مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{ٱلۡـَٰٔنَ خَفَّفَ ٱللَّهُ عَنكُمۡ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمۡ ضَعۡفٗاۚ فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّاْئَةٞ صَابِرَةٞ يَغۡلِبُواْ مِاْئَتَيۡنِۚ وَإِن يَكُن مِّنكُمۡ أَلۡفٞ يَغۡلِبُوٓاْ أَلۡفَيۡنِ بِإِذۡنِ ٱللَّهِۗ وَٱللَّهُ مَعَ ٱلصَّـٰبِرِينَ} (66)

قوله تعالى : { الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله والله مع الصابرين } في الآية مسائل :

المسألة الأولى : روي أنه صلى الله عليه وسلم كان يبعث العشرة إلى وجه المائة ، بعث حمزة في ثلاثين راكبا قبل بدر إلى قوم فلقيهم أبو جهل في ثلثمائة راكب وأرادوا قتالهم ، فمنعهم حمزة وبعث رسول الله عبد الله بن أنيس إلى خالد بن صفوان الهذلي وكان في جامعة ، فابتدر عبد الله وقال : يا رسول الله صفه لي ، فقال : «إنك إذا رأيته ذكرت الشيطان ووجدت لذلك قشعريرة وقد بلغني أنه جمع لي فاخرج إليه واقتله » قال : فخرجت نحوه فلما دنوت منه وجدت القشعريرة فقال لي : من الرجل ؟ قلت له من العرب سمعت بك وبجمعك ؟ ومشيت معه حتى إذا تمكنت منه قتلته بالسيف وأسرعت إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وذكرت أني قتلته . فأعطاني عصا وقال : «أمسكها فإنها آية بيني وبينك يوم القيامة » ثم إن هذا التكليف شق على المسلمين فأزاله الله عنهم بهذه الآية قال عطاء عن ابن عباس : لما نزل التكليف الأول ضج المهاجرون ، وقالوا : يا رب نحن جياع وعدونا شباع ، ونحن في غربة وعدونا في أهليهم ، ونحن قد أخرجنا من ديارنا وأموالنا وأولادنا وعدونا ليس كذلك ، وقال الأنصار : شغلنا بعدونا وواسينا إخواننا ، فنزل التخفيف ، وقال عكرمة : إنما أمر الرجل أن يصبر لعشرة ، والعشرة لمائة حال ما كان المسلمون قليلين ، فلما كثروا خفف الله تعالى عنهم ، ولهذا قال ابن عباس : أيما رجل فر من ثلاثة فلم يفر ، فإن فر من اثنين فقد فر ، والحاصل أن الجمهور ادعوا أن قوله : { الآن خفف الله عنكم } ناسخ للآية المتقدمة وأنكر أبو مسلم الأصفهاني هذا النسخ ، وتقرير قوله أن يقال : إنه تعالى قال في الآية الأولى : { إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين } فهب أنا نحمل هذا الخبر على الأمر إلا أن هذا الأمر كان مشروطا بكون العشرين قادرين على الصبر في مقابلة المائتين ، وقوله : { الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا } يدل على أن ذلك الشرط غير حاصل في حق هؤلاء ، فصار حاصل الكلام أن الآية الأولى دلت على ثبوت حكم عند شرط مخصوص ، وهذه الآية دلت على أن ذلك الشرط مفقود في حق هذه الجماعة ، فلا جرم لم يثبت ذلك الحكم ، وعلى هذا التقدير لم يحصل النسخ البتة .

فإن قالوا : قوله : { إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين } معناه : ليكن العشرون الصابرون في مقابلة المائتين ، وعلى هذا التقدير فالنسخ لازم .

قلنا : لم لا يجوز أن يقال إن المراد من الآية إن حصل عشرون صابرون في مقابلة المائتين ، فليشتغلوا بجهادهم ؟ والحاصل أن لفظ الآية ورد على صورة الخبر خالفنا هذا الظاهر وحملناه على الأمر ، أما في رعاية الشرط فقد تركناه على ظاهره ، وتقديره إن حصل منكم عشرون موصوفون بالصبر على مقاومة المائتين فليشتغلوا بمقاومتهم ، وعلى هذا التقدير فلا نسخ .

فإن قالوا : قوله : { الآن خفف الله عنكم } مشعر بأن هذا التكليف كان متوجها عليهم قبل هذا التكليف .

قلنا : لا نسلم أن لفظ التخفيف يدل على حصول التثقيل قبله ، لأن عادة العرب الرخصة بمثل هذا الكلام ، كقوله تعالى عند الرخصة للحر في نكاح الأمة { يريد الله أن يخفف عنكم } وليس هناك نسخ وإنما هو إطلاق نكاح الأمة لمن لا يستطيع نكاح الحرائر ، فكذا ههنا . وتحقيق القول أن هؤلاء العشرين كانوا في محل أن يقال إن ذلك الشرط حاصل فيهم ، فكان ذلك التكليف لازما عليهم ، فلما بين الله أن ذلك الشرط غير حاصل فيهم وأنه تعالى علم أن فيهم ضعفاء لا يقدرون على ذلك فقد تخلصوا عن ذلك الخوف ، فصح أن يقال خفف الله عنكم ، ومما يدل على عدم النسخ أنه تعالى ذكر هذه الآية مقارنة للآية الأولى ، وجعل الناسخ مقارنا للمنسوخ لا يجوز .

فإن قالوا : العبرة في الناسخ والمنسوخ بالنزول دون التلاوة فإنها قد تتقدم وقد تتأخر ، ألا ترى أن في عدة الوفاة الناسخ مقدم على المنسوخ .

قلنا : لما كان كون الناسخ مقارنا للمنسوخ غير جائز في الوجود ، وجب أن لا يكون جائزا في الذكر ، اللهم إلا لدليل قاهر وأنتم ما ذكرتم ذلك ، وأما قوله في عدة الوفاة الناسخ مقدم على المنسوخ فنقول : إن أبا مسلم ينكر كل أنواع النسخ في القرآن فكيف يمكن إلزام هذا الكلام عليه ؟ فهذا تقرير قول أبي مسلم . وأقول : إن ثبت إجماع الأمة على الإطلاق قبل أبي مسلم على حصول هذا النسخ فلا كلام عليه ، فإن لم يحصل هذا الإجماع القاطع فنقول : قول أبي مسلم صحيح حسن .

المسألة الثانية : احتج هشام على قوله إن الله تعالى لا يعلم الجزئيات إلا عند وقوعها بقوله : { الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا } قال : فإن معنى الآية : الآن علم الله أن فيكم ضعفا وهذا يقتضي أن علمه بضعفهم ما حصل إلا في هذا الوقت . والمتكلمون أجابوا بأن معنى الآية : أنه تعالى قبل حدوث الشيء لا يعلمه حاصلا واقعا ، بل يعلم منه أنه سيحدث ، أما عند حدوثه ووقوعه فإن يعلمه حادثا واقعا ، فقوله : { الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا } معنا : أن الآن حصل العلم بوقوعه وحصوله ، وقبل ذلك فقد كان الحاصل هو العلم بأنه سيقع أو سيحدث .

المسألة الثالثة : قرأ عاصم وحمزة { علم أن فيكم ضعفا } بفتح الضاد وفي الروم مثله ، والباقون فيهما بالضم ، وهما لغتان صحيحتان ، الضعف والضعف كالمكث والمكث . وخالف حفص عاصما في هذا الحرف وقرأهما بالضم وقال : ما خالفت عاصما في شيء من القرآن إلا في هذا الحرف .

المسألة الرابعة : الذي استقر حكم التكليف عليه بمقتضى هذه الآية أن كل مسلم بالغ مكلف وقف بإزاء مشركين ، عبدا كان أو حرا فالهزيمة عليه محرمة ما دام معه سلاح يقاتل به ، فإن لم يبق معه سلاح فله أن ينهزم ، وإن قاتله ثلاثة حلت له الهزيمة والصبر أحسن . روى الواحدي في «البسيط » أنه وقف جيش مؤتة وهم ثلاثة آلاف وأمراؤهم على التعاقب زيد بن حارثة ثم جعفر بن أبي طالب ثم عبد الله بن رواحة في مقابلة مائتي ألف من المشركين ، مائة ألف من الروم ومائة ألف من المستعربة وهم لخم وجذام .

المسألة الخامسة : قوله : { بإذن الله } فيه بيان أنه لا تقع الغلبة إلا بإذن الله . والإذن ههنا هو الإرادة . وذلك يدل على قولنا في مسألة خلق الأفعال وإرادة الكائنات .

واعلم أنه تعالى ختم الآية بقوله : { والله مع الصابرين } والمراد ما ذكره في الآية الأولى من قوله : { إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين } فبين في آخر هذه الآية أن الله مع الصابرين والمقصود أن العشرين لو صبروا ووقفوا فإن نصرتي معهم وتوفيقي مقارن لهم ، وذلك يدل على صحة مذهب أبي مسلم وهو أن ذلك الحكم ما صار منسوخا بل هو ثابت كما كان ، فإن العشرين إن قدروا على مصابرة المائتين بقي ذلك الحكم ، وإن لم يقدروا على مصابرتهم فالحكم المذكور ههنا زائل .