و { هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ ْ } في النوم والراحة بسبب الظلمة ، التي تغشى وجه الأرض ، فلو استمر الضياء ، لما قروا ، ولما سكنوا .
{ و ْ } جعل الله { النَّهَارَ مُبْصِرًا ْ } أي : مضيئًا ، يبصر به الخلق ، فيتصرفون في معايشهم ، ومصالح دينهم ودنياهم .
{ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ ْ } عن الله ، سمع فهم ، وقبول ، واسترشاد ، لا سمع تعنت وعناد ، فإن في ذلك لآيات ، لقوم يسمعون ، يستدلون بها على أنه وحده المعبود وأنه الإله الحق ، وأن إلهية ما سواه باطلة ، وأنه الرءوف الرحيم العليم الحكيم .
ثم بين - سبحانه - جانباً من مظاهر نعمه على عباده فقال - تعالى - { هُوَ الذي جَعَلَ لَكُمُ الليل لِتَسْكُنُواْ فِيهِ والنهار مُبْصِراً . . . }
أى : الله وحده - سبحانه - هو الذي جعل لكم الليل مظلماً ، لكي تستقروا فيه بعد طول الحركة في نهاركم من أجل معاشكم ، وهو الذي جعل لكم النهار مضيئا لكي تبصروا فيه مطالب حياتكم .
والجملة الكريمة بيان لمظاهر رحمة الله - تعالى - بعباده ، بعد بيان سعة علمه ، ونفاذ قدرته ، وشمولها لكل شيء في هذا الكون .
وقوله : { إِنَّ في ذلك لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ } أى : إن في ذلك الجعل المذكور لدلائل واضحات لقوم يسمعون ما يتلى عليهم سماع تدبر وتعقل ، يدل على سعة رحمة الله - تعالى - بعباده ، وتفضله عليهم بالنعم التي لا تحصى .
ثم لفتة إلى بعض مجالي القدرة في المشاهد الكونية التي يغفل عنها الناس بالتكرار : ( هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصراً . إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون )
والمالك للحركة وللسكون ، الذي يجعل الليل ليسكن فيه الناس ، ويجعل النهار مبصراً يقود الناس فيتحركون ! ويبصرهم فيبصرون . . ممسك بمقاليد الحركة والسكون ، قادر على الناس ، قادر على حماية أوليائه من الناس . ورسوله - [ ص ] - في مقدمة أوليائه . ومن معه من المؤمنين . .
( إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون ) . .
والمنهج القرآني يستخدم المشاهد الكونية كثيراً في معرض الحديث عن قضية الألوهية والعبودية . ذلك أن هذا الكون بوجوده وبمشاهده شاهد ناطق للفطرة لا تملك لمنطقة رداً . كذلك يخاطب الناس بما في علاقتهم بهذا الكون من تناسق . وهم يجدون هذا في حياتهم فعلاً .
فهذا الليل الذي يسكنون فيه ، وهذا النهار الذي يبصرون به ، هما ظاهرتان كونيتان شديدتا الاتصال بحياتهم . وتناسق هذه الظواهر الكونية مع حياة الناس يحسونه هم - ولو لم يتعمقوا في البحث و " العلم " .
ذلك أن فطرتهم الداخلية تفهم عن هذا الكون لغته الخفية !
وهكذا لم يكن البشر في عماية عن لغة الكون حتى جاءتهم " العلوم الحديثة ! " لقد كانوا يفهمون هذه اللغة بكينونتهم كلها . ومن ثم خاطبهم بها العليم الخبير منذ تلك القرون . وهي لغة متجددة بتجدد المعرفة ، وكلما ارتقى الناس في المعرفة كانوا أقدر على فهمها ، متى تفتحت قلوبهم بالإيمان ونظرت بنور اللّه في هذه الآفاق !
والافتراء على اللّه بالشركاء يكون بنسبة ولد للّه - سبحانه - وقد كان مشركو العرب يزعمون أن الملائكة بنات اللّه .
لما نص عظمة الله تعالى في الآية المتقدمة عقب ذلك في هذه بالتنبيه على أفعاله لتبين العظمة المحكوم بها قبل ، وقوله { لتسكنوا } دال على أن النهار للحركة والتصرف ، وكذلك هو في الوجود ، وذلك أن حركة الليل متعذرة بفقد الضوء ، وقوله { والنهار مبصراً } مجاز لأن النهار لا يبصر ولكنه ظرف للإبصار ، وهذا موجود في كلام العرب إذ المقصود من ذلك مفهوم ، فمن ذلك قول ذي الرمة : [ الطويل ]
لقد لمتنا يا أم غيلان في السرى*** ونمت وما ليل المطي بنائم{[6161]}
وليس هذا من باب النسب كعيشة راضية ونحوها . وإنما ذلك مثل قول الشاعر : [ الكامل ]
أما النهار ففي قيد وسلسلة*** والليل في بيت منحوت من الساج{[6162]}
فجعل الليل والنهار بهاتين الحالتين وليس يريد إلا أنه هو فيهما كذلك ، وهذا البيت لمسجون كان يبيت في خشبة السجن ، وعلى أن هذا البيت قد ينشد «أما النهار » بالنصب ، وفي هذه الألفاظ إيجاز وإحالة على ذهن السامع لأن العبرة هي في أن الليل مظلم يسكن فيه والنهار مبصر يتصرف فيه ، فذكر طرف من هذا والطرف الآخر من الجهة الثانية ودل المذكوران على المتروكين ، وهذا كما في قوله تعالى : { ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع }{[6163]} . وقوله { يسمعون } يريد ويعون .
جملة معترضة بين جملة : { إن يتبعون إلا الظنّ } [ يونس : 66 ] وجملة : { قالوا اتخذ الله ولداً } [ يونس : 68 ] جاءت مجيء الاستدلال على فساد ظنهم وخَرْصهم بشواهد خلق الليل والنهار المشاهَدِ في كل يوم من العمر مرّتين وهم في غفلة عن دلالته ، وهو خلق نظام النهار والليل .
وكيف كان النهار وقتاً ينتشر فيه النور فيناسب المشاهدة لاحتياج الناس في حركات أعمالهم إلى إحساس البصر الذي به تتبين ذوات الأشياء وأحوالها لتناول ، الصالح منها في العمل ونبذ غير الصالح للعمل .
وكيف كان الليل وقتاً تغشاه الظلمة فكان مناسباً للسكون لاحتياج الناس فيه إلى الراحة من تعب الأعمال التي كدحوا لها في النهار . فكانت الظلمة باعثة الناس على الراحة ومحددة لهم إبانها بحيث يستوي في ذلك الفَطِن والغافل .
ولما قابل السكون في جانب الليل بالإبصار في جانب النهار ، والليل والنهار ضدّان دلّ ذلك على أنّ علة السكون عدم الإبصار ، وأنّ الإبصار يقتضي الحركة فكان في الكلام احتباك .
ووصف النهار بمبصر مجاز عقلي للمبالغة في حصول الإبصار فيه حتَّى جعل النَّهار هو المبصر . والمراد : مبصِراً فيه الناسُ .
ومن لطائف المناسبة أنّ النّور الذي هو كيفية زمن النَّهار ، شيء وجودي ، فكان زمانه حقيقاً بأن يوصف بأوصاف العقلاء ، بخلاف الليل فإن ظلمته عدمية فاقتصر في العبرة به على ذكر الفائدة الحاصلة فيه وهي أن يسكنوا فيه .
وفي قوله : { هو الذي جعل لكم الليل } طريق من طرق القصر وهو تعريف المسند والمسند إليه . وهو هنا قصر حقيقي وليس إضافياً كما توهَّمه بعض الكاتبين إذ جعله قصر تعيين ، وهم معترفون به لا يستطيعون دفع هذا الاستدلال ، فالمقصود الاستدلال على انفراده تعالى بخصائص الإلهية التي منها الخلق والتقدير ، وأن آلهتهم انتفت عنها خصائص الإلهية ، وقد حصل مع الاستدلال امتنان على الناس بجعل الليل والنهار على هذا النظام . وهذا الامتنان مستفاد من قوله : { جعل لكم } ومن تعليل خلق الليل بعلة سكون الناس فيه ، وخلق النهار بعلة إبصار الناس ، وكل الناس يعلمون ما في سكون الليل من نعمة وما في إبصارهم بالنهار من نعمة كذلك ، فإن في العمل بالنهار نعماً جمّة من تحصيل رغبات ، ومشاهدة محبوبات ، وتحصيل أموال وأقوات ، وأن في السكون باللّيل نعماً جمّة من استجمام القوى المنهوكة والإخلاد إلى محادثة الأهل والأولاد ، على أن في اختلاف الأحوال ، ما يدفع عن المرء الملال .
وفي إدماج الاستدلال بالامتنان تعريض بأن الذين جعلوا لله شركاء جمعوا وصمتين هما : وصمة مخالفة الحق ، ووصمة كفران النعمة .
وجملة : { إن في ذلك لآيات } مستأنفة . والآيات : الدلائل الدالة على وحدانية الله تعالى بالإلهية ، فإن النظام الذي نشأ عنه الليل والنهار مشتمل على دقائق كثيرة من العلم والحكمة والقدرة وإتقان الصنع .
فمن تلك الآيات : خلق الشمس ، وخلق الأرض ، وخلق النور في الشمس ، وخلق الظلمة في الأرض ، ووصول شعاع الشمس إلى الأرض ، ودوران الأرض كل يوم بحيث يكون نصف كرتها مواجهاً للشعاع ونصفها الآخر محجوباً عن الشعاع ، وخلق الإنسان ؛ وجَعْلِ نظام مزاجه العصبي متأثراً بالشعاع نشاطاً ، وبالظلمة فُتُوراً ، وخلق حاسة البصر ، وجعلها مقترنة بتأثر الضوء ؛ وجعل نظام العمل مرتبطاً بحاسة البصر ؛ وخلق نظام المزاج الإنساني مشتملاً على قوى قابلة للقوة والضعف ثم مدفوعاً إلى استعمال قواه بقصد وبغير قصد بسبب نشاطه العصبي ، ثم فاقداً بالعمل نصيباً من قواه محتاجاً إلى الاعتياض بقوى تخلفها بالسكون والفتور الذي يلجئه إلى تطلب الراحة . وأيَّة آيات أعظم من هذه ، وأية منة على الإنسان أعظم من إيداع الله فيه دواعي تسوقه إلى صلاحه وصلاح نوعه بداع من نفسه .
ووصف { قوم } بأنهم { يسمعون } إشارة إلى أن تلك الآيات والدلائل تنهض دلالتها للعقول بالتأمل فيها ، وأن توجه التفكير إلى دلائلها غير محتاج إلا إلى التنبيه عليها ولفته إليها ، فلما كان سماع تذكير الله بها هو الأصل الأصيل في استخراج دلالتها وتفريع مدلولاتها على تفاوت الأذهان في الفِطنة وترتيب الأدلة جعل آيات دلالتها حاصلة للذين يسمعون .
ويجوز أن يكون المراد يسمعون تفاصيل تلك الدلائل في تضاعيف سور القرآن ، وعلى كلا الاحتمالين فالوصف بالسمْع تعريض بأن الذين لم يهتدوا بها ولا تفطنوا لدلالتها بمنزلة الصم ، كقوله تعالى : { أفأنت تسمع الصم أو تهدي العميْ } [ الزخرف : 40 ]