فخفَّف اللَّهُ عنهم فقال : { الآن خَفَّفَ الله عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً } في الواحد عن قتال العشرة وفي المائة عن قتال الألف .
وقرأ المفضل{[17493]} عن عاصم " وعُلِمَ " مبنياً للمفعول ، و { أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً } في محلِّ رفع لقيامه مقام الفاعل ، وهو في محلِّ نصبِ على المفعول به في قراءة العامة ؛ لأن فاعل الفعل ضميرٌ يعودُ على اللَّهِ تعالى .
قوله : " ضَعْفاً " قرأ عاصم{[17494]} وحمزة هنا ، وفي الرُّوم في كلماتها الثلاث { الله الذي خَلَقَكُمْ مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً } [ الروم : 54 ] بفتح الضاد والباقون بضمها . وعن حفص وحده خلافٌ في الروم .
وقرأ عيسى{[17495]} بن عمر : " ضُعُفاً " بضم الضاد والعين وكلها مصادر .
وقيل : الضَّعْفُ - بالفتح - في الرأي والعقل ، وبالضم في البدن .
وهذا قول الخليل بن أحمد ، هكذا نقله الراغب عنه . ولمَّا نقل ابنُ عطية هذا عن الثعلبي ، قال : " وهذا القول تردُّه القراءة " . وقيل : هما بمعنى واحد ، لغتان : لغةُ الحجاز الضَّمُّ ، ولغةُ تميم الفتح ، نقله أبو عمرو ، فيكونان ك : الفَقْر والفُقْر ، والمَكْث والمُكْث ، والبَخَل والبُخْل .
وقرأ ابن{[17496]} عباس فيما حكى عنه النقاش وأبو جعفر " ضُعَفَاء " جمعاً على " فُعَلاءَ " ك : " ظَرِيف وظُرفُاء .
قوله " يكُن مِنكُم " " يكن " في هذه الأماكن يجوز أن تكون التامَّة ، ف " مِنكُمْ " إمَّا حالٌ من " عِشْرون " لأنها في الأصل صفةٌ لها ، وإمَّا متعلق بنفس الفعل ، لكونه تاماً ، وأن تكون الناقصة فيكون " مِنكُمْ " الخبرَ ، والمرفوعٌ الاسمَ ، وهو " عِشْرُونَ " ، و " مائة " ، و " ألف " .
روى عطاءٌ عن ابن عبَّاسٍ : " لما نزلت التكليف الأوَّلُ ضَجَّ المهاجرون ، وقالوا : يا ربَّنا نحن جياع ، وعدونا شباع ، ونحن في غربة وعدونا في أهلهم ، ونحن قد أخرجنا من ديارنا وأموالنا ، وعدونا ليس كذلك ، وقال الأنصارُ : شُغلْنَا بعَدُوِّنَا ، وواسينا إخواننا ، فنزل التَّخفيف " {[17497]} .
وقال عكرمةُ : " إنَّما أمر الرجل أن يصبر لعشرة ، والعشرةُ لمائةٍ حال ما كان المسلمون قليلين ، فلمَّا كثروا خفف الله عنهم{[17498]} ، ولهذا قال ابن عباس : " أيُّمَا رجلٌ فرَّ من ثلاثة فلم يفر ، فإن فر من اثنين فقد فَرَّ " . والجمهورُ ادَّعُوا أن قوله : { الآن خَفَّفَ الله عَنكُمْ } ناسخ للآية المتقدمة " .
وأنكر أبو مسلم الأصفهانيُّ هذا النسخ ، وقال : " إن قوله في الآية الأولى : { إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ } فهذا الخبر محمول على الأمر ، لكن بشرط كون العشرين قادرين على الصَّبر لمُقاتلةِ المائتين ، وقوله : { الآن خَفَّفَ الله عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً } يدلُّ على أنَّ ذلك الشرط غير حاصل في حقِّ هؤلاء ، فالآية الأولى دلَّت على ثبوت حكم بشرط مخصوص ، وهذه الآية دلَّت على أنَّ ذلك الشَّرط مفقود في حقِّ هذه الجماعة ، فلا جرم لم يثبت ذلك الحكم ، وعلى هذا التقدير لم يحصل النسخ ألبتة " .
فإن قيل : قوله تعالى : { إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ } معناه : ليكن العشرون صابرون لمقابلة المائتين ، وعلى هذا التقدير فالنسخ لازم .
فالجوابُ : لم لا يجوزُ أن يكون المرادُ من الآية إن حصل عشرون صابرون في مقابلة المائتين فليشتغلوا بجهادهم ؟
والحاصلُ أنَّ لفظ الآية ورد بلفظ الخبر ؛ خالفنا هذا الظَّاهر وحملناه على الأمر ، أما على رعاية الشرط فقد تركناه على ظاهره ، وتقديره : إن يحصل منكم عشرون موصوفون بالصبر على مقاومة المائتين ، فليشتغلوا بمقاومتهم ، وعلى هذا فلا نَسْخَ .
فإن قيل : قوله : { الآن خَفَّفَ الله عَنكُمْ } مشعر بأن هذا التَّكليف كان متوجهاً عليهم فالجوابُ : لا نسلم أنَّ لفظ التخفيف يدلُّ على حصول التثقيل قبله ؛ لأنَّ عادة العرب الرخصة بهذا الكلام ، كقوله تعالى عند الرُّخْصَةِ للحر في نكاح الأمة ، لمن لا يستطيع نكاح الحرة : { وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً } [ النساء : 25 ] فكذا ههنا .
وتحقيقه أنَّ هؤلاء العشرين كانوا في محلِّ أن يقال إنَّ ذلك الشرط حاصِلٌ فيهم ، فكان ذلك التكليف لازماً عليهم فلمَّا بيَّن اللَّهُ تعالى أنَّ ذلك الشرط غير حاصل فيهم ، وأنَّه تعالى علم أن فيهم ضعفاً لا يقدرون على ذلك فقد تخلصوا عن ذلك الخوف ، فصحَّ أن يقال : خفَّف اللَّهُ عنهم ، وممَّا يدل على عدم النَّسْخِ أنَّهُ تعالى ذكر هذه الآية مقارنة للآية الأولى ، وجعل النَّاسِخ مقارناً للمنسوخ لا يجوزُ .
فإن قيل : المعتبر في النَّاسخِ والمنسوخ بالنُّزُولِ دون التلاوة ، فقد يتقدم الناسخ وقد يتأخر ، ألا ترى في عدة الوفاة الناسخ مقدم على المنسوخ .
فالجوابُ : أنَّ الناسخ لمَّا كان مقارنته للمنسوخ لا يجوز في الوجود ، وجب ألا يكون جائزاً في الذكر ، اللهم إلاَّ لدليل قاهر ، وأنتم ما ذكرتم ذلك .
وأمَّا قوله في عدة الوفاة الناسخ مقدم على المنسوخ ، فأبوا مسلم ينكر كلّ أنواع النسخ في القرآن فكيف يمكن إلزام هذا الكلام عليه ؟ فهذا تقرير قول أبي مسلم .
قال ابن الخطيب : " إن ثبت إجماع الأمَّة على الإطلاق قبل أبي مسلمٍ على النَّسْخِ فلا كلام ، فإن لم يحصل الإجماعُ القاطع ؛ فنقولُ : قول أبي مسلمٍ حسن صحيح " .
احتجَّ هشام على قوله : إنَّ الله تعالى لا يعلم الجزئيات إلاَّ عند وقوعها بقوله { الآن خَفَّفَ الله عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً } فإنَّ معنى الآية : الآن علم اللَّهُ أن فيكم ضَعْفاً ، وهذا يقتضي أنَّ علمه تعالى بضعفهم ما حصل إلاَّ في هذا الوقتِ
وأجاب المتكلمون بأنَّ معنى الآية : أنَّهُ تعالى قبل حدوث الشيء لا يعلمه حادثاً واقعاً .
فقوله { الآن خَفَّفَ الله عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً } معناه : أن الآن حصل العلم بوقوعه وحصوله ، وقبل ذلك كان الحاصل هو العلم بأنه سيقع أو سيحدث .
الذي استقر عليه حكم التكليف بمقتضى هذه الآية أنَّ كلَّ مسلم بالغ مكلف وقف بإزاء كافرين ، عبداً كان أو حراً فالهزيمة عليه محرمة ما دام معه سلاح يقاتل ، فإن لم يبق معه سلاح ، فله أن ينهزم ، وإن قاتله ثلاثة حلت له الهزيمةُ والصبر أحسن .
روى الواحديُّ في البسيط : " أنه وقف جيش مؤتة ، وهم ثلاثة ألاف وأمراؤهم على التَّعاقب زيد بن حارثة ثمَّ جعفر بن أبي طالب ثمَّ عبد الله بن رواحة لمائتي ألف من المشركين ، مائة ألف من الرُّومِ ، ومائة ألف من المستعربة ، وهم لخم وجذام " .
قوله : " بإذنِ اللَّهِ " أي : أنه لا تقع الغلبةُ إلاَّ بإذن اللَّهِ ، والإذن ههنا هو الإرادة وذلك يدل على مسألة خلق الأفعال ، وإرادة الكائنات .
ثم ختم الآية بقوله : { والله مَعَ الصابرين } والمرادُ ما ذكره في الآية الأولى في قوله { إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ } فبيَّن ههنا أنَّ الله مع الصَّابرين والمقصود أن العشرين لو صبروا ووقفوا ، فإنَّ نصري معهم وتوفيقي مقارن لهم وهذا يدلُّ صحَّة مذهب أبي مسلم ، وهو أن ذلك الحكم لم ينسخ ، بل هو ثابت كما كان فإنَّ العشرين إن قدروا على مصابرة المائتين ، بقي ذلك الحكم ، وإنْ لم يقدروا على مصابرتهم فالحكمُ المذكور هنا زائل .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.