اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَقَالُوٓاْ أَءِذَا كُنَّا عِظَٰمٗا وَرُفَٰتًا أَءِنَّا لَمَبۡعُوثُونَ خَلۡقٗا جَدِيدٗا} (49)

قوله تعالى : { أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً } الآيات .

لما تكلَّم أوَّلاً في الإلهيَّاتِ ، ثمَّ أتبعه بذكر شبهاتهم في النبوَّات ، ذكر في هذه الآيات شبهاتهم في إنكار المعاد ، والبعث ، والقيامة ، وقد تقدَّم أنَّ مدار القرآن على هذه الأربعة ، وهي الإلهيَّات ، والنبوّات ، والمعاد ، والقضاء والقدر ، وأيضاً فالقوم وصفوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بكونه مسحوراً فاسد العقل ، فذكروا أن من جملة ما يدلُّ على فساد عقله : أن يدعي أنَّ الإنسان بعدما يصير عظاماً ورفاتاً يعود حيًّا ، كما كان .

قوله تعالى : { أَإِذَا كُنَّا } : قد تقدم خلاف القرَّاء في مثل هذين الاستفهامين في سورة الرعد ، والعامل في " إذَا " محذوفٌ [ تقديره : ] أنبعثُ أو أنحشر ، إذا كُنَّا ، دلَّ عليه " المَبْعُوثُونَ " ولا يعمل فيها " مَبعُوثُونَ " هذا ؛ لأنَّ ما بعد " إنَّ " لا يعمل فيما قبلها ، وكذا ما بعد الاستفهام ، لا يعمل فيما قبله ، وقد اجتمعا هنا ، وعلى هذا التقدير : تكون " إذَا " متمحِّضة للظرفية ، ويجوز أن تكون شرطية ، فيقدَّر العامل فيها جوابها ، تقديره : أإذا كنَّا عظاماً ورفاتاً نبعث أو نعاد ، ونحو ذلك ، فهذا المحذوف جواب الشَّرط عند سيبويه ، والذي انصبَّ عليه الاستفهام عند يونس .

والرُّفات : ما بولغَ في دقِّه ، وتفْتِيتِه ، وهو اسمٌ لأجزاءِ ذلك الشيء المفتت ، وقال الفراء{[20464]} : " هو التُّرَابُ " وهو قول مجاهدٍ ويؤيِّده أنه قد تكرَّر في القرآن " تراباً وعظاماً " . يقال : رَفَتَهُ يَرْفِتُهُ بالكسرِ [ أي : كسره ] .

وقيل : حطاماً قال الواحدي{[20465]} : الرفت : كسر الشيء بيدك ؛ كما يرفت المدر والعظم البالي ، يقال : رفت عظام الجَزُورِ رفتاً ، إذا كسرها ، ويقال للتبن : الرفت ؛ لأنَّه دقاق الزَّرْع .

قال الأخفش : رفت رفتاً ، فهو مَرفُوتٌ ، نحو حطم حَطْماً ، فهو مَحْطُوم .

والفعال يغلب في التفريق كالرُّفات والحطامِ والعظام والدقاق والفتات ، والجذاذِ والرضاض .

قوله تعالى : " خَلْقاً " يجوز فيه وجهان :

أحدهما : أنه مصدرٌ من معنى الفعل ، لا من لفظه ، أي : نبعثُ بعثاً جديداً .

والثاني : أنه في موضع الحال ، أي : مخلوقين .

فصل

تقرير شبهة القوم : هو أنَّ الإنسان ، إذا جفَّت أعضاؤه ، وتناثرت وتفرَّقت في جوانب العالم ، واختلطت تلك الأجزاء بسائر أجزاء العالم ، فالأجزاء المائيَّة{[20466]} تختلط بمياه العالم ، والأجزاء الترابيَّة تختلط بالتُّراب ، والأجزاء الهوائيَّة تختلط بالهواء ، وإذا كان كذلك ، فكيف يعقل اجتماعها بأعيانها مرَّة أخرى ، وكيف يعقل عود الحياة إليها بأعيانها مرة أخرى ؟ ! هذا تقرير شبهتهم .

والجواب عنها : أن هذا الإشكال لا يتمُّ إلاَّ بالقدح في كمال علم الله تعالى ، وفي كمال قدرته .

أمَّا إذا سلَّمنا كونه تعالى عالماً بجميع الجزئيات ، فحينئذٍ ، هذه الأجزاء ، وإن اختلطت بأجزاء العالم ، إلاَّ أنها متميِّزة في علم الله تعالى ، ولما سلِّم كونه - تعالى - قادراً على كلِّ الممكنات ، كان قادراً على إعادة التأليف والتركيب ، والحياة ، والعقل ، إلى تلك الأجزاء بأعيانها ، فمتى سلم كمال علم الله تعالى ، وكمال قدرته ، زالت هذه الشبهة بالكليَّة .


[20464]:ينظر: معاني القرآن للفراء 2/125.
[20465]:ينظر: الفخر الرازي 20/179.
[20466]:في ب: الماهية.