قوله تعالى : { يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال } ، أي : حثهم .
قوله تعالى : { إن يكن منكم عشرون } ، رجلاً .
قوله تعالى : { صابرون } ، محتسبون .
قوله تعالى : { يغلبوا مائتين } من عدوهم يقهروهم .
قوله تعالى : { وإن يكن منكم مائة } ، صابرة محتسبة .
قوله تعالى : { يغلبوا ألفاً من الذين كفروا } ، ذلك { بأنهم قوم لا يفقهون } ، أي : إن المشركين يقاتلون على غير احتساب ولا طلب ثواب ، ولا يثبتون إذا صدقتموهم القتال ، خشية أن يقتلوا . وهذا خبر بمعنى الأمر ، وكان هذا يوم بدر فرض الله على الرجل الواحد من المؤمنين قتال عشرة من الكافرين ، فثقلت على المؤمنين ، فخفف الله عنهم ، فنزل : { الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفاً } ، أي : ضعفاً في الواحد عن قتال العشرة ، وفي المائة عن قتال الألف ، وقرأ أبو جعفر : ( ضعفاء )بفتح العين والمد على الجمع ، وقرأ الآخرون بسكون العين .
قوله تعالى : { فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين } من الكفار .
قوله تعالى : { وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله والله مع الصابرين } ، فرد من العشرة إلى الاثنين ، فإن كان المسلمون على الشطر من عدوهم لا يجوز لهم أن يفروا . وقال سفيان قال ابن شبرمة : وأرى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مثل هذا . قرأ أهل الكوفة : ( وإن يكن منكم مائة ) ، بالياء فيهما وافق أهل البصرة في الأول والباقون بالتاء فيهما . وقرأ عاصم وحمزة ( ضعفاً ) بفتح الضاد هاهنا وفي سورة الروم ، والباقون بضمها .
ثم إن هذا الحكم خففه اللّه على العباد فقال : { الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا ْ } فلذلك اقتضت رحمته وحكمته التخفيف ، . { فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ْ } بعونه وتأييده .
وهذه الآيات صورتها صورة الإخبار عن المؤمنين ، بأنهم إذا بلغوا هذا المقدار المعين يغلبون ذلك المقدار المعين في مقابلته من الكفار ، وأن اللّه يمتن عليهم بما جعل فيهم من الشجاعة الإيمانية .
ولكن معناها وحقيقتها الأمر وأن اللّه أمر المؤمنين - في أول الأمر - أن الواحد لا يجوز له أن يفر من العشرة ، والعشرة من المائة ، والمائة من الألف .
ثم إن اللّه خفف ذلك ، فصار لا يجوز فرار المسلمين من مثليهم من الكفار ، فإن زادوا على مثليهم جاز لهم الفرار ، ولكن يرد على هذا أمران : .
أحدهما : أنها بصورة الخبر ، والأصل في الخبر أن يكون على بابه ، وأن المقصود بذلك الامتنان والإخبار بالواقع . .
والثاني : تقييد ذلك العدد أن يكونوا صابرين بأن يكونوا متدربين على الصبر .
ومفهوم هذا أنهم إذا لم يكونوا صابرين ، فإنه يجوز لهم الفرار ، ولو أقل من مثليهم [ إذا غلب على ظنهم الضرر ]{[354]} كما تقتضيه الحكمة الإلهية .
ويجاب عن الأول بأن قوله : { الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ ْ } إلى آخرها ، دليل على أن هذا أمر{[355]} لازم وأمر محتم ، ثم إن اللّه خففه إلى ذلك العدد ، . فهذا ظاهر في أنه أمر ، وإن كان في صيغة الخبر . .
وقد يقال : إن في إتيانه بلفظ الخبر ، نكتة بديعة لا توجد فيه إذا كان بلفظ الأمر ، . وهي تقوية قلوب المؤمنين ، والبشارة بأنهم سيغلبون الكافرين . .
ويجاب عن الثاني : أن المقصود بتقييد ذلك بالصابرين ، أنه حث على الصبر ، وأنه ينبغي منكم أن تفعلوا الأسباب الموجبة لذلك[ فإذا فعلوها صارت الأسباب الإيمانية والأسباب المادية مبشرة بحصول ما أخبر اللّه به من النصر لهذا العدد القليل ]{[356]}
ثم حكى - سبحانه - بعض مظاهر فضله على المؤمنين ورحمته بهم فقال : { الآن خَفَّفَ الله عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِن يَكُنْ مِّنكُمْ مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يغلبوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ الله } .
وقوله { ضَعْفاً } قرأه بعضهم بفتح الضاد ، وقرأه آخرون بضمها ، وهما بمعنى واحد عند الجمهور ، والمراد به الضعف في الدبن .
وقيل : الضعف - بالفتح يكون في الرأى والعقل ، وبالضم يكون في البدن .
والمعنى : لقد فرضنا عليكم - أيها المؤمنون - أول الأمر أن يثبت الواحد منكم أمام عشرة من الكافرين .
. والآن وبعد أن شق عليكم الاستمرار على ذلك ، ولم تبق هناك ضرورة لدوام هذا الحكم لكثرة عددكم . . شرعنا لكم التخفيف رحمة بكم ، وراية لأحوالكم ، فأوجبنا عليكم أن يثبت الواحد منكم أمام اثنين من أعدئاكم بدلاً من عشرة ، وبشرناكم بأنه إن يوجد منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين من أعدائكم ، وإن يوجد منكم ألف يغلبوا ألفين منهم بإذن الله وتيسيره وتأييده .
وقوله : { والله مَعَ الصابرين } تذييل مقرر لمضمون ما قبله .
أى : والله - تعالى - مع الصابرين بتأييده ورعايته ونصره ، فاحرصوا على أن تكونوا من المؤمنين الصادقين لتنالوا منه - سبحانه - ما يسعدكم في دنياكم وآخرتكم .
هذا ، ومن العلماء من يرى أن هذه الآية قد نسخت الآية السابقة عليها ، ومنهم من يرى غير ذلك .
قال الآلوسى : قوله : { إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ . . } شرط في معنى الأمر بمصابرة الواحد العشرة ، والوعد بأنهم إن صبروا غلبوا - بعون الله وتأييده - فالجملة خبرية لفظاً إنشائية معنى .
والمعنى : ليصبرن الواحد لعشرة ؛ وليست بخير محض . .
وقوله : { الآن خَفَّفَ الله عَنكُمْ . . } أخرج البخارى وغيره عن ابن عباس - رضى الله عنهما - قال : لما نزلت { إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ } شق ذلك على المسلمين إذ فرض عليهم أن لا يفر واحد من عشرة فجاء التخفيف وهل يعد نسخا أولا ؟ قولان : اختار بعضهم الثانى منها وقال : إن الآية مخففة ، ونظير ذلك التخفيف على المسافر بالفطر .
وذهب الجمهور إلى الأول ، وقالوا : إن الآية الثانية ناسخة للأولى . وقال بعض العلماء : فرض الله على المؤمنين أول الأمر ألا يفر الواحد من المؤمنين من العشرة من الكفار ، وكان ذلك في وسعهم ، فأعز الله بهم الدين على قلتهم ، وخذل بأيديهم المشركين على كثرتهم ، وكانت السرايا تهزم من المشركين أكثر من عشر أمثالها تأييداً من الله لدينه .
ولما شق على المؤمنين الاستمرار على ذلك ، وضعفوا عن تحمله ، ولم تبق ضرورة لدوام هذا الحكم لكثرة عدد المسلمين ممن دخلوا في دين الله أفواجاً نزل التخفيف ، ففرض على الواحد الثبات للاثنين من الكفار ، ورخص له في الفرار إذا كان العدو أكثر من اثنين .
وهو رخصة كالفطر للمسافر ، وذهب الجمهور إلى أنه نسخ .
وقال الشيخ القاسمى : إن قيل : إن كفاية عشرين لمائتين تغنى عن كفاية مائة لألف ، وكفاية مائة لمائتين تغنى عن كفاية ألف لألفين ، لما تقرر من وجوب ثبات الواحد للعشرة في الأولى ، وثبات الواحد للاثنين في الثانية فما سر هذا التكرير ؟
أجيب : بأن سره كون كل عدة بتأييد القليل على الكثير لزيادة التقرير المفيد لزيادة الاطمئنان ، والدلالة على أن الحال مع القلة والكثرة واحدة لا تتفاوت ، فإن العشرين قد لا تغلب المائتين ، وتغلب المائة الألف ، وأما الترتيب في المكرر فعلى ذكر الأقل مث الأكثر على الترتيب الطبيعى .
وقيل في سر ذلك : إنه بشارة للمسلمين بأن جنود الإِسلام سيجاوز عددهم العشرات والمئات إلى الألوف .
ثم قال : وقال في البحر : انظر إلى فصاحة هذا الكلام ، حيث اثبت في الشرطية الأولى قيد الصبر ، وحذف نظيره من الثانية ، وأثبت في الثانية قيد كونهم من الكفرة ، وحذفه من الأولى ، ولما كان الصبر شديد المطلوبية أثبت في أولى جملتى التخفيف وحذف من الثانية لدلالة السابقة عليه ، ثخم ختمت بقوله : { والله مَعَ الصابرين } مبالغة في شدة المطلوبية ، وإشارة إلى تأييدهم ، وأنهم منصورون حتماً ، لأن من كان الله معه لا يغلب . .
هذه الآية نزلت بعد نزول الآية التي قبلها بمدّة . قال في « الكشّاف » : « وذلك بعد مدّة طويلة » . ولعلّه بعد نزول جميع سورة الأنفال ، ولعلّها وضعت في هذا الموضع لأنّها نزلت مفردة غير متّصلة بآيات سورة أخرى ، فجعل لها هذا الموضع لأنّه أنسب بها لتكون متّصلة بالآية التي نَسخت هي حكمَها ، ولم أر من عيّن زمن نزولها . ولا شكّ أنّه كان قبل فتح مكّة فهي مستأنفة استئنافاً ابتدائياً محضاً لأنّها آية مستقلة .
و { الآن } اسم ظرف للزمان الحاضر . قيل : أصله أوان بمعنى زمان ، ولمّا أريد تعيينه للزمان الحاضر لازَمته لام التعريف بمعنى العهد الحضوري ، فصار مع اللام كلمة واحدة ولزمهُ النصب على الظرفية .
وروى الطبري عن ابن عبّاس : « كان لكلّ رجل من المسلمين عشرة لا ينبغي أن يفرّ منهم ، وكانوا كذلك حتّى أنزل الله { آلآن خفّف الله عنكم وعلم أنّ فيكم ضعفاً } » الآية ، فعبّأ لكلّ رجل من المسلمين رجلين من المشركين ، فهذا حكم وجوب نسخ بالتخفيف الآتي ، قال ابن عطية : وذهب بعض الناس إلى أنّ ثبوت الواحد للعشرة إنّما كان على جهة ندب المؤمنين إليه ثم حطَّ ذلك حين ثقل عليهم إلى ثبوت الواحد للاثنين . وروي هذا عن ابن عباس أيضاً . قلت : وكلام ابن عبّاس المروي عند ابن جرير مناف لهذا القول .
والوقت المستحضر بقوله : { آلآن } هو زمن نزولها . وهو الوقت الذي علم الله عنده انتهاء الحاجة إلى ثبات الواحد من المسلمين للعشرة من المشركين ، بحيث صارت المصلحة في ثبات الواحد لاثنين ، لا أكثر ، رفقاً بالمسلمين واستبقاء لعددهم .
فمعنى قوله : { آلآن خفف الله عنكم } أنّ التخفيف المناسب لِيُسْر هذا الدين روعي في هذا الوقت ، ولم يراع قبله لمانع منَع من مراعاته فرُجّح إصلاح مجموعهم .
وفي قوله تعالى : { آلآن خفف الله عنكم } . وقوله : { وعلم أن فيكم ضعفا } دلالة على أنّ ثبات الواحد من المسلمين للعشرة من المشرمكين كان وجوباً وعزيمة وليس ندباً خلافاً لما نقله ابن عَطِية عن بعض العلماء . ونسب أيضاً إلى ابن عباس كما تقدّم آنفاً ، لأنّ المندوب لا يثقل على المكلّفين ، ولأنّ إبطال مشروعية المندوب لا يسمّى تخفيفاً ، ثم إذا أبطل الندب لزم أن يصير ثبات الواحد للعشرة مباحاً مع أنه تعريض الأنفس للتهلكة .
وجملة : { وعلم أن فيكم ضعفاً } في موضع الحال ، أي : خفف الله عنكم وقد علم من قبل أنّ فيكم ضعفاً ، فالكلام كالاعتذار على ما في الحكم السابق من المشقّة بأنّها مشقة اقتضاها استصلاح حالهم ، وجملة الحال المفتتحة بفعل مضي يغلب اقترانها ب ( قَد ) . وجعل المفسّرون موقع و { علم أن فيكم ضعفاً } موقع العطف فنشأ إشكال أنّه يوهم حدوث علم الله تعالى بضعفهم في ذلك الوقت ، مع أنّ ضعفهم متحقّق ، وتأوّلوا المعنى على أنّه طرأ عليهم ضعف ، لما كثر عددهم ، وعلمه الله ، فخفّف عنهم ، وهذا بعيد لأنّ الضعف في حالة القلّة أشدّ .
ويحتمل على هذا المحمل أن يكون الضعفُ حدث فيهم من تكرّر ثبات الجمع القليل منهم للكثير من المشركين ، فإنّ تكرر مزاولة العمل الشاقّ تفضي إلى الضجر .
والضعفُ : عدم القدرة على الأعمال الشديدة والشاقّة ، ويكون في عموم الجسد وفي بعضه وتنكيره للتنويع ، وهو ضعف الرهبة من لقاء العدد الكثير في قلّة ، وجعْله مدخول ( في ) الظرفية يومىء إلى تمكّنه في نفوسهم فلذلك أوجب التخفيف في الكليف .
ويجوز في ضاد ( ضعف ) الضمّ والفتح ، كالمُكث والمَكثثِ ، والفُقر والفَقر ، وقد قرىء بهما ؛ فقرأه الجمهور بضمّ الضاد وقرأه عاصم ، وحمزة ، وخلف بفتح الضاد .
ووقع في كتاب « فقه اللغة » للثعالبي أنّ الفتح في وهن الرأي والعقللِ ، والضم في وهن الجسم ، وأحسب أنّها تفرقة طارئة عند المولّدين .
وقرأ أبو جعفر { ضُعَفاء } بضمّ الضاد وبمدّ في آخره جمعَ ضعيف .
والفاء في قوله : { فإن تكن منكم مائة صابرة } لتفريع التشريع على التخفيف .
وقرأ نافع ، وابن كثير ، وابن عامر ، وأبو عمرو ، ويعقوب { تكن } بالمثناة الفوقية . وقرأه البقية بالتحتية للوجه المتقدّم آنفاً .
وعبّر عن وجوب ثبات العدد من المسلمين لمثليْه من المشركين بلفظي عددين معيّنين ومِثْليْهما : ليجيء الناسخ على وفق المنسوخ ، فقوبل ثبَات العشرين للمائتين بنسخه إلى ثَبات مائة واحدة للمائتين فأُبقِيَ مقدار عدد المشركين كما كان عليه في الآية المنسوخة ، إيماء إلى أنّ موجب التخفيف كثرة المسلمين ، لا قلّة المشركين ، وقوبل ثبات عدد مائة من المسلمين لألف من المشركين بثبات ألف من المسلمين لألفين من المشركين إيماء إلى أنّ المسلمين الذين كان جيشهم لا يتجاوز مرتبة المئات صار جيشهم يعدّ بالآلاف .
وأعيد وصف مائة المسلمين ب { صابرة } لأنّ المقام يقتضي التنويه بالاتّصاف بالثبات .
ولم توصف مائة الكفّار بالكفر وبأنّهم قوم لا يفقهون : لأنّه قد عُلم ، ولا مقتضي لإعادته .
و { إذنُ اللَّه } أمره فيجوز أن يكون المراد أمرَه التكليفي ، باعتبار ما تضمّنه الخبر من الأمر ، كما تقدّم ، ويجوز أن يراد أمره التكويني باعتبار صورة الخبر والوعد .
والمجرور في مَوقع الحال من ضمير { يغلبوا } الواقع في هذه الآية . وإذن الله حاصل في كلتا الحالتين المنسوخة والناسخة . وإنّما صرّح به هنا ، دون ما سبق ، لأنّ غلبَ الواحد للعشرة أظهر في الخرق للعادة ، فيعلم بدْءاً أنّه بإذن الله ، وأمّا غلبَ الواحد الاثنين فقد يحسب ناشئاً عن قوة أجساد المسلمين ، فنبّه على أنّه بإذن الله : ليعلم أنّه مطّرد في سائِر الأحوال ، ولذلك ذيّل بقوله : { والله مع الصابرين }