الدر المنثور في التفسير بالمأثور للسيوطي - السيوطي  
{إِنَّ ٱلَّذِينَ فَتَنُواْ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ وَٱلۡمُؤۡمِنَٰتِ ثُمَّ لَمۡ يَتُوبُواْ فَلَهُمۡ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمۡ عَذَابُ ٱلۡحَرِيقِ} (10)

وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن قتادة { إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات } قال : حرقوا .

وأخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن قتادة { إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات } قال : عذبوا .

وأخرج عبد بن حميد عن الحسن قال : كان بعض الجبابرة خد أخدوداً في الأرض ، وجعل فيها النيران ، وعرض المؤمنين على ذلك فمن تابعه على كفره خلى عنه ، ومن أبى ألقاه في النار ، فجعل يلقي حتى أتى على امرأة ومعها بني لها صغير ، فكأنها أنفت النار فكلمها الصبيّ فقال : يا أمه قعي في النار ولا تقاعسي ، فألقيت في النار ، والله ما كانت إلا نقطة من نار حتى أفضوا إلى رحمة الله تعالى . قال : الحسن : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «فما ذكرت أصحاب الأخدود إلا تعوذت بالله من جهد البلاء » .

وأخرج ابن مردويه عن عبد الله بن نجي قال : شهدت علياً وأتاه أسقف نجران فسأله عن أصحاب الأخدود ، فقص عليه القصة ، فقال عليّ : أنا أعلم بهم منك بعث نبي من الحبشة إلى قومه ثم قرأ علي { ولقد أرسلنا رسلاً من قبلك منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك } [ غافر : 78 ] فدعاهم فتابعه الناس فقاتلهم فقتل أصحابه ، وأخذ فأوثق ، فانفلت فأنس إليه رجال ، يقول : اجتمع إليه رجال فقاتلهم فقتلوا وأخذ فأوثق فخدوا أخدوداً في الأرض وجعلوا فيه النيران ، فجعلوا يعرضون الناس فمن تبع النبي رمي به فيها ، ومن تابعهم ترك ، وجاءت امرأة في آخر من جاء معها صبي لها ، فجزعت ، فقال الصبي : يا أمه اطمري ولا تماري فوقعت .

وأخرج عبد بن حميد عن سلمة بن كهيل قال : ذكروا أصحاب الأخدود عند عليّ فقال : أما إن فيكم مثلهم فلا تكونن أعجز من قوم .

وأخرج عبد بن حميد عن علي بن أبي طالب قال : كان المجوس أهل كتاب ، وكانوا مستمسكين بكتابهم ، وكانت الخمر قد أحلت لهم ، فتناول منها ملك من ملوكهم فغلبته على عقله ، فتناول أخته أو ابنته فوقع عليها ، فلما ذهب عنه السكر ندم ، وقال لها : ويحك ما هذا الذي أتيت ؟ وما المخرج منه ؟ قالت : المخرج منه أن تخطب الناس فتقول أيها الناس إن الله قد أحل لكم نكاح الأخوات والبنات ، فإذا ذهب ذا في الناس وتناسوه خطبتهم فحرمته ، فقام خطيباً فقال : يا أيها الناس إن الله أحل لكم نكاح الأخوات أو البنات ، فقال الناس جماعتهم : معاذ الله أن نؤمن بهذا أو نقر به ، أو جاءنا به نبي ، أو نزل علينا في كتاب ، فرجع إلى صاحبته فقال : ويحك إن الناس قد أبوا عليّ ذلك . قالت : إذا أبوا عليك ذلك فابسط فيهم السوط ، فبسط فيهم السوط ، فأبوا أن يقروا ، فرجع إليها فقال : قد بسطت فيهم السوط فأبوا أن يقروا . قالت : فجرد فيهم السيف ، فجرد فيهم السيف ، فأبوا أن يقروا . قالت : خدّ لهم الأخدود ، ثم أوقد فيه النيران فمن تابعك فخلّ عنه . فخدَّ لهم أخدوداً وأوقد فيه النيران ، وعرض أهل مملكته على ذلك ، فمن أبى قذفه في النار ، ومن لم يأب خلّى عنه ، فأنزل الله فيهم { قتل أصحاب الأخدود } إلى قوله : { ولهم عذاب الحريق } .

أخرج ابن أبي شيبة عن عوف قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذكر أصحاب الأخدود تعوذ بالله من جهد البلاء .

وأخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة وعبد بن حميد ومسلم والنسائي والترمذي عن صهيب قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى العصر همس ، فقيل له : إنك يا رسول الله إذا صليت العصر همست ، فقال : «إن نبياً من الأنبياء كان أعجب بأمته ، فقال : من يقوم لهؤلاء فأوحى الله إليه أن خيرهم بين أن ينتقم منهم ، وبين أن يسلط عليهم عدوهم ، فاختاروا النقمة ، فسلط عليهم الموت فمات منهم في يوم سبعون ألفاً ، قال : وكان إذا حدث بهذا الحديث الآخر قال : كان ملك من الملوك ، وكان لذلك الملك كاهن يكهن له ، فقال له ذلك الكاهن : انظروا إلى غلاماً فهماً أو قال : فطناً لقناً فأعلمه علمي هذا ، فإني أخاف أن أموت فينقطع هذا العلم منكم ، ولا يكون فيكم من يعلمه قال : فنظروا له على ما وصف ، فأمروه أن يحضر ذلك الكاهن ، وأن يختلف إليه ، فجعل الغلام يختلف إليه ، وكان على طريق الغلام راهب في صومعته ، فجعل الغلام يسأل الراهب كلما مر به ، فلم يزل به حتى أخبره ، فقال : إنما أعبد الله ، فجعل الغلام يمكث عند الراهب ويبطئ على الكاهن ، فأرسل الكاهن إلى أهل الغلام أنه لا يكاد يحضرني ، فأخبر الغلام الراهب بذلك ، فقال له الراهب : إذا قال لك : أين كنت ؟ فقل : عند أهلي ، وإذا قال لك أهلك : أين كنت ؟ فقل : عند الكاهن . فبينما الغلام على ذلك إذ مر بجماعة من الناس كثيرة قد حبستهم دابة يقال كانت أسداً ، فأخذ الغلام حجراً فقال : اللهم إن كان ما يقول الراهب حقاً فأسألك أن أقتل هذه الدابة ، وإن كان ما يقوله الكاهن حقاً فأسألك أن لا أقتلها ، ثم رمى فقتل الدابة فقال الناس : من قتلها ؟ فقالوا : الغلام . ففزع الناس وقالوا : قد علم هذا الغلام علماً لم يعلمه أحد ، فسمع أعمى فجاءه ، فقال له : إن أنت رددت بصري فلك كذا وكذا ، فقال الغلام : لا أريد منك هذا ولكن أرأيت إن رجع عليك بصرك أتؤمن بالذي رده عليك ؟ قال : نعم ، فدعا الله فرد عليه بصره فآمن الأعمى فبلغ الملك أمرهم فبعث إليهم ، فأتى بهم فقال : لأقتلن كل واحد منكم قتلة لا أقتل بها صاحبه ، فأمر بالراهب والرجل الذي كان أعمى فوضع المنشار على مفرق أحدهما فقتله وقتل الآخر بقتلة أخرى ثم أمر بالغلام فقال : انطلقوا به إلى جبل كذا وكذا فألقوه من رأسه . فانطلقوا به إلى ذلك الجبل ، فلما انتهوا به إلى ذلك المكان الذي أرادوا أن يلقوه منه جعلوا يتهافتون من ذلك الجبل ويتردون حتى لم يبق منهم إلا الغلام ، ثم رجع الغلام فأمر الملك أن ينطلقوا به إلى البحر فيلقوه فيه ، فانطلق به إلى البحر ، فغرق الله الذين كانوا معه ، وأنجاه الله . فقال الغلام للملك : إنك لا تقتلني إلا أن تصلبني وترميني وتقول : بسم الله رب الغلام ، فأمر به فصلب ثم رماه وقال : بسم الله رب الغلام ، فوضع الغلام يده على صدغه حين رمي ثم مات . فقال الناس : لقد علم هذا الغلام علماً ما علمه أحد فإنا نؤمن برب هذا الغلام ، فقيل للملك : أجزعت أن خالفك ثلاثة فهذا العالم كلهم قد خالفوك ؟ قال : فخدّ أخدوداً ثم ألقى فيها الحطب والنار ، ثم جمع الناس فقال : من رجع عن دينه تركناه ، ومن لم يرجع ألقيناه في هذه النار . فجعل يلقيهم في تلك الأخدود فقال : يقول الله : { قتل أصحاب الأخدود النار ذات الوقود } حتى بلغ { العزيز الحميد } فأما الغلام فإنه دفن ثم أخرج » ، فيذكر أنه أخرج في زمن عمر بن الخطاب واصبعه على صدغه كما وضعها حين قتل .

وأخرج عبد بن حميد وابن مردويه عن صهيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «كان ملك ممن كان قبلكم ، وكان له ساحر فلما كبر الساحر قال للملك : إني قد كبرت سني وحضر أجلي فادفع إليّ غلاماً أعلمه السحر . فدفع إليه غلاماً فكان يعلمه السحر . وكان بين الساحر وبين الملك راهب فأتى الغلام على الراهب فسمع من كلامه فأعجبه نحوه وكلامه ، فكان إذا أتى على الساحر ضربه وقال : ما حبسك ؟ فإذا أتى أهله جلس عند الراهب فيبطئ فإذا أتى أهله ضربوه وقالوا : ما حبسك ؟ فشكا ذلك إلى الراهب فقال : إذا أراد الساحر أن يضربك فقل : حبسني أهلي ، وإذا أراد أهلك أن يضربوك فقل : حبسني الساحر . فبينما هو كذلك إذ أتى ذات يوم على دابة فظيعة عظيمة قد حبست الناس فلا يستطيعون أن يجوزوا ، فقال الغلام : اليوم أعلم أمر الراهب أحب إلى الله أم أمر الساحر . فأخذ حجراً فقال : اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك وأرضى لك من أمر الساحر فاقتل هذه الدابة ، حتى يجوز الناس ، فرماها فقتلها ، ومضى الناس فأخبر الراهب بذلك ، فقال : أي بني أنت أفضل مني وإنك ستبتلى ، فإن ابتليت فلا تدل عليّ . وكان الغلام يبرئ الأكمه والأبرص وسائر الأدواء ويشفيهم ، وكان جليس الملك قد عمي فسمع به فأتاه بهدايا كثيرة ، فقال له : اشفني ولك ما ههنا أجمع ، فقال : ما أشفي أنا أحداً إنما يشفي الله ، فإن آمنت بالله دعوت الله فشفاك ، فآمن فدعا له فشفاه . ثم أتى الملك فجلس منه نحو ما كان يجلس ، فقال له الملك : يا فلان من رد عليك بصرك ؟ قال : ربي ، قال : أنا . قال : لا . قال : أو لك رب غيري ؟ قال : نعم . فلم يزل به يعذبه حتى دل على الغلام ، فبعث إليه الملك فقال : أي بني قد بلغ من سحرك أن تبرئ الأكمه والأبرص وهذه الأدواء ؟ قال : ما أشفي أنا أحداً ما يشفي غير الله . قال : أنا ؟ قال : لا . قال : وإن لك رباً غيري ؟ قال : نعم ربي وربك الله . فأخذه أيضاً بالعذاب ، فلم يزل به حتى دل على الراهب ، فقال له : ارجع عن دينك ، فأبى فوضع المنشار في مفرقه حتى وقع شقاه على الأرض ، وقال للغلام : ارجع عن دينك فأبى ، فبعث به مع نفر إلى جبل كذا وكذا ، وقال : إذا بلغتم ذروته فإن رجع عن دينه وإلا فدهدهوه من فوقه ، فذهبوا به ، فلما علوا به الجبل قال : اللهم اكفنيهم بما شئت فرجف بهم الجبل فتدهدهوا أجمعين ، وجاء الغلام يتلمس حتى دخل على الملك فقال : ما فعل أصحابك ؟ قال : كفانيهم الله . فبعث به في قرقور مع نفر فقال : إذا لججتم به البحر فإن رجع عن دينه وإلا فأغرقوه . فلجوا به البحر فقال الغلام : اللهم اكفنيهم بما شئت فغرقوا أجمعين . وجاء الغلام يتلمس حتى دخل على الملك . فقال : ما فعل أصحابك ؟ قال : كفانيهم الله . ثم قال للملك : إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به ، فإن أنت فعلت ما آمرك به قتلتني وإلا فإنك لن تستطيع قتلي . قال : وما هو ؟ قال : تجمع الناس في صعيد ، ثم تصلبني على جذع ، وتأخذ سهماً من كنانتي ، ثم قل بسم الله رب الغلام فإنك إذا فعلت ذلك قتلتني . ففعل ووضع السهم في كبد القوس ثم رماه ، وقال : بسم الله رب الغلام . فوقع السهم في صدغه . فوضع الغلام يده على موضع السهم ومات . فقال الناس : آمنا برب الغلام . فقيل للملك : أرأيت ما كنت تحذر فقد والله نزل بك هذا من الناس كلهم فأمر بأفواه السكك فخدت فيها الأخدود ، وأضرمت فيها النيران وقال : من رجع عن دينه فدعوه وإلا فاقحموه فيها . فكانوا يتقارعون فيها ويتدافعون ، فجاءت امرأة بابن لها صغير فكأنها تقاعست أن تقع في النار فقال الصبي : يا أمه اصبري فإنك على الحق » .