قوله تعالى : { يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين وما يفعلوا من خير فلن يكفروه } . قرأ حمزة والكسائي وحفص بالياء فيهما ، إخبارا عن الأمة القائمة ، وقرأ الآخرون بالتاء فيهما ، لقوله ( كنتم خير أمة ) وأبو عمرو يرى القراءتين جميعاً ، ومعنى الآية : وما تفعلوا من خير فلن تعدموا ثوابه ، بل يشكر لكم وتجازون عليه .
ثم بين - سبحانه - أنه لن يضيع شيئا مما قدموه من أعمال صالحة ، بل سيكافئهم على ذلك بما هو أفضل وأبقى فقال : { وَمَا يَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَروهُ } أى أن هؤلاء الذين وصفهم بتلك الصفات الطيبة لن يضيع الله شيئا مما قدموه من عمل صالح ، وإنما سيجازيهم بما هم أهله من ثواب جزيل ، وأجر كبير بدون أى نقصان أو حرمان .
و { وَمَا } فى قوله : { وَمَا يَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ } شرطية . وفعل الشرط قوله : { يَفْعَلُواْ } وجوابه قوله : { فَلَنْ يُكْفَروهُ } .
و { مِنْ } فى قوله : { مِنْ خَيْرٍ } لتأكيد العموم أى ما يفعلوا من أى خير سواء أكان قليلا أم كثيرا فلن يحرموا ثوابه .
وأصل الكفر : الستر والتغطية . وقد صح تعدية الفعل كفر إلى مفعولين لأنه هنا بمعنى حرم .
ولذا قال صاحب الكشاف : فغن قلت لم عدى إلى مفعولين ، وشكر وكفر لا يتعديان إلا إلى واحد تقول : شكر النعمة وكفرها ؟ قلت : ضمن معنى الحرمان فكأنه قيل : فلن يحرموه بمعنى : فلن يحرموا جزاءه " .
وقوله : { والله عَلِيمٌ بالمتقين } تذييل مقرر لمضمون ما قبله . أى هو - سبحانه - عليم بأحوال عباده وسيجازى التمقين بما يستحقون من ثواب ، وسيجازى الكافرين بما يستحقون من عقاب .
فأنت ترى أن هذه الآيات الكريمة قد أنصفت المؤمنين الصادقين من أهل الكتاب ، ووصفتهم بجملة من الصفات الطيبة .
وصفتهم بأنهم طائفة ثابتة على الحق . وأنهم يتلون آيات آناء الليل وأطراف النهار ، وأنهم مكثرون من التضرع إلى الله فى صلواتهم وسجودهم ، وأنهم يؤمنون بالله واليوم الآخر وأنهم يأمرون بالمعروف ، وأنهم ينهون عن المنكر . وأنهم يسارعون فى الخيرات ، وأنهم من الصالحين .
ثم بشرهم - سبحانه - بعد وصفهم بهذه الصفات الكريمة بأن ما يقدموه من خير فلن يحرموا ثوابه ، لأنه - سبحانه - عليم بأحوال عباده ولن يضيع أجر من أحسن عملا .
وَمَا يَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَروهُ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتّقِينَ
اختلف القراء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قراء الكوفة : { وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْر فَلَنْ يُكْفَرُوهُ } جميعا ، ردّا على صفة القوم الذين وصفهم جلّ ثناؤه بأنهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر . وقرأته عامة قراء المدينة والحجاز وبعض قراء الكوفة بالتاء في الحرفين جميعا : { وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ تُكْفُرُوهُ } بمعنى : وما تفعلوا أنتم أيها المؤمنون من خير فلن يكفركموه ربكم . وكان بعض قراء البصرة يرى القراءتين في ذلك جائزا بالياء والتاء في الحرفين .
والصواب من القراءة في ذلك عندنا : { وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ } بالياء في الحرفين كليهما ، يعني بذلك الخبر عن الأمة القائمة ، التالية آيات الله . وإنما اخترنا ذلك ، لأن ما قبل هذه الاَية من الاَيات خبر عنهم ، فإلحاق هذه الاَية إذ كان لا دلالة فيها تدلّ على الانصراف عن صفتهم بمعاني الاَيات قبلها أولى من صرفها عن معاني ما قبلها . وبالذي اخترنا من القراءة كان ابن عباس يقرأ .
حدثني أحمد بن يوسف ، قال : حدثنا القاسم بن سلام ، قال : حدثنا حجاج ، عن هارون ، عن أبي عمرو بن العلاء ، قال : بلغني عن ابن عباس أنه كان يقرؤها جميعا بالياء .
فتأويل الاَية إذًا على ما اخترنا من القراءة : وما تفعل هذه الأمة من خير ، وتعمل من عمل لله فيه رضا فلن يكفرهم الله ذلك¹ يعني بذلك : فلن يبطل الله ثواب عملهم ذلك ، ولا يدعهم بغير جزاء منه لهم عليه ، ولكنه يجزل لهم الثواب عليه ، ويُسني لهم الكرامة والجزاء .
وقد دللنا على معنى الكفر مضى قبل بشواهده ، وأن أصله تغطية الشيء ، فكذلك ذلك في قوله : { فَلَنْ يُكْفَرُوهُ } : فلن يغطي على ما فعلوا من خير ، فيتركوا بغير مجازاة ، ولكنهم يشكرون على ما فعلوا من ذلك ، فيجزل لهم الثواب فيه .
وبنحو ما قلنا في ذلك من التأويل تأوّل ذلك من أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : «وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ تُكْفَرُوهُ » يقول : لن يضلّ عنكم .
حُدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، بمثله .
وأما قوله : { وَاللّهُ عَليمٌ بالمُتّقِينَ } فإنه يقول تعالى ذكره : والله ذو علم بمن اتقاه بطاعته ، واجتناب معاصيه ، وحافظ أعمالهم الصالحة حتى يثيبهم عليها ، ويجازيهم بها . تبشيرا منه لهم جلّ ذكره في عاجل الدنيا ، وحضّا لهم على التمسك بالذي هم عليه من صالح الأخلاق التي ارتضاها لهم .
{ وما يفعلوا من خير فلن يكفروه } فلن يضيع ولا ينقص ثوابه البتة ، سمي ذلك كفرانا كما سمي توفية الثواب شكرا وتعديته إلى مفعولين لتضمنه معنى الحرمان وقرأ حفص وحمزة والكسائي { وما يفعلوا من خير فلن يكفروه } بالياء والباقون بالتاء { والله عليم بالمتقين } بشارة لهم وإشعار بأن التقوى مبدأ الخير وحسن العمل وأن الفائز عند الله هو أهل التقوى .
قرأ ابن كثير ونافع وعاصم في رواية أبي بكر وابن عامر < تفعلوا >و بالتاء على مخاطبة هذه الأمة ، وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم بالياء فيهما ، على مشابهة ما تقدم من «يتلون ويؤمنون » وما بعدهما ، وكان أبو عمرو يقرأ بالوجهين ، و { تكفروه } معناه : يعطى دونكم فلا تثابون عليه ، ومن هذا القول النبي صلى الله عليه وسلم : من أزلت إليه نعمة فليذكرها فإن ذكرها فقد شكرها ، فإن لم يفعل فقد كفرها{[3444]} ، ومنه قول الشاعر{[3445]} : [ عنترة ] : [ الكامل ] .
( والْكُفْرُ مَخبَثَةٌ لِنَفْسِ الْمُنْعِمِ ) . . . وفي قوله تعالى : { والله عليم بالمتقين } وعد ووعيد .