للمعلوم الأول والتذكر الثاني .
ثم أحال في طلب الإيمان والتقوى على كتابه العزيز بقوله : { كتاب أنزلناه } المعنى : هذا كتاب لمن أراد التمسك بالإيمان والقربة إلينا ، وفي هذه الآيات اقتضاب وإيجاز بديع حسب إعجاز القرآن العزيز ووصفه بالبركة لأن أجمعها فيه ، لأنه يورث الجنة وينقذ من النار ، ويحفظ المرء في حال الحياة الدنيا ويكون سبب رفعة شأنه في الحياة الآخرة .
وقرأ جمهور الناس : «ليدّبّروا » بشد الدال والباء ، والضمير للعالم . وقرأ حفص عن عاصم : «لتدبروا » بالتاء على المخاطبة . وقرأ أبو بكر عنه : «لتدَبروا » بتخفيف الدال ، أصله : تتدبروا ، وظاهر هذه الآية يعطي أن التدبر من أسباب إنزال القرآن ، فالترتيل إذاً أفضل لهذا ، إذ التدبر لا يكون إلا مع الترتيل ، وباقي الآية بين .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{مبارك} هو بركة لمن عمل بما فيه.
{ليدبروا آياته} ليسمعوا آيات القرآن.
{وليتذكر} بما فيه من المواعظ {أولوا الألباب} أهل اللب والعقل.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله:"كِتابٌ أنْزَلْناهُ إلَيْكَ": يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: وهذا القرآن "كِتَابٌ أنْزَلْناهُ إلَيْكَ يا محمد مُبَارَكٌ".
"لِيَدّبّرُوا آياتِهِ "يقول: ليتدبّروا حُجَج الله التي فيه، وما شرع فيه من شرائعه، فيتعظوا ويعملوا به...
"وَليَتَذَكّرَ أُولُو الأَلْبَابِ "يقول: وليعتبر أولو العقول والحِجَا ما في هذا الكتاب من الآيات، فيرتدعوا عما هم عليه مقيمين من الضلالة، وينتهوا إلى ما دلهم عليه من الرشاد وسبيل الصواب.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{ليدبروا آياته} ليعرفوا ما لهم وما عليهم وما يؤتى وما يتقى...إنما يعرف ذلك بالتأمل والتدبر والتفكر.
{وليتذكر أولوا الألباب} أي ليتعظ أولو الألباب مما فيه من المواعظ والآداب وغير ذلك.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
وصفه بأنه مبارك، لأن به يستديم الناس ما أنعم الله عليهم به، وبين أن غرضه تعالى بإنزال هذا القرآن "ليدبروا آياته "بأن يتفكروا في أدلته...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
مبارك أي كبيرُ النّفْعِ، ويقال مباركٌ أي دائمٌ باقٍ لا ينسخه كتابٌ؛ مِنْ قولهم بَرَكَ الطيرُ على الماء، ويقاَل مباركٌ لِمَنْ آمَنَ به وصَدَّقَ، ثم إنه بَيَّنَ أَنَّ البركةَ في تَدَبُّرِهِ والتفكُّرِ في معانيه...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
تدبر الآيات:... التأمل الذي يؤدي إلى معرفة ما يدبر ظاهرها من التأويلات الصحيحة والمعاني الحسنة؛ لأن من اقتنع بظاهر المتلو، لم يحل منه بكثير طائل وكان مثله كمثل من له لقحة درور لا يحلبها، ومهرة نثور لا يستولدها.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
هذا كتاب لمن أراد التمسك بالإيمان والقربة إلينا، وفي هذه الآيات اقتضاب وإيجاز بديع حسب إعجاز القرآن العزيز، ووصفه بالبركة لأن أجمعها فيه؛ لأنه يورث الجنة وينقذ من النار، ويحفظ المرء في حال الحياة الدنيا، ويكون سبب رفعة شأنه في الحياة الآخرة...
وظاهر هذه الآية يعطي أن التدبر من أسباب إنزال القرآن، فالترتيل إذاً أفضل لهذا، إذ التدبر لا يكون إلا مع الترتيل.
جهود القرافي في التفسير 684 هـ :
تدبر الكلام هو رده إلى دبره، وهو المعنى الخفي بدليل مرشد له...
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي 685 هـ :
{وليتذكر أولوا الألباب}... ليستحضروا ما هو كالمركوز في عقولهم من فرط تمكنهم من معرفته بما نصب عليه من الدلائل، فإن الكتب الإلهية بيان لما لا يعرف إلا من الشرع، وإرشاد إلى ما يستقل به العقل، ولعل التدبر للمعلوم الأول والتذكر الثاني...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما ثبت بما ذكر من أول السورة إلى هنا ما ذكر في هذا الذكر من البراهين التي لا يأباها إلا مدخول الفكر مخالط العقل، ثبت أنه ذو الذكر والشرف الأعظم فقال تعالى منبهاً على ذلك تنبيهاً على أنه القانون الذي يعرف به الصلاح ليتبع والفساد ليجتنب مخبراً عن مبتدأ تقديره هو: {كتاب} أي له من العظمة ما لا يحاط به.
وصفه بقوله: {أنزلناه} أي بما من العظمة.
{إليك} وذلك من عظمته؛ لأنك اعظم الخلق.
ثم أخبر عن مبتدأ آخر مبين لما قبله على طريق الاستئناف فقال: {مبارك}.
ولما ذكر ما له من العظمة إشارة وعبارة، ذكر غاية إنزاله المأمور بها فقال:
ولما كان كل أحد مأموراً بأن ينتبه بكل ما يرى ويسمع على ما وراءه، ولم يكن في وسع كل أحد الوصول إلى النهاية في ذلك، قنع منهم بما دونها فأدغمت تاء التفعل في فاء الكلمة إشارة إلى ذلك كما تشير إليه قراءة أبي جعفر، وربما كانت قراءة الجماعة إشارة إلى الاجتهاد في فهم خفاياه.
ولما كان السياق للذكر، وأسند إلى خلاصة الخلق، وكان استحضار ما كان عند الإنسان وغفل عنه لا يشق لظهوره، أظهر التاء حثاً على بذل الجهد في إعمال الفكر والمداومة على ذلك، فإنه يفضي بعد المقدمات الظنية إلى أمور يقينية قطعية إما محسوسة أولها شاهد في الحس فقال: {وليتذكر} أي بعد التدبر تذكراً عظيماً جلياً -بما أشار إليه الإظهار.
{أولوا الألباب} أي كل ما أرشد إليه مما عرفه الله لهم في أنفسهم وفي الآفاق فإنهم يجدون ذلك معلوماً لهم بحس أو غيره في أنفسهم أو غيرها، لا يخرج شيء مما في القرآن عن النظر إلى شيء معلوم للإنسان لا نزاع له فيه أصلاً، ولكن الله تعالى يبديه لمن يشاء ويخفيه عمن يشاء {سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم} [فصلت: 53] وأظهره يوم القيامة فإنه مركوز في طبع كل أحد أن الرئيس لا يدع من تحت يده بغير حساب أصلاً...
محاسن التأويل للقاسمي 1332 هـ :
قال المهايميّ: أي لينظروا في ألفاظه وترتبيها ولوازمها. فيستخرجوا منها علوما بطريق الاستدلال...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
عقب الإمعان في تهديد المشركين وتجهيلهم على إعراضهم عن التدبر بحكمة الجزاء ويوم الحساب عليه والاحتجاج عليهم، أعرض الله عن خطابهم ووجّه الخطاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم بالثناء على الكتاب المنزل عليه، وكان هذا القرآن قد بيّن لهم ما فيه لهم مقنع، وحجاجاً هو لشبهاتهم مقلع، وأنه إن حَرَم المشركون أنفسهم من الانتفاع به فقد انتفع به أولو الألباب وهم المؤمنون، وفي ذلك إدماجُ الاعتزاز بهذا الكتاب لمن أنزل عليه ولمن تمسك به واهتدى بهديه من المؤمنين، وهذا نظير قوله تعالى عقب ذكر خلق الشمس والقمر: {مَا خَلَقَ الله ذلك إلاَّ بالحَقِّ يُفَصِّلُ الأَياتِ لِقَومٍ يَعْلَمُون} في أول سورة [يونس: 5]...
تنكير كِتابٌ للتعظيم، لأن الكتاب معلوم فما كان تنكيره إلا لتعظيم شأنه...
المبارك: المُنبَثّة فيه البركة وهي الخير الكثير، وكل آيات القرآن مبارك فيها لأنها: إمّا مرشدة إلى خير، وَإمّا صارفة عن شرّ وفساد، وذلك سبب الخير في العاجل والآجل ولا بركة أعظم من ذلك...
التدبر: التفكر والتأمل الذي يبلغ به صاحبه معرفة المراد من المعاني، وإنما يكون ذلك في كلام قليل اللفظ كثير المعاني التي أودعت فيه بحيث كلما ازداد المتدبر تدبراً انكشفت له معان لم تكن بادية له بادئ النظر...
التذكُّر: استحضار الذهن ما كان يعلمه وهو صادق باستحضار ما هو منسي وباستحضار ما الشأن أن لا يُغفل عنه وهو ما يهمّ العلم به، فجُعل القرآن للناس ليتدبروا معانيه ويكشفوا عن غوامضه بقدر الطاقة فإنهم على تعاقب طبقات العلماء به لا يصلون إلى نهاية من مكنونه، ولتذكرهم الآية بنظيرها وما يقاربها، وليتذكروا ما هو موعظة لهم وموقظ من غفلاتهم...
{أولوا الألباب}: أهل العقول وفيه تعريض بأن الذين لم يتذكروا بالقرآن ليسوا من أهل العقول، وأن التذكر من شأن المسلمين الذين يستمعون القول فيتّبعون أحسنه، فهم ممن تدبروا آياته فاستنبطوا من المعاني ما لم يعلموا، ومن قرأه فتذكر به ما كان علمه وتذكر به حقاً كان عليه أن يرعاه، والكافرون أعرضوا عن التدبر فلا جرم فاتهم التذكر...
الكتاب هو القرآن، والمبارك هو الشيء الذي يعطي من الفائدة والخير فوق ما يُتصوَّر منه، تقول: هذا الشيء نأخذ منه ولا ينقص، نسميه مبروك...
والقرآن مباركٌ، وآياته مباركة من حيث الأحكام الظاهرية، لأنه سيربي النفس على استقامة، هذه الاستقامة لو نظرتَ إليها اقتصادياً تجد أنها لا تُكلِّفك شيئاً، نعم الاستقامة لا تكلفك، أمَّا الانحراف فهو الذي يُكلِّف... ثم إن القرآن مُبَاركٌ من ناحية أخرى، فحين تتفاعل مع المنهج، وحين تعشقه يُبيِّن لك الحق سبحانه ألواناً من الأسرار يتعجَّب منها غيرك، ويفتح عليك فُتُوحات عجيبة، ألم يتعجَّبْ موسى -عليه السلام- وهو نبيّ الله من عمل العبد الصالح، والعبد الصالح عبد الله على منهج موسى، ومع ذلك أمر الله موسى أنْ يتبعَ العبد الصالح، وأن يتعلَّم منه، لكنه يتبعه بإخلاص وبعشق، فلما اتبعه موسى بعشق وإخلاص تعلَّم منه الأعاجيب،...
ومعنى {لِّيَدَّبَّرُوۤاْ آيَاتِه..} والتدبُّر هو ألاَّ ننظر إلى الوسيلة نظرةً سطحية، إنما ننظر بتفكُّر وتمعُّن وحساب للعاقبة، ننظر إلى الخلفيات واللوازم لنستنبط ما في الشيء من العِبَر،... وقوله: {وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ} أي: أصحاب العقول الواعية، وتأمل هنا أن الحق سبحانه يُنبِّه العقول، ويُحرِّك الفهم إلى تأمُّل آياته في الكون، والمقابل لك أو الذي بينك وبينه صفقة لا ينبهك إليها، إلا لأنه واثق أنك ستُقبل عليها وإلا أخفاها ودلَّسَ عليك، كالذي يبيع لك سلعة جيدة تراه يشرح لك مزاياها، ويدعوك إلى اختبارها، والتأكد من جودتها ويُنبِّه عقلك إلى ما خَفِي عنك منها...
فالحق -سبحانه وتعالى- يدعونا إلى تأمُّل آياته وتدبُّرها والبحث فيها، لأنه سبحانه واثق أننا حين ننظر وحين نبحث ونتأمل سنقتنع بها، وسنصل من خلالها إلى الحق والصواب. ومع ذلك نرى البعض يقف أمام بعض المسائل الدينية يقول: هذه مسألة فوق البحث ولا عملَ للعقل فيها، ونقول: لكن أمرنا بالتدبُّر والتفكّر والتأمّل في الكون، فلا مانع أنْ نبحث.