اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{ٱلۡـَٰٔنَ خَفَّفَ ٱللَّهُ عَنكُمۡ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمۡ ضَعۡفٗاۚ فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّاْئَةٞ صَابِرَةٞ يَغۡلِبُواْ مِاْئَتَيۡنِۚ وَإِن يَكُن مِّنكُمۡ أَلۡفٞ يَغۡلِبُوٓاْ أَلۡفَيۡنِ بِإِذۡنِ ٱللَّهِۗ وَٱللَّهُ مَعَ ٱلصَّـٰبِرِينَ} (66)

فخفَّف اللَّهُ عنهم فقال : { الآن خَفَّفَ الله عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً } في الواحد عن قتال العشرة وفي المائة عن قتال الألف .

وقرأ المفضل{[17493]} عن عاصم " وعُلِمَ " مبنياً للمفعول ، و { أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً } في محلِّ رفع لقيامه مقام الفاعل ، وهو في محلِّ نصبِ على المفعول به في قراءة العامة ؛ لأن فاعل الفعل ضميرٌ يعودُ على اللَّهِ تعالى .

قوله : " ضَعْفاً " قرأ عاصم{[17494]} وحمزة هنا ، وفي الرُّوم في كلماتها الثلاث { الله الذي خَلَقَكُمْ مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً } [ الروم : 54 ] بفتح الضاد والباقون بضمها . وعن حفص وحده خلافٌ في الروم .

وقرأ عيسى{[17495]} بن عمر : " ضُعُفاً " بضم الضاد والعين وكلها مصادر .

وقيل : الضَّعْفُ - بالفتح - في الرأي والعقل ، وبالضم في البدن .

وهذا قول الخليل بن أحمد ، هكذا نقله الراغب عنه . ولمَّا نقل ابنُ عطية هذا عن الثعلبي ، قال : " وهذا القول تردُّه القراءة " . وقيل : هما بمعنى واحد ، لغتان : لغةُ الحجاز الضَّمُّ ، ولغةُ تميم الفتح ، نقله أبو عمرو ، فيكونان ك : الفَقْر والفُقْر ، والمَكْث والمُكْث ، والبَخَل والبُخْل .

وقرأ ابن{[17496]} عباس فيما حكى عنه النقاش وأبو جعفر " ضُعَفَاء " جمعاً على " فُعَلاءَ " ك : " ظَرِيف وظُرفُاء .

قوله " يكُن مِنكُم " " يكن " في هذه الأماكن يجوز أن تكون التامَّة ، ف " مِنكُمْ " إمَّا حالٌ من " عِشْرون " لأنها في الأصل صفةٌ لها ، وإمَّا متعلق بنفس الفعل ، لكونه تاماً ، وأن تكون الناقصة فيكون " مِنكُمْ " الخبرَ ، والمرفوعٌ الاسمَ ، وهو " عِشْرُونَ " ، و " مائة " ، و " ألف " .

فصل

روى عطاءٌ عن ابن عبَّاسٍ : " لما نزلت التكليف الأوَّلُ ضَجَّ المهاجرون ، وقالوا : يا ربَّنا نحن جياع ، وعدونا شباع ، ونحن في غربة وعدونا في أهلهم ، ونحن قد أخرجنا من ديارنا وأموالنا ، وعدونا ليس كذلك ، وقال الأنصارُ : شُغلْنَا بعَدُوِّنَا ، وواسينا إخواننا ، فنزل التَّخفيف " {[17497]} .

وقال عكرمةُ : " إنَّما أمر الرجل أن يصبر لعشرة ، والعشرةُ لمائةٍ حال ما كان المسلمون قليلين ، فلمَّا كثروا خفف الله عنهم{[17498]} ، ولهذا قال ابن عباس : " أيُّمَا رجلٌ فرَّ من ثلاثة فلم يفر ، فإن فر من اثنين فقد فَرَّ " . والجمهورُ ادَّعُوا أن قوله : { الآن خَفَّفَ الله عَنكُمْ } ناسخ للآية المتقدمة " .

وأنكر أبو مسلم الأصفهانيُّ هذا النسخ ، وقال : " إن قوله في الآية الأولى : { إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ } فهذا الخبر محمول على الأمر ، لكن بشرط كون العشرين قادرين على الصَّبر لمُقاتلةِ المائتين ، وقوله : { الآن خَفَّفَ الله عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً } يدلُّ على أنَّ ذلك الشرط غير حاصل في حقِّ هؤلاء ، فالآية الأولى دلَّت على ثبوت حكم بشرط مخصوص ، وهذه الآية دلَّت على أنَّ ذلك الشَّرط مفقود في حقِّ هذه الجماعة ، فلا جرم لم يثبت ذلك الحكم ، وعلى هذا التقدير لم يحصل النسخ ألبتة " .

فإن قيل : قوله تعالى : { إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ } معناه : ليكن العشرون صابرون لمقابلة المائتين ، وعلى هذا التقدير فالنسخ لازم .

فالجوابُ : لم لا يجوزُ أن يكون المرادُ من الآية إن حصل عشرون صابرون في مقابلة المائتين فليشتغلوا بجهادهم ؟

والحاصلُ أنَّ لفظ الآية ورد بلفظ الخبر ؛ خالفنا هذا الظَّاهر وحملناه على الأمر ، أما على رعاية الشرط فقد تركناه على ظاهره ، وتقديره : إن يحصل منكم عشرون موصوفون بالصبر على مقاومة المائتين ، فليشتغلوا بمقاومتهم ، وعلى هذا فلا نَسْخَ .

فإن قيل : قوله : { الآن خَفَّفَ الله عَنكُمْ } مشعر بأن هذا التَّكليف كان متوجهاً عليهم فالجوابُ : لا نسلم أنَّ لفظ التخفيف يدلُّ على حصول التثقيل قبله ؛ لأنَّ عادة العرب الرخصة بهذا الكلام ، كقوله تعالى عند الرُّخْصَةِ للحر في نكاح الأمة ، لمن لا يستطيع نكاح الحرة : { وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً } [ النساء : 25 ] فكذا ههنا .

وتحقيقه أنَّ هؤلاء العشرين كانوا في محلِّ أن يقال إنَّ ذلك الشرط حاصِلٌ فيهم ، فكان ذلك التكليف لازماً عليهم فلمَّا بيَّن اللَّهُ تعالى أنَّ ذلك الشرط غير حاصل فيهم ، وأنَّه تعالى علم أن فيهم ضعفاً لا يقدرون على ذلك فقد تخلصوا عن ذلك الخوف ، فصحَّ أن يقال : خفَّف اللَّهُ عنهم ، وممَّا يدل على عدم النَّسْخِ أنَّهُ تعالى ذكر هذه الآية مقارنة للآية الأولى ، وجعل النَّاسِخ مقارناً للمنسوخ لا يجوزُ .

فإن قيل : المعتبر في النَّاسخِ والمنسوخ بالنُّزُولِ دون التلاوة ، فقد يتقدم الناسخ وقد يتأخر ، ألا ترى في عدة الوفاة الناسخ مقدم على المنسوخ .

فالجوابُ : أنَّ الناسخ لمَّا كان مقارنته للمنسوخ لا يجوز في الوجود ، وجب ألا يكون جائزاً في الذكر ، اللهم إلاَّ لدليل قاهر ، وأنتم ما ذكرتم ذلك .

وأمَّا قوله في عدة الوفاة الناسخ مقدم على المنسوخ ، فأبوا مسلم ينكر كلّ أنواع النسخ في القرآن فكيف يمكن إلزام هذا الكلام عليه ؟ فهذا تقرير قول أبي مسلم .

قال ابن الخطيب : " إن ثبت إجماع الأمَّة على الإطلاق قبل أبي مسلمٍ على النَّسْخِ فلا كلام ، فإن لم يحصل الإجماعُ القاطع ؛ فنقولُ : قول أبي مسلمٍ حسن صحيح " .

فصل

احتجَّ هشام على قوله : إنَّ الله تعالى لا يعلم الجزئيات إلاَّ عند وقوعها بقوله { الآن خَفَّفَ الله عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً } فإنَّ معنى الآية : الآن علم اللَّهُ أن فيكم ضَعْفاً ، وهذا يقتضي أنَّ علمه تعالى بضعفهم ما حصل إلاَّ في هذا الوقتِ

وأجاب المتكلمون بأنَّ معنى الآية : أنَّهُ تعالى قبل حدوث الشيء لا يعلمه حادثاً واقعاً .

فقوله { الآن خَفَّفَ الله عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً } معناه : أن الآن حصل العلم بوقوعه وحصوله ، وقبل ذلك كان الحاصل هو العلم بأنه سيقع أو سيحدث .

فصل

الذي استقر عليه حكم التكليف بمقتضى هذه الآية أنَّ كلَّ مسلم بالغ مكلف وقف بإزاء كافرين ، عبداً كان أو حراً فالهزيمة عليه محرمة ما دام معه سلاح يقاتل ، فإن لم يبق معه سلاح ، فله أن ينهزم ، وإن قاتله ثلاثة حلت له الهزيمةُ والصبر أحسن .

روى الواحديُّ في البسيط : " أنه وقف جيش مؤتة ، وهم ثلاثة ألاف وأمراؤهم على التَّعاقب زيد بن حارثة ثمَّ جعفر بن أبي طالب ثمَّ عبد الله بن رواحة لمائتي ألف من المشركين ، مائة ألف من الرُّومِ ، ومائة ألف من المستعربة ، وهم لخم وجذام " .

قوله : " بإذنِ اللَّهِ " أي : أنه لا تقع الغلبةُ إلاَّ بإذن اللَّهِ ، والإذن ههنا هو الإرادة وذلك يدل على مسألة خلق الأفعال ، وإرادة الكائنات .

ثم ختم الآية بقوله : { والله مَعَ الصابرين } والمرادُ ما ذكره في الآية الأولى في قوله { إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ } فبيَّن ههنا أنَّ الله مع الصَّابرين والمقصود أن العشرين لو صبروا ووقفوا ، فإنَّ نصري معهم وتوفيقي مقارن لهم وهذا يدلُّ صحَّة مذهب أبي مسلم ، وهو أن ذلك الحكم لم ينسخ ، بل هو ثابت كما كان فإنَّ العشرين إن قدروا على مصابرة المائتين ، بقي ذلك الحكم ، وإنْ لم يقدروا على مصابرتهم فالحكمُ المذكور هنا زائل .


[17493]:ينظر: الدر المصون 3/435.
[17494]:ينظر: السبعة (308-309) الحجة 4/161-162، حجة القراءات ص 313، إعراب القراءات 1/233، النشر 2/277، إتحاف 2/83.
[17495]:ينظر: المحرر الوجيز 2/7551، الدر المصون 3/436.
[17496]:ينظر: إعراب القراءات 1/233، الدر المصون 3/436.
[17497]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (6/283).
[17498]:ذكره الرازي في "تفسيره" (15/155) عن عكرمة.