قوله تعالى : { وما من دابة في الأرض } ، أي : ليس دابة ، { من } صلة ، والدابة : كل حيوان يدب على وجه الأرض . وقوله : { إلا على الله رزقها } ، أي : هو المتكفل بذلك فضلا ، وهو إلى مشيئته إن شاء رزق وإن شاء لم يرزق . وقيل : { على } بمعنى : { من } أي : من الله رزقها . وقال مجاهد : ما جاءها من رزق فمن الله عز وجل ، وربما لم يرزقها حتى تموت جوعا . { ويعلم مستقرها ومستودعها } ، قال ابن مقسم : ويروى ذلك عن ابن عباس ، مستقرها : المكان الذي تأوي إليه ، وتستقر فيه ليلا ونهارا ، ومستودعها : الموضع الذي تدفن فيه إذا ماتت . وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : المستقر أرحام الأمهات والمستودع المكان الذي تموت فيه وقال عطاء : المستقر أرحام الأمهات والمستودع أصلاب الآباء . ورواه سعيد بن جبير ، وعلي بن أبي طلحة ، وعكرمة عن ابن عباس . وقيل : المستقر : الجنة والنار ، والمستودع القبر ، لقوله تعالى في صفة الجنة والنار : { حسنت مستقراً ومقاماً } [ الفرقان-76 ] . { كل في كتاب مبين } ، أي : كل مثبت في اللوح المحفوظ قبل أن خلقها .
{ 6 } { وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ }
أي : جميع ما دب على وجه الأرض ، من آدمي ، أو حيوان بري أو بحري ، فالله تعالى قد تكفل بأرزاقهم وأقواتهم ، فرزقها{[423]} على الله .
{ وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا } أي : يعلم مستقر هذه الدواب ، وهو : المكان الذي تقيم فيه وتستقر فيه ، وتأوي إليه ، ومستودعها : المكان الذي تنتقل إليه في ذهابها ومجيئها ، وعوارض أحوالها .
{ كُلِّ } من تفاصيل أحوالها { فِي كِتَابٍ مُبِينٍ } أي : في اللوح المحفوظ المحتوي على جميع الحوادث الواقعة ، والتي تقع في السماوات والأرض . الجميع قد أحاط بها علم الله ، وجرى بها قلمه ، ونفذت فيها مشيئته ، ووسعها رزقه ، فلتطمئن القلوب إلى كفاية من تكفل بأرزاقها ، وأحاط علما بذواتها ، وصفاتها .
( وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها ؛ كل في كتاب مبين )
وهذه صورة أخرى من صور العلم الشامل المرهوب . . هذه الدواب - وكل ما تحرك على الأرض فهو دابة من إنسان وحيوان وزاحفة وهامة . ما من دابة من هذه الدواب التي تملأ وجه البسيطة ، وتكمن في باطنها ، وتخفى في دروبها ومساربها . ما من دابة من هذه الدواب التي لا يحيط بها حصر ولا يكاد يلم بها إحصاء . . إلا وعند الله علمها . وعليه رزقها ، وهو يعلم أين تستقر وأين تكمن . من أين تجيء وأين تذهب . . وكل منها . كل من أفرادها مقيد في هذا العلم الدقيق .
إنها صورة مفصلة للعلم الإلهي في حالة تعلقه بالمخلوقات ، يرتجف لها كيان الإنسان حين يحاول تصورها بخياله الإنساني فلا يطيق .
ويزيد على مجرد العلم ، تقدير الرزق لكل فرد من أفراد هذا الحشد الذي يعجز عن تصوره الخيال . وهذه درجة أخرى ، الخيال البشري عنها أعجز إلا بإلهام من الله . .
وقد أوجب الله - سبحانه - على نفسه مختارا أن يرزق هذا الحشد الهائل الذي يدب على هذه الأرض . فأودع هذه الأرض القدرة على تلبية حاجات هذه المخلوقات جميعا ، وأودع هذه المخلوقات القدرة على الحصول على رزقها من هذا المودع في الأرض في صورة من صوره . ساذجا خامة ، أو منتجا بالزرع ، أو مصنوعا ، أو مركبا . . إلى آخر الصور المتجددة لإنتاج الرزق وإعداده . حتى إن بعضها ليتناول رزقه دما حيا مهضوما ممثلا كالبعوضة والبرغوث
وهذه هي الصورة اللائقة بحكمة الله ورحمته في خلق الكون على الصورة التي خلقه بها ؛ وخلق هذه المخلوقات بالاستعدادات والمقدرات التي أوتيتها . وبخاصة الإنسان . الذي استخلف في الأرض ، وأوتي القدرة على التحليل والتركيب ، وعلى الإنتاج والإنماء ، وعلى تعديل وجه الأرض ، وعلى تطوير أوضاع الحياة ؛ بينما هو يسعى لتحصيل الرزق ، الذي لا يخلقه هو خلقا ، وإنما ينشئه مما هو مذخور في هذا الكون من قوى وطاقات أودعها الله ؛ بمساعدة النواميس الكونية الإلهية التي تجعل هذا الكون يعطي مدخراته وأقواته لكافة الأحياء !
وليس المقصود أن هناك رزقا فرديا مقدرا لا يأتي بالسعي ، ولا يتأخر بالقعود ، ولا يضيع بالسلبية والكسل ، كما يعتقد بعض الناس ! وإلا فأين الأسباب التي أمر الله بالأخذ بها ، وجعلها جزءا من نواميسه ؟ وأين حكمة الله في إعطاء المخلوقات هذه المقدرات والطاقات ؟ وكيف تترقى الحياة في مدارج الكمال المقدر لها في علم الله ، وقد استخلف عليها الإنسان ليؤدي دوره في هذا المجال ؟
إن لكل مخلوق رزقا . هذا حق . وهذا الرزق مذخور في هذا الكون . مقدر من الله في سننه التي ترتب النتاج على الجهد . فلا يقعدن أحد عن السعي وقد علم أن السماء لا تمطر ذهبا ولا فضة . ولكن السماء والأرض تزخران بالأرزاق الكافية لجميع المخلوقات . حين تطلبها هذه المخلوقات حسب سنة الله التي لا تحابي أحدا ، ولا تتخلف أو تحيد .
إنما هو كسب طيب وكسب خبيث ، وكلاهما يحصل من عمل وجهد . إلا أنه يختلف في النوع والوصف . وتختلف عاقبة المتاع بهذا وذاك .
ولا ننسى المقابلة بين ذكر الدواب ورزقها هنا ؛ وبين المتاع الحسن الذي ذكر في التبليغ الأول . والسياق القرآني المحكم المتناسق لا تفوته هذه اللفتات الأسلوبية والموضوعية ، التي تشارك في رسم الجو في السياق وهاتان الآيتان الكريمتان هما بدء تعريف الناس بربهم الحق الذي عليهم أن يدينوا له وحده . أي أن يعبدوه وحده . فهو العالم المحيط علمه بكل خلقه ، وهو الرازق الذي لا يترك أحدا من رزقه . وهذه المعرفة ضرورية لعقد الصلة بين البشر وخالقهم ؛ ولتعبيد البشر للخالق الرازق العليم المحيط .
أخبر تعالى أنه متكفل بأرزاق المخلوقات ، من سائر دواب الأرض ، صغيرها وكبيرها ، بحريها ، وبريها ، وأنه { يَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا } أي : يعلم أين مُنتهى سيرها في الأرض ، وأين تأوي إليه من وكرها ، وهو مستودعها .
وقال علي بن أبي طلحة وغيره ، عن ابن عباس : { وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا } أي : حيث تأوي ، { وَمُسْتَوْدَعَهَا } حيث تموت .
وعن مجاهد : { مُسْتَقَرَّهَا } في الرحم ، { وَمُسْتَوْدَعَهَا } في الصلب ، كالتي في الأنعام : وكذا روي عن ابن عباس والضحاك ، وجماعة . وذكر{[14491]} -ابن أبي حاتم أقوال المفسرين هاهنا ، كما ذكره عند تلك الآية :{[14492]} فالله أعلم ، وأن جميع ذلك مكتوب في كتاب عند الله مبين عن جميع ذلك ، كما قال تعالى : { وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ } [ الأنعام : 38 ] ، وقوله{[14493]} : { وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ } [ الأنعام : 59 ] .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.