قوله تعالى : { ولو نزلنا عليك كتاباً في قرطاس } الآية ، قال الكلبي ومقاتل : نزلت في النضر بن الحارث ، وعبد الله بن أبي أمية ، ونوفل بن خويلد ، قالوا : يا محمد ، لن نؤمن لك حتى تأتينا بكتاب من عند الله ومعه أربعة من الملائكة يشهدون عليه أنه من عند الله وأنك رسوله ، فأنزل الله عز وجل : { ولو نزلنا عليك كتاباً في قرطاس } مكتوباً من عنده .
قوله تعالى : { فلمسوه بأيديهم } ، أي : عاينوه ومسوه بأيديهم ، وذكر اللمس ولم يذكر المعاينة ، لأن اللمس أبلغ في إيقاع العلم من المعاينة ، فإن السحر يجري على المرئي ولا يجري على الملموس .
قوله تعالى : { لقال الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين } . معناه : أنه لا ينفع معهم شيء لما سبق فيهم من علمي .
{ 7 - 9 } { وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ * وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ *وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ }
هذا إخبار من الله لرسوله عن شدة عناد الكافرين ، وأنه ليس تكذيبهم لقصور فيما جئتهم به ، ولا لجهل منهم بذلك ، وإنما ذلك ظلم وبغي ، لا حيلة لكم فيه ، فقال : { وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ } وتيقنوه { لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا } ظلما وعلوا { إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ }
فأي بينة أعظم من هذه البينة ، وهذا قولهم الشنيع فيها ، حيث كابروا المحسوس الذي لا يمكن مَن له أدنى مسكة مِن عقل دفعه ؟ "
وساق جانبا من أقوالهم الباطلة ثم رد عليهم بما يدحضها فقال - تعالى - : { وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً . . . } .
الكتاب فى الأصل مصدر كالكتابة ، ويستعمل غالبا بمعنى المكتوب ، فيطلق على الصحيفة المكتوبة وعلى مجموعة الصحف .
والقرطاس - بكسر القاف وقد تفتح وتضم فى بعض اللغات - ما يكتب فيه سواء كان من رق أو من ورق أو من غيرهما : ولا يطلق على ما يكتب فيه قرطاس إلا إذا كان مكتوبا .
والمعنى : إن هؤلاء الجاحدين لا ينقصهم الدليل على صدقك يا محمد . ولكن الذى ينقصهم هو التفتح للحق ، والإنقياد للهداية ، فإننا لو نزلنا عليك كتابا من السماء فى قرطاس - كما اقترحوا - فشاهدوه بأعينهم وهو نازل عليك ولمسوه بأيديهم منذ وصوله إلى الأرض وباشروه بعد ذلك بجميع حواسهم بحيث يرتفع عنهم كل ارتياب ، ويزول كل إشكال . لو أننا فعلنا ذلك . استجابة لمقترحاتهم المتعنتة ، لقالوا بلغة العناد والجحود ما هذا الذى أبصرناه ولمسناه إلا سحر مبين .
فالآية الكريمة تصور مكابرتهم المتبجحة ، وعنادهم الصفيق ، وإدبارهم عن الحق مهما تكن قوة أدلته ، ونصاعة حجته .
قال الإمام الرازى " بين الله - تعالى - فى هذه الآية أن هؤلاء الكفار لو أنهم شاهدوا نزول كتاب من السماء دفعة واحدة عليك يا محمد لم يؤمنوا به بل حملوه على أنه سحر . والمراد من قوله { فِي قِرْطَاسٍ } أنه لو نزل الكتاب جملة واحدة فى صحيفة واحدة فرأوه ولمسوه وشاهدوه عيانا لطعنوا فيه وقالوا إنه سحر " .
و { لَوْ } فى الآية الكريمة حرف امتناع ، أى : أنه - سبحانه - قد امتنع عن إجابة مقترحاتهم لأنه يعلم أن إجابتها لا ثمرة لها ، ولا فائدة من ورائها ، لأن هؤلاء الجاحدين لا ينقصهم الدليل على صدق النبى صلى الله عليه وسلم فى دعوته ، وإنما الذى ينقصهم هو الاستجابة للحق والاتجاه السليم لطلبه ، والاستماع إليه بعناية وتفكير .
وعبر - سبحانه - بقوله : { فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ } . مع أن اللمس هو باليد غالبا - للتأكيد وزيادى التعيين ، ودفع احتمال المجاز . فالجملة الكريمة المقصود بها تصوير فرط جحودهم ومكابرتهم ، وإعراضهم عن الحق مهما تكن قوة الدليل وحسيته .
وفى قوله - تعالى - { لَقَالَ الذين كَفَرُواْ } إشارة إلى أن الكافرين وحدهم هم الذين بسبب كفرهم - ينتحلون الأعذار لضلالهم ، ويصفون الحق الواضح بأنه سحر مبين . أما المؤمنون فإنهم يقابلون الحق بالتصديق والإذعان .
وقد حكى القرآن عنهم أنهم قالوا : { إِنْ هاذآ إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ } ، فأكدوا حكمهم الباطل بطريق النفى والإثبات - أى : أنه مقصور على أنه سحر - وبالإشارة إليه ، وبأنه بين واضح فى كونه سحراً ، وذلك يدل على أن تبجحهم قد بلغ النهاية ، وأن مكابرتهم قد كذبت ما شهدت بصدقه حواسهم ، وإن قوماً بهذه الدرجة من العناد لا تجدى فيهم معجزة ، ولا ينفع معهم دليل .
وفى معنى هذه الآية قد وردت آيات أخرى فى القرآن الكريم منها قوله - تعالى - { وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَآ إِلَيْهِمُ الملائكة وَكَلَّمَهُمُ الموتى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَّا كَانُواْ ليؤمنوا إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله ولكن أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ } ومنها قوله - تعالى - { وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَاباً مِّنَ السماء فَظَلُّواْ فِيهِ يَعْرُجُونَ لَقَالُواْ إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ }
ثم يمضي السياق يصور طبيعة العناد ، التي ينبعث منها ذلك الإعراض ؛ فيرسم نموذجا عجيبا من النفوس البشرية . . ولكنه نموذج مع ذلك مكرور ، يجده الإنسان في كل عصر وفي كل بيئة وفي كل جيل . . نموذج النفس المكابرة ، التي يخرق الحق عينها ولا تراه ! والتي تنكر ما لا ينكر لأنه من الوضوح بحيث يخجل المخالف أن ينكره ! على الأقل من باب الحياء ! . . والقرآن يرسم هذا النموذج شاخصا في كلمات قلائل ، على طريقة التعبير القرآني المبدعة المعجزة في التعبير والتصوير :
( ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس فلمسوه بأيديهم ، لقال الذين كفروا : إن هذا إلا سحر مبين ) . .
إنه ليس الذي يجعلهم يعرضون عن أيات الله ، أن البرهان على صدقها ضعيف ، أو غامض ، أو تختلف فيه العقول . إنما الذي يجعلهم يقفون هذا الموقف هو المكابرة الغليظة والعناد الصفيق ! وهو الإصرار مبدئيا على الرفض والإنكار وعدم اعتبار البرهان أو النظر إليه أصلا ! ولو أن الله - سبحانه - نزل على رسول الله [ ص ] هذا القرآن ، لا عن طريق الوحي الذي لا يرونه ؛ ولكن في ورقة منظورة ملموسة محسوسة ؛ ثم لمسوا هم هذه الورقة بأيديهم - لا سماعا عن غيرهم ، ولا مجرد رؤية بعيونهم - ما سلموا بهذا الذي يرونه ويلمسونه ، ولقالوا جازمين مؤكدين :
وهي صورة صفيقة ، منكرة ، تثير الاشمئزاز ، وتستعدي من يراها عليها ! صورة تثير النفس لتتقدم فتصفعها ! حيث لا مجال مع هذه الجبلات لحجة أو جدل أو دليل !
وتصويرها على هذا النحو - وهي صورة تمثل حقيقة لنماذج مكرورة - يؤدي غرضين أو عدة أغراض :
إنه يجسم للمعارضين أنفسهم حقيقة موقفهم الشائن الكريه البغيض ؛ كالذي يرفع المرآة لصاحب الوجه الشائه والسحنة المنكرة ، ، ليرى نفسه في هذه المرآة ، ويخجل منها !
وهو في الوقت ذاته يستجيش ضمائر المؤمنين تجاه إعراض المشركين وإنكار المنكرين ؛ ويثبت قلوبهم على الحق ، فلا تتأثر بالجو المحيط من التكذيب والإنكار والفتنة والإيذاء .
كذلك هو يوحي بحلم الله الذي لا يعجل على هؤلاء المعارضين المكذبين ، وهم في مثل هذا العناد المنكر الصفيق .
وكلها أسلحة وحركة في المعركة التي كانت تخوضها الجماعة المسلمة بهذا القرآن في مواجهة المشركين .
يقول تعالى مخبراً عن كفر المشركين وعنادهم ومكابرتهم للحق ومباهتتهم ومنازعتهم فيه : { وَلَوْ نزلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ } أي : عاينوه ، ورأوا نزوله ، وباشروا ذلك { لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ مُبِينٌ } وهذا كما قال تعالى مخبرًا عن مكابرتهم للمحسوسات : { وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ } [ الحجر : 14 ، 15 ] وقال تعالى : { وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ } [ الطور : 44 ] .
يجوز أن تكون الواو عاطفة والمعطوف عليه جملة { وما تأتيهم من آية من آيات ربّهم } الخ ، وما بينهما جملاً تعلّقت بالجملة الأولى على طريقة الاعتراض ، فلمّا ذكر الآيات في الجملة الأولى على وجه العموم ذكر هنا فرض آية تكون أوضحَ الآيات دلالة على صدق محمد صلى الله عليه وسلم وهي أن ينزّل الله عليه كتاباً من السماء على صورة الكتب المتعارفة ، فرأوه بأبصارهم ولمسوه بأيديهم لمَّا آمنوا ولادّعوا أنّ ذلك الكتاب سحر .
ويجوز أن تكون الواو للحال من ضمير { كذّبوا } في قوله : { فقد كذّبوا بالحقّ لمّا جاءهم } أي أنكروا كون القرآن من عند الله ، وكونه آية على صدق الرسول ، وزعموا أنّه لو كان من عند الله لنزل في صورة كتاب من السماء ، فإنّهم قالوا : { لولا نزّل عليه القرآن جملة واحدة } وقالوا { حتى تنزّل علينا كتاباً نقرؤه } فكان قوله : { فقد كذّبوا بالحقّ لما جاءهم } مشتملاً بالإجمال على أقوالهم فصحّ مجيء الحال منه . وما بينهما اعتراض أيضاً .
وعلى الوجه الأول فالكتاب الشيء المكتوب سواء كان سفراً أم رسالة ، وعلى الثاني فالمراد بكتابٍ سفرٌ أي مثل التوراة .
والخطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم لا محالة لأنّ كلّ كلام ينزل من القرآن موجّه إليه لأنّه المبلّغ ، فانتقال الخطاب إليه بعد الحديث عن ذوي ضمائر أخرى لا يحتاج إلى مناسبة في الانتقال . وليس يلزم أن يكون المراد كتاباً فيه تصديقه بل أعمّ من ذلك .
وقوله : { في قرطاس } صفة لكتاب ، والظرفية مجازية من ظرفية اسم الشيء في اسم جزئه . والقرطاس بكسر القاف على الفصيح ، ونقل ضمّ القاف وهو ضعيف . وهو اسم للصحيفة التي يكتب فيها ويكون من رَقّ ومن بَرْدى ومن كاغد ، ولا يختصّ بما كان من كاغد بل يسمّى قرطاساً ما كان من رقّ . ومن النّاس من زعم أنّه لا يقال قرطاس إلاّ لما كان مكتوباً وإلاّ سمّي طَرساً ، ولم يصحّ . وسمّى العرب الأديم الذي يجعل غرضاً لمتعلّم الرمي قرطاساً فقالوا : سَدّد القرطاس ، أي سدّد رميه . قال الجواليقي : القرطاس تكلّموا به قديماً ويقال : إنّ أصله غير عربي . ولم يذكر ذلك الراغب ولا لسان العرب ولا القاموس ، وأثبته الخفاجي في شفاء الغليل . وقال : كان معرّباً فلعلّه معرّب عن الرومية ، ولذلك كان اسم الورقة في لغة بعضهم اليوم ( كارتا ) .
وقوله : { فَلَمسوه } عطف على { نزّلنا } . واللمس وضع اليد على الشيء لمعرفة وجوده ، أو لمعرفة وصف ظاهره من لين أو خشونة ، ومن برودة أو حرارة ، أو نحو ذلك . فقوله : { بأيديهم } تأكيد لمعنى اللمس لرفع احتمال أن يكون مجازاً في التأمّل ، كما في قوله تعالى : { وإنّا لمسنا السماء فوجدناها مُلئَت حرساً شديداً وشهباً } ، وللإفصاح عن منتهى ما اعتيد من مكابرتهم ووقاحتهم في الإنكار والتكذيب ، وللتمهيد لقوله : { لقال الذين كفروا إن هذا إلاّ سحر مبين } لأنّ المظاهر السحرية تخيّلات لا تلمس .
وجاء قوله : { الذين كفروا } دون أن يقول : لقالوا ، كما قال : { فلمسوه } إظهاراً في مقام الإضمار لقصد تسجيل أنّ دافعهم إلى هذا التعنّت هو الكفر ، لأنّ الموصول يؤذن بالتعليل .
ومعنى : { إن هذا إلاّ سحر مبين } أنّهم يغالطون أنفسهم ويغالطون قومهم لستر مكابرتهم ولدفع ما ظهر من الغلبة عليهم . وهذا شأن المغلوب المحجوج أن يتعلّق بالمعاذير الكاذبة .
والمبين : البيّن الواضح ، مشتقّ من ( أبان ) مرادف ( بان ) . وتقدّم معنى السحر عند قوله تعالى : { يعلّمون الناس السحر } في سورة البقرة ( 102 ) .