تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{هُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلَّيۡلَ لِتَسۡكُنُواْ فِيهِ وَٱلنَّهَارَ مُبۡصِرًاۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَٰتٖ لِّقَوۡمٖ يَسۡمَعُونَ} (67)

وقوله تعالى : ( هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً ) يبصر فيه ، وقال في آية أخرى ( ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه )[ القصص : 73 ] يعني في النهار ، فهو في موضع الامتنان وتذكير النعم ؛ يستأدي بذلك شكر ما أنعم عليه .

وفيه أن الليل والنهار يجريان على التدبير والتقدير لأنهما لو كانا يجريا على غير تدبير ولا تقدير لكانا لا يجريان على تقدير واحد [ ولا سنن واحد ][ من م ، ساقطة من الأصل ] ولكان يدخل فيهما الزيادة والنقصان ، ولا يجريان على تقدير واحد ، وإن كان يدخل بعضه في بعض . فدل جريانها على تقدير واحد أنهما يجريان على تدبير آخر فيهما ، إذ لو كان على غير تدبير [ لكانا ][ ساقطة من الأصل وم ] يجريان على انحراف على الزيادة والنقصان على القلة والكثرة .

وفيه أيضا أن مدبرهما واحد لأنه لو كان مدبرهما عددا لكان إذا غلب أحدهما الآخر دامت غلبته ، ولا يصير الغالب مغلوبا والمغلوب غالبا . فإذا صار ذلك ما ذكرنا دل أن مدبرهما واحد لا عدد .

وفيه دلالة البعث بعد الموت لأن كل واحد منهما إذا جاء أتلف صاحبه تلفا حتى لا يبقى له أثر ، ولا شيء منه ، ثم يكون مثله حتى يختلف الذاهب من[ في م : و ] الحادث لا الأول من الثاني . فدل أن الذي قدر على إنشاء ليل قد ذهب أثره[ ساقطة من م ] وأصله قادر على البعث ، ومن قدر على إحداث نهار ، قد[ في م : وقد ] فني ، وهلك قادر على إحداث ما ذكرنا من الموت .

وفيه أن الشيء إذا كان وجوبه بشرطين[ في الأصل وم : بشيئين ] لم يجب إذ عدم أحدهما لأنه قال : ( والنهار مبصرا ) وإنما يبصر بنور البصر ونور النهار جميعا لأنه إذا فات أحد النورين لم يبصر شيء من النور نور البصر أو[ من م ، في الأصل : أي ] نور النهار . دل أن الحكم إذا وجب بشرطين لا يوجب إلا باجتماعهما جميعا : الليل يستر وجوه الأشياء لأن لا يرى نفسه ، والنهار يكشف وجوه الأشياء وفي الليل تستر وجوه الأشياء دلالة أن الحكم إذا كان وجوبه بشرطين يجوز صنعه بعلة واحدة لأنه يستر نور النهار ونور البصر جميعا .

وفي قوله : ( جَعَلَ لَكُمْ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً ) وجوه من الدلالة .

أحدها : ما ذكرنا من تذكير النعم ؛ يدعوهم به إلى شكره ، وينهاهم عن الكفران .

والثاني[ في الأصل وم : و ] : فيه تذكير القدرة له حين[ في الأصل وم : حيث ] أنشأ هذا ، وأحدثه ، وأتلف الآخر . فمن قدر على هذا لا يعجزه شيء .

الثالث[ في الأصل وم : و ] : فيه دليل السلطان حين[ في الأصل وم : حيث ] يأخذهم ، ويسير عليهم الأشياء شاؤوا ، أو أبوا . وكذلك النهار يأتيهم حتى يكشف وجوه الأشياء ، ويجلي ، شاؤوا ، أو أبوا .

والرابع[ في الأصل وم : و ] : فيه دليل التدبير والعلم لما ذكرنا من اتساق دريانهما على سنن واحد ومجرى واحد .

والخامس[ في الأصل وم : و ] : فيه دلالة وحدانية منشئهما ؛ بين ههنا في ما جعل الليل على حين[ في الأصل وم : حيث ] قال : ( لتسكنوا فيه ) أخبر أنه جعل الليل للسكون والراحة . فدل ذكر السكون في الليل على أنه جعل النهار للسعي وطلب العيش ألا ترى أنه قال في النهار ( مبصرا ) ؟ أي يبصرون فيه ما يعيشون ، وهو ما ذكر في آية أخرى : ( ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ) الآية[ القصص : 73 ] .

وقوله تعالى : ( إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ ) ولم يقل : يبصرون . فظاهر ما سبق من الذكر يجب أن يقال : لقوم يبصرون لأنه قال : ( والنهار مبصرا ) . لكن يحتمل قوله ( يسمعون ) أي يعقلون كقوله : ( ومنهم من يسمعون إليك أفأنت تسمع الصم ولو كنوا لا يعقلون )[ يونس : 42 ] ويحتمل قوله : ( يسمعون ) أي يجيبون كقوله [ صلى الله عليه وسلم ][ ساقطة من الأصل وم ] «سمع الله لمن حمده »[ البخاري690 ] أي أجاب الله .