تفسير القرآن الكريم لعبد الله شحاته - شحاته  
{ٱلۡـَٰٔنَ خَفَّفَ ٱللَّهُ عَنكُمۡ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمۡ ضَعۡفٗاۚ فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّاْئَةٞ صَابِرَةٞ يَغۡلِبُواْ مِاْئَتَيۡنِۚ وَإِن يَكُن مِّنكُمۡ أَلۡفٞ يَغۡلِبُوٓاْ أَلۡفَيۡنِ بِإِذۡنِ ٱللَّهِۗ وَٱللَّهُ مَعَ ٱلصَّـٰبِرِينَ} (66)

66 – { الآنَ خَفَّفَ اللّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُواْ أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ } .

أي : الآن خفف الله عنكم إيجاب ثبات الواحد لعشرة ، وقد علم أن فيكم ضعفا في أبدانكم أو كثرة أعبائكم ؛ أو دخول جموع من الأعراب ؛ والأتباع الذين أسلموا تبعا لقادتهم ، ولم يستقر الإيمان كاملا في قلوبهم ؛ فاستوجب ذلك التخفيف من الله العليم القدير .

{ فإن يكن منكم مائة صابرة } . عند اللقاء ثابتة في محاربة الأعداء ، مطمئنة إلى نصر الله للصابرين ؛ فإنهم يغلبوا مائتين . من الأعداء .

{ وإن يكن منكم ألف } . صابرون { يغلبوا ألفين } . بالنصر والمعونة الإلهية { بإذن الله } . وقوته وقدرته ، { والله مع الصابرين } . بتأييده ورعايته ونصره .

وفيه تنبيه على أسباب النصر ، ومنها : الصبر والثبات ، والإعداد المادي والنفسي ، والمعرفة بحقائق الأمور ومقاصد الجهاد ، ومصاولة اليأس ، ومقاومة الشائعات والأراصف ، والبعد عن أسباب الخلاف والفرقة ، وطاعة الرحمان .

القول بالنسخ

ذهب بعض المفسرين إلى أن الآية 66 ناسخة للآية السابقة عليها ، واستشهدوا بما رواه البخاري عن ابن عباس قال : لما نزلت : { إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين } . شق ذلك على المسلمين ، حين فرض عليهم ألا يفر الواحد من عشرة .

فجاء التخفيف فقال : { الآن خفف الله عنكم . . . . }

وقال الجصاص في أحكام القرآن :

لا محالة قد وقع النسخ عن المسلمين فيما كلفوا به أولا ، ولم يكن أولئك القوم قد نقصت بصائرهم ، ولا قل صبرهم ، إنما خالطهم قوم لم يكن لهم مثل بصائرهم ونياتهم ، وهم المعنيون بقوله تعالى : { وعلم أن فيكم ضعفا } .

وذهب آخرون إلى أنه لا نسخ بين الآيتين : " فإن القول بالنسخ يقتضي أن يكون بين الآيتين – الناسخة والمنسوخة – مسافة زمنية ، بحيث يكون لتغير الحكم ونسخه بحكم آخر مقتضى اقتضاه تغير الحال بامتداد الزمن ، وليس هناك دليل على أن فارقا زمنا وقع بين نزول الآيتين . . . بل ظاهر الآيتين ينبئ عن أنهما نزلتا معا في وقت واحد ، وقد قيل : إنهما نزلتا في غزوة بدر ، وقيل : قبل بدء القتال " lxi .

وقد ذهب الأستاذ على حسب الله في كتابه أصول التشريع الإسلامي إلى أنه لا نسخ بين الآيتين .

فالآية الأولى تمهيد للآية الثانية ؛ حتى يتحمل المسلمون الثبات أمام ضعف عددهم بنفس ثابتة مطمئنة .

وذلك كما يقول الأستاذ لتلميذه : أنا أعرف أنك ذكي مجتهد تستطيع أن تقرأ مائة صفحة من هذا الكتاب ، ومع ذلك فإني أطلب منك أن تقرأ عشرين صفحة بصبر وتفهم ووعي .

واختار الشيخ حسنين محمد مخلوف في كتابه : " صفوة البيان لمعاني القرآن " .

أن الآية الثانية رخصة كالفطر للمسافر ؛ فإذا كان المسلمون في شدة وحرج وخطر ، واقتضى الأمر ثبات لعشرة ؛ وجب أن يثبتوا .

وإذا كانوا في سعة ويسر ؛ جاء التخفيف ، وفرض على الواحد الثبات للاثنين من الكفار ، ورخص له في الفرار ؛ إذا كان العدو أكثر من اثنين .

والجمهور على أن الآية الثانية ناسخة للأولى .

ويرى بعض العلماء أنه يمكن العمل بالآيتين ، فالآية الأولى عند القوة والحاجة ، والآية الثانية عند السعة واليسر .

يقول الأستاذ عبد الكريم الخطيب :

" وقد فعل المسلمون هذا فعلا ، في سيرتهم مع الإسلام ، وفي انتصارهم على أعداء تكثرهم أكثر من عشرة أضعاف . فإن كنت في شك من هذا فاسأل التاريخ . . . بكم من المسلمين فتح خالد بن الوليد مملكة فارس ؟ ! وبكم من المسلمين فتح أبو عبيدة بن الجراح بلاد الروم ؟ !

وكم كانت أعداء المسلمين الذين فتح بهم عمرو بن العاص مصر ؟ ! وبكم من المسلمين اقتحم طارق ابن زياد بلاد الأندلس ، واستولى على زمام الأمر فيها ؟ !

وجواب التاريخ هنا شهادة قاطعة : بأن المسلم إذا استنجد بإيمانه بالله ؛ كان وحده كتيبة تغلب العشرات ، لا العشرة من جند العدو " lxii .

من تفسير المنار

يقول السيد رشيد رضا في تفسير المنار :

" والآية تدل على أن من شأن المؤمنين ، أن يكونوا أعلم من الكافرين ، وأفقه منهم بكل علم وفن يتعلق بحياة البشر ، وارتقاء الأمم ، وأن حرمان الكفار من هذا العلم ؛ هو السبب في كون المائة منهم دون العشرة من المؤمنين الصابرين .

وهكذا كان المؤمنون من قرونهم الأولى . . . أما الآن ، فقد أصبح المسلمون غافلين عن هذه المعاني الجليلة ؛ فزال مجدهم ! "