اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَمَا يَفۡعَلُواْ مِنۡ خَيۡرٖ فَلَن يُكۡفَرُوهُۗ وَٱللَّهُ عَلِيمُۢ بِٱلۡمُتَّقِينَ} (115)

قوله : { وَمَا يَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ } .

قرأ الأخوان وحَفْص : " يَفْعَلُوا " و " يُكْفروهُ " – بالغيبة- .

والباقون بالخطاب . {[5813]}

الغيب مراعاة لقوله : { مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ } ، فجرى على لفظ الغيبة ، أخبرنا - تعالى - أن ما يفعلونه من خير يبقى لهم غير مكفور ؛ وقراءة الباقين بالتاء الرجوع إلى الخطاب لأمة محمد صلى الله عليه وسلم في قوله : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ } .

ويجوز أن يكون التفاتاً من الغيبة في قوله : { أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ } إلى آخره ؛ إلى خطابهم ، وذلك أنه آنسهم بهذا الخطاب ، ويؤيد ذلك أنه اقتصر على ذكر الخير دون الشر ؛ ليزيد في التأنيس . ويدل على ذلك قراءة الأخوين ؛ فإنها كالنص في أن المراد قوله : { أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ } .

فصل

اعلم أن اليهودَ لما قالوا لعبد الله بن سلام وأصحابه : إنكم خسرتم بسبب إيمانكم ، قال الله تعالى : بل فازوا بالدرجات العُظْمَى ، فالمقصود تعظيمهم ؛ ليزول عن قلبهم أثر كلام أولئك الجهال ، وهذا وإن كان لفظه - على قراءة الغيبة - لمؤمني أهل الكتاب ، فسائر الخلق يدخلون فيه نظراً إلى العلّة .

أما على قراءة المخاطبة فهذا ابتداء خطاب لجميع المؤمنين - ونظيره قوله : { وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ } [ البقرة : 197 ] ، وقوله : { وَمَا تُنْفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ } [ البقرة : 272 ] ، وقوله : { وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُمْ مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ } [ المزمل : 20 ] ، ونقل عن أبي عمرو : أنه كان يقرأها بالقراءتين{[5814]} .

وسُمِّيَ منع الجزاء كفراً لوجهين :

الأول : أنه - تعالى - سَمَّى إيصال الجزاء شُكْراً ، فقال : { فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ } [ البقرة : 158 ] ، وسمى منعه كفراً .

الثاني : أن الكفر - في اللغة - : الستر . فسمي منع الجزاء كُفْراً ؛ لأنه بمنزلة الجَحْدِ والستر .

فإن قيل : " شكر " و " كفر " لا يتعديان إلا إلى واحد ، يقال : شكر النعمة ، وكفرها - فكيف تعدّى - هنا - لاثنين أولهما قام مقام الفاعل ، والثاني : الهاء في " يكفروه " ؟ .

فقيل : إنه ضُمِّن معنى فعل يتعدى لاثنين - كحرم ومنع ، فكأنه قيل : فلن يُحْرَموه ، ولن يُمْنَعُوا جزاءه .

ثم قال : { وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ } واسم " الله " يدل على عدم العجز ، والبخل ، والحاجة ؛ لأنه إله جميع المحدثات ، وقوله : " عَلِيمٌ " يدل على عدم الجَهْل ، وإذا انتفت هذه الصفاتُ ، امتنع المنع من الجزاء ؛ لأن منعَ الحق لا بد وأن يكون لأحد هذه الأمور .

وقوله : { بِالمُتَّقِينَ } - مع أنه عالم بالكلِّ - بشارة للمتقين بجزيل الثواب .


[5813]:انظر: السبعة 215، والكشف 1/354، والعنوان 80، والحجة 3/73، وحجة القراءات 170، 171، وإعراب القراءات 1/117، 118، وشرح شعلة 320، وشرح الطيبة 4/163، وإتحاف 1/486.
[5814]:انظر: السابق.