{ 49-52 } { وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا * قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا * أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا * يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا }
يخبر تعالى عن قول المنكرين للبعث وتكذيبهم به واستبعادهم بقولهم : { أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا } أي : أجسادا بالية { أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا } أي : لا يكون ذلك وهو محال بزعمهم ، فجهلوا أشد الجهل حيث كذبوا رسل الله وجحدوا آيات الله وقاسوا قدرة خالق السماوات والأرض بقدرتهم الضعيفة العاجزة .
فلما رأوا أن هذا ممتنع عليهم لا يقدرون عليه جعلوا قدرة الله كذلك .
فسبحان من جعل خلقا من خلقه يزعمون أنهم أولو العقول والألباب مثالا في جهل أظهر الأشياء وأجلاها وأوضحها براهين وأعلاها ليرى عباده أنه ما ثم إلا توفيقه وإعانته أو الهلاك والضلال .
{ رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ }
ولهذا أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول لهؤلاء المنكرين للبعث استبعادا : { قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ }
القول في تأويل قوله تعالى : { وَقَالُوَاْ أَإِذَا كُنّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَإِنّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً } .
يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل هؤلاء الذين لا يؤمنون بالاَخرة من مشركي قريش ، وقالوا بعنتهم : أئِذَا كُنّا عِظاما لم نتحطم ولم نتكسّر بعد مماتنا وبلانا وَرُفاتا يعني ترابا في قبورنا ، كما :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، يقول الله : رُفاتا قال : ترابا .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، في قوله : وَقالُوا أئذَا كُنّا عِظاما وَرُفاتا يقول : غُبارا ، ولا واحد للرّفات ، وهو بمنزلة الدّقاق والحُطَام ، يقال منه : رُفِتَ يُرْفَت رَفْتا فهو مرفوت : إذا صُيّر كالحُطام والرّضاض .
وقوله : أئِنّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقا جَدِيدا قالوا ، إنكارا منهم للبعث بعد الموت : إنا لمبعوثون بعد مصيرنا في القبور عظاما غير منحطمة ، ورفاتا منحطمة ، وقد بَلِينا فصرنا فيها ترابا ، خلقا مُنْشَأ كما كنا قبل الممات جديدا ، نعاد كما بدئنا ؟ فأجابهم جلّ جلاله يعرّفهم قُدرته على بعثه إياهم بعد مماتهم ، وإنشائه لهم كما كانوا قبل بِلاهُم خلقا جديدا ، على أيّ حال كانوا من الأحوال ، عظاما أو رُفاتا ، أو حجارة أو حديدا ، أو غير ذلك مما يعظُم عندهم أن يحدث مثله خَلقْا أمثالَهم أحياء ، قل يا محمد : كونوا حجارة أو حديدا ، أو خلقا مما يكبر في صدوركم .
وقوله { إذا كنا عظاماً } الآية ، هذه الآية في إنكارهم البعث ، وهذا منهم تعجب وإنكار واستبعاد ، و «الرفات » من الأشياء : ما مر عليه الزمن حتى بلغ به غاية البلى ، وقربه من حالة التراب ، يقال : رفت رفتاً فهو مرفوت{[7591]} ، وفعال : بناء لهذا المعنى ، كالحطام ، والفتات ، والرصاص ، والرضاض ، والدقاق ، ونحوه ، وقال ابن عباس : { رفاتاً } غباراً ، وقال مجاهد : تراباً ، واختلف القراء في هذين الاستفهامين : فقرأ ابن كثير وأبو عمرو «أيذا كنا تراباً أينا » جميعاً بالاستفهام ، غير أن أبا عمرو يمد الهمزة ، ثم يأتي بالياء ساكنة ، وابن كثير يأتي بياء ساكنة بعد الهمزة من غير مدة ، وقرأ نافع الأولى مثل أبي عمرو ، واختلف عنه في المد ، وقرأ الثانية «إنا » مكسورة على الخبر ، ووافقه الكسائي في اكتفائه بالاستفهام الأول من الثاني ، غير أنه كان يهمز همزتين ، وقرأ عاصم وحمزة : «أإذا أإنا » بهمزتين فيهما ، وقرأ ابن عامر «إذا كنا » ، مكسورة الألف من غير استفهام «ءإنا » يهمز ، ثم يمد ، ثم يهمز . ويروى عنه مثل قراءة حمزة ، وفي سورة الرعد توجيه هذه القراءات{[7592]} ، و { جديداً } صفة لما قرب حدوثة من الأشياء ، وهكذا يوصف به المذكر والمؤنث ، فيقال ملحفة جديد وقولهم جديدة ، لغة ضعيفة ، كذا قال سيبويه .
يجوز أن يكون جملة { وقالوا } معطوفة على جملة { قل لو كان معه آلهة كما تقولون } [ الإسراء : 42 ] باعتبار ما تشتمل عليه من قوله : كما تقولون لقصد استئصال ضلالة أخرى من ضلالاتهم بالحجّة الدامِغة ، بعد استئصال الّتي قبلها بالحجة القاطعة بقوله قل لو كان معه آلهة كما تقولون الآية وما بينهما بمنزلة الاعتراض .
ويجوز أن تكون عطفاً على جملة { إذ يقول الظالمون إن تتبعون إلا رجلاً مسحوراً } [ الإسراء : 47 ] التي مضمونها مظروف للنجوى ، فيكون هذا القول مما تَنَاجَوْا به بينهم ، ثم يجهرون بإعلانه ويعُدونه حجتهم على التكذيب .
وتقديم الظرف من قوله : { أئذا كنا عظاماً } للاهتمام به لأن مضمونه هو دليل الاستحالة في ظنهم ، فالإنكار متسلط على جملة { أئنا لمبعوثون } . وقوة إنكار ذلك مقيد بحالة الكون عظاماً ورفاتاً ، وأصل تركيب الجملة : أإنا لمبعوثون إذا كنا عظاماً ورفاتاً .
وليس المقصود من الظرف التقييد ، لأن الكون عظاماً ورفاتاً ثابت لكل من يموت فيبعث .
والبعث : الإرسال . وأطلق هنا على إحياء الموتى ، لأن الميت يشبه الماكث في عدم مبارحة مكانه .
والعظام : جمع عظم ، وهوما منه تركيب الجسد للإنسان والدواب . ومعنى { كنا عظاماً } أنهم عظام لا لحم عليها .
والرفات : الأشياء المرفوتة ، أي المفتتة . يقال : رفَت الشيء إذا كسره كِسراً دقيقة . ووزن فُعال يدل على مفعول أفعال التجزئة مثل الدقاق والحُطام والجُذاذ والفُتات .
و { خلقاً جديداً } حال من ضمير « مبعوثون » . وذكر الحال لتصوير استحالة البعث بعد الفناء لأن البعث هو الإحياء ، فإحياء العظام والرفات محال عندهم ، وكَوْنهم خلقاً جديداً أدخل في الاستحالة .
والخلق : مصدر بمعنى المفعول ، ولكونه مصدراً لم يتبع موصوفه في الجمع .