{ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ } وهذا شامل للصغائر والكبائر ، فإن الإيمان بالله والجهاد في سبيله ، مكفر للذنوب ، ولو كانت كبائر .
{ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ } أي : من تحت مساكنها [ وقصورها ] وغرفها وأشجارها ، أنهار من ماء غير آسن ، وأنهار من لبن لم يتغير طعمه ، وأنهار من خمر لذة للشاربين ، وأنهار من عسل مصفى ، ولهم فيها من كل الثمرات ، { وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ } أي : جمعت كل طيب ، من علو وارتفاع ، وحسن بناء وزخرفة ، حتى إن أهل الغرف من أهل عليين ، يتراءاهم أهل الجنة كما يتراءى الكوكب الدري في الأفق الشرقي أو الغربي ، وحتى إن بناء الجنة بعضه من لبن ذهب [ وبعضه من ] لبن فضة ، وخيامها من اللؤلؤ والمرجان ، وبعض المنازل من الزمرد والجواهر الملونة بأحسن الألوان ، حتى إنها من صفائها يرى ظاهرها من باطنها ، وباطنها من ظاهرها ، وفيها من الطيب والحسن ما لا يأتي عليه وصف الواصفين ، ولا خطر على قلب أحد من العالمين ، لا يمكن أن يدركوه حتى يروه ، ويتمتعوا بحسنه وتقر أعينهم به ، ففي تلك الحالة ، لولا أن الله خلق أهل الجنة ، وأنشأهم نشأة كاملة لا تقبل العدم ، لأوشك أن يموتوا من الفرح ، فسبحان من لا يحصي أحد من خلقه ثناء عليه ، بل هو كما أثنى على نفسه وفوق ما يثني عليه عباده{[1084]} وتبارك الجليل الجميل ، الذي أنشأ دار النعيم ، وجعل فيها من الجلال والجمال ما يبهر عقول الخلق ويأخذ بأفئدتهم .
وتعالى من له الحكمة التامة ، التي من جملتها ، أنه الله لو أرى الخلائق الجنة حين خلقها{[1085]} ونظروا إلى ما فيها من النعيم لما تخلف عنها أحد ، ولما هناهم العيش في هذه الدار المنغصة ، المشوب نعيمها بألمها ، وسرورها{[1086]} بترحها .
وسميت الجنة جنة عدن ، لأن أهلها مقيمون فيها ، لا يخرجون منها أبدا ، ولا يبغون عنها حولا ، ذلك الثواب الجزيل ، والأجر الجميل ، الفوز العظيم ، الذي لا فوز مثله ، فهذا الثواب الأخروي .
وقوله - سبحانه - : { يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ } مجزوم على أنه جواب لشرط مقدر ، أى : إن تمتثلوا أمره - تعالى - يغفر لكم ذنوبكم .
ويصح أن يكون مجزوما على أنه جواب للأمر المدلول عليه بلفظ الخبر فى قوله - تعالى - قبل ذلك { تُؤْمِنُونَ بالله وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ } . لأنهما - كما قلنا - وإن جاءا بلفظ الخبر ، إلا أنهما فى معنى الأمر ، أى : آمنوا وجاهدوا .
أي : آمنوا بالله - تعالى - إيمانا حقا ، وجاهدوا فى سبيل إعلاء كلمته بأموالكم وأنفسكم ، يغفر لكم - سبحانه - ذنوبكم ، بأن يزيلها عنكم ، ويسترها عليكم .
{ وَيُدْخِلْكُمْ } فضلا عن ذلك { جَنَّاتٍ } عاليات { تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار } أى : تجرى من تجت مساكنها وبساتيها الأنهار .
ويعطيكم { مَسَاكِنَ طَيِّبَةً } أى : قصورا مشتملة على كل ما هو طيب ونافع .
وخصت المساكن الطيبة بالذكر ، لأن المجاهدين قد فارقوا مساكنهم ، ومنهم من استشهد بعيدا عنها ، وفيها أهله وماله . . . فوعدهم - سبحانه - بما هو خير منها .
وقوله : { فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ } أى : هذه المساكن الطيبة كائنة فى جنات باقية خالدة ، لا تزول ولا تنتهى ، بل أصحابها يقيمون فيها إقامة دائمة ، يقال : عدن فلان بالمكان ، إذا أقام فيه إقامة مؤبدة .
{ ذَلِكَ الفوز العظيم } أي : ذلك الذى منحناكم إياه من مغفرة لذنوبكم ، ومن خلودكم فى الجنة . . . هو الفوز العظيم الذى لا يقاربه فوز ، ولا يدانيه ظفر .
( يغفر لكم ذنوبكم ) . . وهذه وحدها تكفي . فمن ذا الذي يضمن أن يغفر له ذنبه ثم يتطلع بعدها إلى شيء ? أو يدخر في سبيلها شيئا ? ولكن فضل الله ليست له حدود : ( ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار ومساكن طيبة في جنات عدن ) . . وإنها لأربح تجارة أن يجاهد المؤمن في حياته القصيرة - حتى حين يفقد هذه الحياة كلها - ثم يعوض عنها تلك الجنات وهذه المساكن في نعيم مقيم . . وحقا . . ( ذلك الفوز العظيم ) . .
وكأنما ينتهي هنا حساب التجارة الرابحة . وإنه لربح ضخم هائل أن يعطي المؤمن الدنيا ويأخذ الآخرة . فالذي يتجر بالدرهم فيكسب عشرة يغبطه كل من في السوق . فكيف بمن يتجر في أيام قليلة معدودة في هذه الأرض ، ومتاع محدود في هذه الحياة الدنيا ، فيكسب به خلودا لا يعلم له نهاية إلا ما شاء الله ، ومتاعا غير مقطوع ولا ممنوع ?
لقد تمت المبايعة على هذه الصفقة بين رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وعبدالله بن رواحة - رضي الله عنه - ليلة العقبة . قال لرسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] : " اشترط لربك ولنفسك ما شئت " . فقال[ صلى الله عليه وسلم ] : " أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا ، وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم " . . قال : فما لنا إذا فعلنا ذلك ? قال : " الجنة " قالوا : " ربح البيع ولا نقيل ولا نستقيل " !
ولكن فضل الله عظيم . وهو يعلم من تلك النفوس أنها تتعلق بشيء قريب في هذه الأرض ، يناسب تركيبها البشري المحدود . وهو يستجيب لها فيبشرها بما قدره في علمه المكنون من إظهار هذا الدين في الأرض ، وتحقيق منهجه وهيمنته على الحياة في ذلك الجيل
والمساكن الطيبة : هي القصور التي في الجنة ، قال تعالى : { ويجعل لك قصوراً } [ الفرقان : 10 ] .
وإنما خُصّت المساكن بالذكر هنا لأن في الجهاد مفارقة مساكنهم ، فوعدوا على تلك المفارقة الموقتة بمساكن أبدية . قال تعالى : { قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم } إلى قوله : { ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله } [ التوبة : 24 ] الآية .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.