قوله تعالى : { والذين كفروا بعضهم أولياء بعض } ، في العون والنصر ، وقال ابن عباس : في الميراث ، أي : يرث المشركون بعضهم من بعض .
قوله تعالى : { إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض } ، قال ابن عباس : إلا تأخذوا في الميراث بما أمرتكم به ، وقال ابن جريج : إلا تعاونوا وتناصروا ، وقال ابن إسحاق : جعل الله المهاجرين والأنصار أهل ولاية في الدين دون من سواهم ، وجعل الكافرين بعضهم أولياء بعض ، ثم قال : { إلا تفعلوه } ، وهو أن يتولى المؤمن الكافر دون المؤمن { تكن فتنة في الأرض }
قوله تعالى : { وفساد كبير } ، فالفتنة في الأرض قوة الكفر ، والفساد الكبير ضعف الإسلام .
{ 73 ْ } { وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ ْ }
لما عقد الولاية بين المؤمنين ، أخبر أن الكفار حيث جمعهم الكفر فبعضهم أولياء لبعض{[359]} فلا يواليهم إلا كافر مثلهم .
وقوله : { إِلَّا تَفْعَلُوهُ ْ } أي : موالاة المؤمنين ومعاداة الكافرين ، بأن واليتموهم كلهم أو عاديتموهم كلهم ، أو واليتم الكافرين وعاديتم المؤمنين .
{ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ ْ } فإنه يحصل بذلك من الشر ما لا ينحصر من اختلاط الحق بالباطل ، والمؤمن بالكافر ، وعدم كثير من العبادات الكبار ، كالجهاد والهجرة ، وغير ذلك من مقاصد الشرع والدين التي تفوت إذا لم يتخذ المؤمنون وحدهم أولياء بعضهم لبعض .
قبل أن تذكر السورة القسم القسم الرابع من أقسام المؤمنين ، تتحدث عن ولاية الكفار بعضهم لبعض فتقول : { والذين كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأرض وَفَسَادٌ كَبِيرٌ } .
أى : والذين كفروا بعضهم أولياء بعض في النصرة والتعاون على قتالاكم وإيذائكم - أيها المؤمنون - فهم وإن اختلفوا فيما بينهم إلا أنهم يتفقون على عداوتكم وإنزال الأضرار بكم .
وقوله : { إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأرض وَفَسَادٌ كَبِيرٌ } تحذير شديد للمؤمنين عن مخالفة أمره - سبحانه - .
أى : إلا تفعلوا - أيها المؤمنون - ما أمرتكم به من التناصر والتواصل وتولى بعضكم بعضا ، ومن قطع العلائق بينكم وبين الكفار ، تحصل فتنة كبيرة في الأرض ، ومفسدة شديدة فيها ، لأنكم إذا لم تصيروا يداً واحدة على الشرك ، يضعف شأنكم ، وتذهب ريحكم ، وتسفك دماؤكم ويتطاول أعداؤكم عليكم ، وتصيرون عاجزين عن الدفاع عن دينكم وعرضكم . . . وبذلك تعم الفتنة ، وينتشر الفساد .
هذا بيان لحكم القسم المقابل لقوله : { إن الذين آمنوا وهاجروا } [ الأنفال : 72 ] وما عطف عليه . والواو للتقسيم والإخبار عنهم بأنّ بعضهم أولياء بعض خبر مستعمل في مدلوله الكنائي : وهو أنّهم ليسوا بأولياء للمسلمين ، لأنّ الإخبار عن ولاية بعضهم بعضاً ليس صريحة ممّا يهمّ المسلمين لولا أنّ القصد النهي عن موالاة المسلمين إيّاهم ، وبقرينة قوله : { إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير } أي : إنْ لا تفعلوا قطع الولاية معهم ، فضمير تفعلوه عائِد إلى ما في قوله : { بعضهم أولياء بعض } بتأويل : المذكور ، لظهور أنْ ليس المراد تكليف المسلمين بأن ينفذوا ولاية الذين كفروا بعضهم بعضاً ، لولا أنّ المقصود لازم ذلك وهو عدم موالاة المسلمين إيّاهم .
والفتنة اختلال أحوال الناس ، وقد مضى القول فيها عند قوله : { حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر } [ البقرة : 102 ] وقوله { والفتنة أشد من القتل } في سورة [ البقرة : 191 ] ، وقد تقدّم القول فيها آنفاً في هذه السورة .
والفتنة تحصل من مخالطَة المسلمين مع المشركين ، لأنّ الناس كانوا قريبي عهد بالإسلام ، وكانت لهم مع المشركين أواصر قرابة وولاء ومودّة ومصاهرة ومخالطة ، وقد كان إسلام من أسلم مثيراً لحنق المشركين عليه ، فإذا لم ينقطع المسلمون عن موالاة المشركين يخشى على ضعفاء النفوس من المسلمين أن تجذبهم تلك الأواصر وتفتنهم قوة المشركين وعزّتهم ، ويقذف بها الشيطان في نفوسهم ، فيحِنّوا إلى المشركين ويعودوا إلى الكفر . فكان إيجاب مقاطعتهم ؛ لقصد قطع نفوسهم عن تذكّر تلك الصلات ، وإنسائهم تلك الأحوال ، بحيث لا يشاهدون إلاّ حال جماعة المسلمين ، ولا يشتغلوا إلاّ بما يقوّيها ، وليكونوا في مزاولتهم أمور الإسلام عن تفرّغ بال من تحسّر أو تعطّف على المشركين ، فإنّ الوسائل قد يسري بعضها إلى بعض ، فتفضي وسائل الرأفة والقرابة إلى وسائل الموافقة في الرأي ، فلذا كان هذا حسماً لوسائل الفتنة .
والتعريف في الأرض } للعهد والمراد أرض المسلمين .
و« الفساد » ضدّ الصلاح ، وقد مضى عند قوله تعالى : { قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها } في سورة [ البقرة : 30 ] .
والكبير حقيقته العظيم الجسم . وهو هنا مستعار للشديد القوي من نوعه مثل قوله تعالى : { كبرت كلمة تخرج من أفواههم } [ الكهف : 5 ] .
والمراد بالفساد هنا : ضد صلاح اجتماع الكلمة ، فإنّ المسلمين إذا لم يظهروا يدا واحدة على أهل الكفر لم تظهر شوكتهم ، ولأنّه قد يحدث بينهم الاختلاف من جرّاء اختلافهم في مقدار مواصلتهم للمشركين ، ويرمي بعضهم بعضاً بالكفر أو النفاق ، وذلك يفضي إلى تفرّق جماعتهم ، وهذا فساد كبير ، ولأنّ المقصود إيجاد الجامعة الإسلامية ، وإنّما يظهر كمالها بالتفاف أهلها التفافاً واحداً ، وتجنّب ما يضادها ، فإذا لم يقع ذلك ضعف شأن جامعتهم في المرأى وفي القوة . وذلك فساد كبير .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره:"وَالّذِينَ كَفَرُوا" بالله ورسوله، "بَعْضُهُمْ أوْلِياءُ بَعْضٍ "يقول: بعضهم أعوان بعض وأنصاره، وأحقّ به من المؤمنين بالله ورسوله، وقد ذكرنا قول من قال: عنى بيان أن بعضهم أحقّ بميراث بعض من قرابتهم من المؤمنين... وقال آخرون: معنى ذلك: إن الكفار بعضهم أنصار بعض، وإنه لا يكون مؤمنا من كان مقيما بدار الحرب ولم يهاجر... عن ابن إسحاق، قال: حضّ الله المؤمنين على التواصل، فجعل المهاجرين والأنصار أهل ولاية في الدين دون من سواهم، وجعل الكفار بعضهم أولياء بعض.
وأما قوله: "إلاّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ" فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله؛ فقال بعضهم: معناه: إلا تفعلوا أيها المؤمنون ما أمرتم به من موارثة المهاجرين منكم بعضهم من بعض بالهجرة والأنصار بالإيمان دون أقربائهم من أعراب المسلمين ودون الكفار "تَكُنْ فِتْنَةٌ" يقول: يحدث بلاء في الأرض بسبب ذلك، "وَفَسادٌ كَبِيرٌ" يعني: ومعاصي الله... قال ابن زيد... ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل الإيمان إلا بالهجرة، ولا يجعلونهم منهم إلا بالهجرة...
وقال آخرون: معنى ذلك: إلا تناصروا أيها المؤمنون في الدين تكن فتنة في الأرض وفساد كبير...
وأولى التأويلين بتأويل قوله: "وَالّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أوْلِياءُ بَعْضٍ" قول من قال: معناه: أن بعضهم أنصار بعض دون المؤمنين، وأنه دلالة على تحريم الله على المؤمن المقام في دار الحرب وترك الهجرة لأن المعروف في كلام العرب من معنى الوليّ أنه النصير والمعين أو ابن العم والنسيب. فأما الوارث فغير معروف ذلك من معانيه إلا بمعنى أنه يليه في القيام بإرثه من بعده، وذلك معنى بعيد وإن كان قد يحتمله الكلام. وتوجيه معنى كلام الله إلى الأظهر الأشهر، أولى من توجيهه إلى خلاف ذلك.
وإذ كان ذلك كذلك، فبّين أن أولى التأويلين بقوله: "إلاّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ" تأويل من قال: إلا تفعلوا ما أمرتكم به من التعاون والنصرة على الدين تكن فتنة في الأرض، إذ كان متبدأ الآية من قوله: "إنّ الّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بأمْوَالِهِمْ وأنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ" بالحثّ على الموالاة على الدين والتناصر جاء، وكذلك الواجب أن يكون خاتمتها به.
وقوله تعالى: {إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} يعني والله أعلم: إن لا تفعلوا ما أمرتم به في هاتين الآيتين من إيجاب الموالاة والتناصر والتوارث بالأخُوَّةِ والهجرة ومن قطعها بترك الهجرة تَكُنْ فتنةٌ في الأرض وفساد كبير. وهذا مخرجه مخرج الخبر ومعناه الأمر؛ وذلك لأنه إذا لم يَتَوَلَّ المؤمن الفاضل على ظاهر حاله من الإيمان والفضل بما يدعو إلى مثل حاله ولم يتبرأ من الفاجر والضالّ بما يصرف عن ضلاله وفجوره أدَّى ذلك إلى الفساد والفتنة.
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
{تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ} يعني بغلبة الكفار. {وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} بضعف الإيمان، قاله ابن إسحاق وابن جرير. والثاني: إلاّ تتوارثوا بالإسلام والهجرة {تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ} باختلاف الكلمة. {وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} بتقوية الخارج على الجماعة، قاله ابن عباس وابن زيد والله أعلم.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
فالفتنة هاهنا: المحنة بالميل إلى الضلال لأنه إذا لم يتوال المؤمن المؤمن على ظاهر حاله من الإيمان والفضل، ولم يدعه إلى التبري من الضلال أدى ذلك إلى الضلال. والفساد: ضد الصلاح، وهو الانقلاب إلى الضرر القبيح. والصلاح: جريان الشيء على استقامة...
الوجيز في تفسير الكتاب العزيز للواحدي 468 هـ :
{تكن فتنة في الأرض} شرك {وفساد كبير} وذلك أن المسلم إذا هجر قريبه الكافر كان ذلك أدعى إلى الاسلام فإن لم يهجره وتوارثه بقي الكافر على كفره...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
ومعناه: نهي المسلمين عن موالاة الذين كفروا وموارثتهم وإيجاب مباعدتهم ومصارمتهم وإن كانوا أقارب، وأن يتركوا يتوارثون بعضهم بعضاً ثم قال: {إِلاَّ تَفْعَلُوهُ} أي إلا تفعلوا ما أمرتكم به من تواصل المسلمين وتولى بعضهم بعضاً حتى في التوارث، تفضيلاً لنسبة الإسلام على نسبة القرابة ولم تقطعوا العلائق بينكم وبين الكفار. ولم تجعلوا قرابتهم كلا قرابة تحصل فتنة في الأرض ومفسدة عظيمة، لأنّ المسلمين ما لم يصيروا يداً واحدة على الشرك، كان الشرك ظاهراً والفساد زائداً...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
هذا حكم بأن الكفار ولايتهم واحدة، وذلك بجمع الموارثة والمعاونة والنصرة، وهذه العبارة ترغيب وإقامة للنفوس، كما تقول لمن تريد أن يستضلع: عدوك مجتهد، أي فاجتهد أنت، وحكى الطبري في تفسير هذه الآية عن قتادة أنه قال: أبى الله أن يقبل إيمان من آمن ولم يهاجر، وذلك في صدر الإسلام، وذلك أيضاً مذكور مستوعب في تفسير قوله عز وجل: {إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيراً}.
والذي يظهر من الشرع أن حكم المؤمن التارك للهجرة مع علمه بوجوبها حكم العاصي لا حكم الكافر، وقوله تعالى: {إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم} [النساء: 97] إنما هي فيمن قتل مع الكفار، وفيهم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أنا بريء من مسلم أقام بين المشركين لا تراءى ناراهما» الحديث على اختلاف ألفاظه وقول قتادة إنما هو فيمن كان يقوم متربصاً يقول من غلب كنت معه، وكذلك ذكر في كتاب الطبري والكشي، والضمير في قوله {إلا تفعلوه} قيل هو عائد على الموارثة والتزامها...
وهذا لا تقع الفتنة عنه إلا عن بعد وبوساطة كثيرة، وقيل هو عائد على المؤازرة والمعاونة واتصال الأيدي، وهذا تقع الفتنة عنه عن قرب فهو آكد من الأول، ويظهر أيضاً عوده على حفظ العهد والميثاق الذي يتضمنه {إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق} وهذا إن لم يفعل فهي الفتنة نفسها، ويظهر أن يعود الضمير على النصر للمسلمين المستنصرين في الدين، ويجوز أن يعود الضمير مجملاً على جميع ما ذكر، والفتنة: المحنة بالحرب وما أنجز معها من الغارات والجلاء والأسر، و «الفساد الكبير» ظهور الشرك..
وبيان هذه الفتنة والفساد من وجوه:
الأول: أن المسلمين لو اختلطوا بالكفار في زمان ضعف المسلمين وقلة عددهم، فربما صارت تلك المخالطة سببا لالتحاق المسلم بالكفار.
الثاني: أن المسلمين لو كانوا متفرقين لم يظهر منهم جمع عظيم، فيصير ذلك سببا لجراءة الكفار عليهم.
الثالث: أنه إذا كان جمع المسلمين كل يوم في الزيادة في العدة والعدة، صار ذلك سببا لمزيد رغبتهم فيما هم فيه ورغبة المخالف في الالتحاق بهم.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{تكن فتنة} أي عظيمة {في الأرض} اي خلطة مميلة للمقاصد عن وجوهها {وفساد كبير} أي ينشأ عن تلك الفتنة، والكبير ناظر إلى العظم وبيان الفساد أنه إذا قارب المؤمن الكافر والكافر المؤمن وتناصروا أو ترك المؤمنون التناصر فيما بينهم انخّل النظام فاختل كل من النقض والإبرام، فاختلف الكلام فتباعدت القلوب، فتزايدت الكروب، فالواجب عليكم أن تكونوا إلباً واحداً ويداً واحدة في الموالاة وتقاطعوا الكفار بكل اعتبار ليقوم أمركم وتطيب حياتكم، وتصلح غاية الصلاح دنياكم وآخرتكم...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
ثم قال عز وجل: {والذين كفروا بعضهم أولياء بعض} أي في النصرة والتعاون على قتال المسلمين فهم في جماعتهم فريق واحد تجاه المسلمين وإن كانوا مللا كثيرة يعادي بعضها بعضا، ولما نزلت هذه الآية بل السورة لم يكن في الحجاز منهم إلا المشركون واليهود، وكان اليهود يتولون المشركين وينصرونهم على النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بعد ما تقدم تفصيله من عقده صلى الله عليه وسلم العهود معهم، وما كان من نقضهم لها. ثم ظهرت بوادر عداوة نصارى الروم له في الشام، وسيأتي بيان ذلك في الكلام على غزوة تبوك من سورة التوبة وهي المتمة لما هنا من أحكام القتال مع المشركين وأهل الكتاب، وقيل إن الولاية هنا ولاية الإرث كما قيل بذلك في ولاية المؤمنين فيما قبلها، وجعلوه الأصل في عدم التوارث بين المسلمين والكفار وبإرث ملل الكفر بعضهم لبعض. وقال بعض المفسرين إن هذه الجملة تدل بمفهومها على نفي المؤازرة والمناصرة بين جميع الكفار وبين المسلمين وإيجاب المباعدة والمصارمة وإن كانوا أقارب، وتراهم يقلد بعضهم بعضا في هذا القول. وقولهم إنه مفهوم الآية أو هو المراد منها غير مسلم، وقد تقدم النقل بأن صلة الرحم عامة في الإسلام للمسلم والكافر كتحريم الخيانة... {إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير} أي أن لم تفعلوا ما ذكر وهو ما شرع لكم من ولاية بعضكم لبعض وتناصركم وتعاونكم تجاه ولاية الكفار بعضهم لبعض عليكم، ومن الوفاء بالعهود والمواثيق مع الكفار إلى أن ينقضي عهدهم أو ينبذ على سواء يقع من الفتنة والفساد الكبير في الأرض ما فيه أعظم الخطر عليكم بتخاذلكم وفشلكم المفضي إلى ظفر الكفار بكم، واضطهادكم في دينكم لصدكم عنه، كما كانوا يفتنون ضعفاءكم بمكة قبل الهجرة... ثم قال: {إن لا تفعلوه} وهو أن يتولى المؤمن الكافر دون المؤمن « تكون فتنة في الأرض وفساد كبير» فالفتنة في الأرض قوة الكفر والفساد الكبير ضعف الإسلام اه.
وأقول: الأظهر أن الفتنة في الأرض ما ذكرنا من اضطهادهم المسلمين وصدهم عن دينهم كما يدل عليه ما سبق في هذه السورة وفي سورة البقرة وهي من لوازم قوة الكفر وسلطان أهله الذي كانوا عليه. ولا يزال الذين يدعون حرية الدين منهم في هذا العصر يفتنون المسلمين عن دينهم حتى في بلاد المسلمين أنفسهم بما يلقيه دعاة النصرانية منهم من المطاعن فيه وفي الرسول صلى الله عليه وسلم، وبما يغرون به الفقراء من العوام الجاهلين من المال وأسباب المعيشة، كذلك الفساد الكبير من لوازم ضعف الإسلام الذي يوجب على أهله تولي بعضهم لبعض في التعاون والنصرة وعدم تولي غيرهم من دونهم، ويوجب على حكومته القوية العدل المطلق والمساواة فيه بين المؤمن والكافر والبر والفاجر والقوي والضعيف والغني والفقير والقريب والبعيد، كما تقدم شرحه مرارا والذي يحرم الخيانة ونقض العهود حتى مع الكفار كما تقدم في هذه السورة أيضا مفصلا وذكرنا به آنفا. ومن وقف على تاريخ الدول الإسلامية التي سقطت وبادت والتي ضعفت بعد قوة يرى أن السبب الأعظم لفساد أمرها ترك تلك الولاية أو استبدال غيرها بها، ومن الظاهر الجلي أن مسألة التوارث لا تقتضي هذه الفتنة العظيمة ولا هذا الفساد الكبير.
وقال ابن كثير في تفسير هذه الشرطية: أي إن لم تجانبوا المشركين وتوالوا المؤمنين وإلا وقعت فتنة في الناس، وهو التباس الأمر واختلاط المؤمنين بالكافرين، يقع بين الناس فساد منتشر عريض طويل، اه وأقول إن اختلاط المؤمنين الأقوياء في إيمانهم بالكافرين سبب قوي لانتشار الإسلام وظهور حقيته وفضائله كما وقع بعد صلح الحديبية، ولذلك سماه الله تعالى فتحا مبينا. وكذلك كان انتشار المسلمين في كثير من بلاد الكفر بقصد التجارة سببا لإسلام أهلها كلهم أو بعضهم كما وقع في جزائر الهند الشرقية (جاوة وما جاورها) وفي أواسط إفريقية. فهذا القول على إطلاقه ضعيف بل مردود، وإنما يصح في حال ضعف المسلمين في الدين والعلم واختلاطهم بمن هم أعلم منهم بالجدل وإيراد الشبهات في صورة الحجج، مع تعصبهم في كفرهم ودعوتهم إليه، كحال هذا الزمان في بلاد كثيرة، ولولا هذا التنبيه لما نقلت هذا القول.
ورجح ابن جرير بعد نقل الخلاف قول من قال: إن هذا في ولاية التناصر والتعاون ووجوب الهجرة في ذلك العهد، وتحريم المقام في دار الحرب، وعلله بأن المعروف المشهور في كلام العرب من معنى الولي أنه النصير والمعين، أو ابن العم والنسيب، فأما الوارث فغير معروف ذلك من معانيه ثم قال ما نصه: وإذا كان ذلك كذلك تبين أن أولى التأويلين بقوله: {إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير} تأويل من قال: «إلا تفعلوا ما أمرتكم به من التعاون والنصرة على الدين»...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
إن الأمور بطبيعتها كذلك -كما أسلفنا. إن المجتمع الجاهلي لا يتحرك كأفراد؛ إنما يتحرك ككائن عضوي، تندفع أعضاؤه، بطبيعة وجوده وتكوينه، للدفاع الذاتي عن وجوده وكيانه. فهم بعضهم أولياء بعض طبعاً وحكماً.. ومن ثم لا يملك الإسلام أن يواجههم إلا في صورة مجتمع آخر له ذات الخصائص، ولكن بدرجة أعمق وأمتن وأقوى. فأما إذا لم يواجههم بمجتمع ولاؤه بعضه لبعض، فستقع الفتنة لأفراده من المجتمع الجاهلي- لأنهم لا يملكون مواجهة المجتمع الجاهلي المتكافل أفراداً -وتقع الفتنة في الأرض عامة بغلبة الجاهلية على الإسلام بعد وجوده ويقع الفساد في الأرض بطغيان الجاهلية على الإسلام؛ وطغيان ألوهية العباد على ألوهية الله؛ ووقوع الناس عبيداً للعباد مرة أخرى. وهو أفسد الفساد ولا يكون بعد هذا النذير نذير، ولا بعد هذا التحذير تحذير.. والمسلمون الذين لا يقيمون وجودهم على أساس التجمع العضوي الحركي ذي الولاء الواحد والقيادة الواحدة، يتحملون أمام الله- فوق ما يتحملون في حياتهم ذاتها -تبعة تلك الفتنة في الأرض، وتبعة هذا الفساد الكبير...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
هذه حدود ولاية المؤمنين، ولقد ذكر سبحانه وتعالى ولاية الكفار بعضهم مع بعض، وعدم ولايتنا معهم، فقال تعالى: {وَالَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ}.
إذا كان المؤمن لا يوالي إلا مؤمنا، ولا تكون له المحبة والولاية إلا المؤمن مثله، فلا تكون ولايته لغيره، {وَالَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ}، أنهم لا يكونون إلا أولياء لأنفسهم، فالمسلمون ولايتهم للإسلام، والكفار لا يتولون ولا يصح لمسلم أن يتولاهم كما قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم (51)} (المائدة)، والولاية هنا النصر، أي أن الكافر نصير الكافر، ولا يصح أن ينصر المسلم الكافر، والنص يتضمن ذلك المعنى، أي أنه لا تناصر بين المسلم والكافر، ولا تناصر إلا بين الكافر والكافر.
وقوله تعالى: {إلا تفعلوه} الضمير هنا يعود على التناصر بين المسلم والكافر بأن يستنصر المسلم بالكافر أو ينصر المسلم، ونفيه مفهوم ضمنا من اختصاص الولاية للمؤمن بأن تكون مع مؤمن، واختصاص الولاية للكافر بألا تكون إلا لكافر، {وإلا تفعلوه} هي (إن) المدغمة في (لا) النافية، ففعل الشرط (لا تفعلوه)، ومعنى إلا تفعلوه أي إن لا تتقوا تناصركم معه، تكن فتنة في الأرض وفساد كبير، والمعنى إن كنتم تناصرون بهم فتستنصرون بهم وتنصرونهم تكن فتنة في الأرض وفساد، لأن نفي النفي إثبات، ومؤدى ذلك: إن كنتم لا تتباعدون عن المناصرة فيهم تكن فتنة في الأرض وفساد كبير.
وذلك حق؛ لأن أقبح الفتنة أو أشدها أن يكون ولاء المؤمن للكافر، بأن يكون للولي ناصرا، ومستنصرا فإن ذلك يفتن المسلمين عن دينهم، ويجعلهم في ولاء للكافرين، والله تعالى يقول: {لا تتولوا قوما غضب الله عليهم (13)}، (الممتحنة)، فتوليهم فتنة تفتن المؤمن عن دينه وفي خلقه، وتجعل تعاونه مع الكفار، وفيه فساد كبير فيه قوة للكفر، وضعف للإيمان وأي فساد أكبر.
وإن الفساد الذي أصاب المسلم الآن، والفتنة التي يموج فيها المؤمنون، إنما هي من ولاء المؤمنين للكافرين كما ترى ذلك في ساسة المسلمين منذ ضعفوا، فقد ازدادوا ضعفا بهذا الولاء، وكان أمر المسلمين إلى بوار، {إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون (55) ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون (56)} (المائدة).
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
ففي هذه الآية الكريمة آخر إنذار وجهه كتاب الله مباشرة إلى كافة المؤمنين، ومضمون هذا الإنذار الإلهي الخطير: إنكم أيها المسلمون إن ضيعتم الألفة التي عقدتها بينكم، وانقسمتم على أنفسكم، وواليتم أعداء الإسلام بدلا من موالاة بعضكم، وإن أهملتم إعداد القوة اللازمة لحفظ كيانكم، والعمل المتواصل لتدعيم سلطانكم، وإن تخاذلتم عن إعزاز ملتكم وحماية دولتكم، وإن تهاونتم في السعي إلى فرض هيبتكم وإعلاء كلمتكم {إلا تفعلوه} أي أن لا تفعلوا كل هذا: {تكن فتنة في الأرض} أي تقم فتنة في أطراف العالم،