{ وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا } سقفها للمخلوقات الأرضية ، ووضع الله الميزان أي : العدل بين العباد ، في الأقوال والأفعال ، وليس المراد به الميزان المعروف وحده ، بل هو كما ذكرنا ، يدخل فيه الميزان المعروف ، والمكيال الذي تكال به الأشياء والمقادير ، والمساحات التي تضبط بها المجهولات ، والحقائق التي يفصل بها بين المخلوقات ، ويقام بها العدل بينهم ، ولهذا قال :
وقوله : والسّماءَ رَفَعَها يقول تعالى ذكره : والسماء رفعها فوق الأرض .
وقوله : وَوَضَعَ المِيزَانَ يقول : ووضع العدل بين خلقه في الأرض . وذُكر أن ذلك في قراءة عبد الله «وخَفَضَ المِيزَانَ » والخفض والوضع : متقاربا المعنى في كلام العرب . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : وَوَضَعَ المِيزَانَ قال : العدل .
والسماء رفعها خلقها مرفوعة محلا ومرتبة فإنها منشأ أقضيته ومتنزل أحكامه ومحل ملائكته وقرئ بالرفع على الابتداء ووضع الميزان العدل بأن وفر على كل مستعد مستحقه ووفى كل ذي حق حقه حتى انتظم أمر العالم واستقام كما قال صلى الله عليه وسلم بالعدل قامت السموات والأرض أو ما يعرف به مقادير الأشياء من ميزان ومكيال ونحوهما كأنه لما وصف السماء بالرفعة من حيث إنها مصدر القضايا والإقرار أراد وصف الأرض بما فيها مما يظهر به التفاوت ويعرف به المقدار ويسوى به الحقوق والواجب .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله:"والسّماءَ رَفَعَها "يقول تعالى ذكره: والسماء رفعها فوق الأرض.
وقوله: "وَوَضَعَ المِيزَانَ" يقول: ووضع العدل بين خلقه في الأرض.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{والسماء رفعها} هذا يخرج على وجهين:
أحدهما: أراد حقيقة الرفع، أي رفعها بلا عمد من الأسفل ولا تعليق من الأعلى، أي أنشأها كذلك مرفوعة، لا أن كانت موضوعة، فرفعها، وأمسكها كذلك ليعلم أن قدرته خلاف قدرة الخلق وقوتهم.
والثاني: {رفعها} أي رفع قدرها ومنزلتها في قلوب الخلق حتى يرفعوا أيديهم وأبصارهم إليها عند الحاجة لما جعل لهم فيها من الأرزاق والبركات التي تنزل من السماء، والله أعلم.
وقوله تعالى: {ووضع الميزان} الذي يزن الناس به الأشياء، وبه يتحقق الإيفاء والاستيفاء؟ امتحنهم بذلك ليعرفوا بذلك قبح التقصير في ما أمروا به والمجاوزة عما نهوا عنه. وذلك يحتمل في الأحكام والشرائع والتوحيد وصرف الألوهية والعبادة إلى غير الذي يستحقه ليعلموا التقصير في ذلك، والله أعلم. ويحتمل المراد بالميزان أن الأحكام التي وضعت بين الخلق والشرائع التي جعلت عليهم ليقوموا بوفائها، وينتهوا عن التقصير فيها والتعدي عن حدودها. وذكر أن الموازين ثلاثة: أحدهما: العقول، وهي التي تعرف بها محاسن الأشياء ومساوئها وقبح الأشياء وحسنها.
والثاني: الميزان الذي جعل بين الخلق لإيفاء الحقوق والاستيفاء.
والثالث: الذي جعل في الآخرة ليوفى به ثواب الأعمال وجزاؤها، والله أعلم...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
"ووضع الميزان"...ولولا الميزان لتعذر الوصول إلى كثير من الحقوق، فلذلك نبه على النعمة فيه والهداية إليه.
جهود الإمام الغزالي في التفسير 505 هـ :
... الميزان: ما تعرف به حقائق الأشياء ويميز به صحيح العقيدة من الفاسد وهو الواسطة بين السماء والأرض، حيث قال: {والسماء رفعها ووضع الميزان ألا تطغوا في الميزان وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان والأرض وضعها للأنام}. وذلك الميزان سر من أسرار الربوبية..
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
وأما (وضع الميزان) فإشارة إلى العدل، وفيه لطيفة، وهي أنه تعالى بدأ أولا بالعلم ثم ذكر ما فيه أشرف أنواع العلوم وهو القرآن، ثم ذكر العدل وذكر أخص الأمور له وهو الميزان، وهو كقوله تعالى: {وأنزلنا معهم الكتاب والميزان} ليعمل الناس بالكتاب ويفعلوا بالميزان ما يأمرهم به الكتاب فقوله: {علم القرآن} {ووضع الميزان} مثل: {وأنزلنا معهم الكتاب والميزان}...
تفسير القرآن للمراغي 1371 هـ :
والميزان: العدل والنظام، {والسماء رفعها ووضع الميزان}...جعل نظم العالم الأرضي تسير على نهج العدل، فعدل في الاعتقاد كالتوحيد، إذ هو وسط بين إنكار الإله والشرك به، وعدل في العبادات والفضائل والآداب، وعدل بين القوى الروحية والبدنية، فأمر عباده بتزكية نفوسهم وأباح لهم كثيرا من الطيبات لحفظ البدن، ونهى عن الغلو في الدين والإسراف في حب الدنيا، وهكذا ترى أن عدله شامل لكل ما في هذا العالم لا يغادر الصغير ولا الكبير منه.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(والسماء رفعها ووضع الميزان. ألا تطغوا في الميزان. وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان). والإشارة إلى السماء -كباقي الإشارات القرآنية إلى مجالي هذا الكون- تقصد إلى تنبيه القلب الغافل، وإنقاذه من بلادة الألفة، وإيقاظه لعظمة هذا الكون وتناسقه وجماله، وإلى قدرة اليد التي أبدعته وجلالها. والإشارة إلى السماء -أيا كان مدلول السماء- توجه النظر إلى أعلى...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
ورفع السماء يقتضي خلقَها. وذُكر رفعها لأنه محل العبرة بالخلق العجيب. ومعنى رفعها: خلقُها مرفوعة إذ كانت مرفوعة بغير أعمدة كما يقال للخياط: وسّع جيب القميص، أي خِطْه واسعاً على أن في مجرد الرفع إيذاناً بسموّ المنزلة وشرفها لأن فيها منشأَ أحكام الله ومصدرَ قضائه، ولأنها مكان الملائكة، وهذا من استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه. وتقديم السماء على الفعل الناصب له زيادةٌ في الاهتمام بالاعتبار بخلقها. و {الميزان}: أصله اسمُ آلة الوزن، والوزن تقديرُ تعادُلِ الأشياء وضبط مقادير ثقلها وهو مِفعال من الوزن...وشاع إطلاق الميزان على العدل باستعارة لفظ الميزان للعدل على وجه تشبيه المعقول بالمحسوس. والميزان هنا مراد به العدل...
فالوضع هنا مستعار للجعل فهو كالإِنزال في قوله: {وأنزلنا معهم الكتاب والميزان}...
{رفعها} ففيه محسِّنان بديعيان. وقرن ذلك مع رفع السماء تنويهاً بشأن العدل بأن نسب إلى العالم العلوي وهو عالم الحق والفضائل، وأنه نزل إلى الأرض من السماء أي هو مما أمر الله به، ولذلك تكرر ذلك العدل مع ذكر خلق السماء...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
وفي الآية مورد البحث يتحدّث سبحانه عن النعمة السادسة، ألا وهي نعمة خلق السماء حيث يقول: (والسماء رفعها) نعم إنّ النور الذي يمنحنا الدفء والحرارة والهداية والحياة والحركة يأتينا من السماء وكذلك الأمطار، والوحي أيضاً، وبذلك فإنّ للسماء مفهوماً عامّاً، ماديّاً ومعنوياً. وإذا تجاوزنا كلّ هذه الأمور، فإنّ هذه السماء الواسعة مع كلّ عوالمها هي آية عظيمة من آيات الله، وهي أفضل وسيلة لمعرفة الله سبحانه، وعندما يتفكّر أُولو الألباب في عظمتها فسوف يقولون دون اختيار (ربّنا ما خلقت هذا باطلا). ثمّ يستعرض سبحانه النعمة السابعة حيث يقول تعالى: (ووضع الميزان). «الميزان» كلّ وسيلة تستعمل للقياس، سواء كان قياس الحقّ من الباطل، أو العدل من الظلم والجور، أو قياس القيم وقياس حقوق الإنسان في المراحل الاجتماعية المختلفة. و (الميزان) يشمل كذلك كلّ نظام تكويني ودستور اجتماعي، لأنّه وسيلة لقياس جميع الأشياء.