{ إن الذين فتنوا } عذبوا وأحرقوا ، { المؤمنين والمؤمنات } يقال : فتنت الشيء إذا أحرقته ، نظيره { يوم هم على النار يفتنون }( الذاريات- 13 ) ، { ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم } بكفرهم ، { ولهم عذاب الحريق } بما أحرقوا المؤمنين . وقيل : ولهم عذاب الحريق في الدنيا ، وذلك أن الله أحرقهم بالنار التي أحرقوا بها المؤمنين ، ارتفعت إليهم من الأخدود ، قاله الربيع بن أنس والكلبي .
وقوله : إنّ الّذِينَ فَتَنُوا المُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِناتِ يقول : إن الذين ابتلوا المؤمنين والمؤمنات بالله بتعذيبهم ، وإحراقهم بالنار . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس إنّ الّذِينَ فَتَنُوا المُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِناتِ : حرّقوا المؤمنين والمؤمنات .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحرث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : إنّ الّذِينَ فَتَنُوا قال : عَذّبوا .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : إنّ الّذِينَ فَتَنُوا المُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِناتِ قال : حرّقوهم بالنار .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : فَتَنُوا المُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِناتِ يقول : حرّقوهم .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يعقوب ، عن جعفر ، عن ابن أبزى إنّ الّذِينَ فَتَنُوا المُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِناتِ حرّقوهم .
وقوله : ثُمّ لَمْ يَتُوبُوا يقول : ثم لم يتوبوا من كفرهم وفعلهم ، الذي فعلوا بالمؤمنين والمؤمنات من أجل إيمانهم بالله فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنّمَ في الاَخرة ولَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ في الدنيا ، كما :
حدثت عن عمار ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنّم فِي الاَخِرَةِ ، ولَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ في الدنيا .
{ فتنوا } معناه : أحرقوا ، وفتنت الذهب والفضة في النار أحرقتهما ، والفتين حجارة الحرة السود لأن الشمس كأنها أحرقتها ، ومن قال إن هذه الآيات الأواخر في قريش جعل الفتنة الامتحان والتعذيب ، ويقوي هذا التأويل بعض التقوية قوله تعالى : { ثم لم يتوبوا } لأن هذا اللفظ في قريش أحكم منه في أولئك الذين قد علم أنهم ماتوا على كفرهم ، وأما قريش فكان فيهم وقت نزول الآية من تاب بعد ذلك وآمن بمحمد صلى الله عليه وسلم ، و { جهنم } و { الحرق } طبقتان من النار ، ومن قال إن النار خرجت وأحرقت الكافرين القعود ، جعل { الحريق } في الدنيا
إن كان هذا جواباً للقسم على قول بعض المفسرين كما تقدم كان ما بين القسم وما بين هذا كلاماً معترضاً يقصد منه التوطئة لوعيدهم بالعذاب والهلاك بذكر ما توعّد به نظيرهم ، وإن كان الجواب في قوله : { قتل أصحاب الأخدود } [ البروج : 4 ] كان قوله : { إن الذين فتنوا المؤمنين } بمنزلة الفذلكة لما أقسم عليه إذ المقصود بالقسم وما أقسمَ عليه هو تهديد الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات من مشركي قريش .
وتأكيد الخبر ب { إنَّ } للرد على المشركين الذين ينكرون أن تكون عليهم تبعةً من فتن المؤمنين .
والذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات : هم مشركو قريش وليس المراد أصحاب الأخدود لأنه لا يلاقي قوله : { ثم لم يتوبوا } إذ هو تعريض بالترغيب في التوبة ، ولا يلاقي دخول الفاء في خبر { إنَّ } من قوله : { فلهم عذاب جهنم } كما سيأتي .
وقد عُدّ من الذين فتنوا المؤمنين أبو جهل رأسُ الفتنة ومِسْعَرها ، وأميةُ بن خلف وصفوانُ بن أمية ، والأسودُ بن عبد يغوث ، والوليدُ بن المغيرة ، وأمُّ أنْمار ، ورجل من بني تَيْم .
والمفتونون : عد منهم بلالُ بن رباح كان عبداً لأمية بن خلف فكان يعذبه ، وأبو فُكيهة كان عبداً لصفوان بن أمية ، وخَبَّابُ بن الأرتِّ كان عبداً لأمّ أنمار ، وعَمّار بن ياسر ، وأبوه ياسِر ، وأخوه عبد الله كانوا عبيداً لأبي حذيفة بن المغيرة فوكَل بهم أبا جهل ، وعامرُ بن فُهيرة كان عبداً لرجل من بني تَيْم .
والمؤمنات المفتونات منهنّ : حَمَامَةُ أمُّ بلال أمَةُ أمية بن خلف . وزِنِّيرَة ، وأمُّ عنَيْس كانت أمة للأسود بن عبد يغوث والنهدية . وابنتها كانتا للوليد بن المغيرة ، ولطيفةُ ، ولبينةُ بنت فهيرة كانت لعُمر بن الخطاب قبل أن يسلم كان عمر يَضربها ، وسُمية أمُّ عمار بن ياسر كانت لعمّ أبي جهل .
وفُتِن ورجَع إلى الشرك الحارثُ بن ربيعة بن الأسود ، وأبو قيس بن الوليد بن المغيرة ، وعليُّ بن أمية بن خلف ، والعاصي بن المنبه بن الحجاج .
وعَطفُ { المؤمنات } للتنويه بشأنهن لئلا يظنّ أن هذه المزية خاصة بالرجال ، ولزيادة تفظيع فعل الفاتنين بأنهم اعتدَوا على النساء والشأن أن لا يتعرض لهن بالغلظة .
وجملة : { ثم لم يتوبوا } معترضة . و{ ثُمّ } فيها للتراخي الرتبي لأن الاستمرار على الكفر أعظم من فتنة المؤمنين .
وفيه تعريض للمشركين بأنهم إن تابوا وآمنوا سلِمُوا من عذاب جهنم .
والفَتْن : المعاملة بالشدة والإِيقاع في العناء الذي لا يجد منه مخلصاً إلا بعناء أو ضرّ أخف أو حيلة ، وتقدم عند قوله تعالى : { والفتنة أشد من القتل } في سورة البقرة ( 191 ) .
ودخول الفاء في خبر ( إنّ ) من قوله : فلهم عذاب جهنم } لأنّ اسم ( إن ) وقعَ مَوصولاً والموصول يضمَّن معنى الشرط في الاستعمال كثيراً : فتقدير : إن الذين فتنوا المؤمنين ثم إنْ لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ، لأن عطف قوله : { ثم لم يتوبوا } مقصود به معنى التقييد فهو كالشرط .
وجملة : { ولهم عذاب الحريق } عطف في معنى التوكيد اللفظي لجملة : { لهم عذاب جهنم } . واقترانُها بواو العطف للمبالغة في التأكيد بإيهام أن من يريد زيادة تهديدهم بوعيد آخر فلا يُوجد أعظم من الوعيد الأول . مع ما بين عذاب جهنم وعذاب الحريق من اختلاف في المدلول وإن كان مآل المدلولين واحداً . وهذا ضرب من المغايرة يحسن عطف التأكيد .
على أن الزج بهم في عذاب جهنم قبل أن يذوقوا حريقها لما فيه من الخزي والدفع بهم في طريقهم قال تعالى : { يوم يدعون إلى نار جهنم دعّاً } [ الطور : 13 ] فحصل بذلك اختلاف ما بين الجملتين .
ويجوز أن يراد بالثاني مضاعفة العذاب لهم كقوله تعالى : { الذين كفروا وصدوا عن سبيل اللَّه زدناهم عذاباً فوق العذاب } [ النحل : 88 ] .
ويجوز أن يراد بعذاب الحريق حريق بغير جهنم وهو ما يضرم عليهم من نار تعذيب قبل يوم الحساب كما جاء في الحديث : " القبر حفرة من حفر جهنم أو روضة من رياض الجنة " رواه البيهقي في « سننه » عن ابن عمر .