وقوله : { يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا ْ } أي : يهدون الناس بديننا ، لا يأمرون بأهواء أنفسهم ، بل بأمر الله ودينه ، واتباع مرضاته ، ولا يكون العبد إماما حتى يدعو إلى أمر الله .
{ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ ْ } يفعلونها ويدعون الناس إليها ، وهذا شامل لجميع الخيرات كلها ، من حقوق الله ، وحقوق العباد .
{ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ ْ } هذا من باب عطف الخاص على العام ، لشرف هاتين العبادتين وفضلهما ، ولأن من كملهما كما أمر ، كان قائما بدينه ، ومن ضيعهما ، كان لما سواهما أضيع ، ولأن الصلاة أفضل الأعمال ، التي فيها حقه ، والزكاة أفضل الأعمال ، التي فيها الإحسان لخلقه .
{ وَكَانُوا لَنَا ْ } أي : لا لغيرنا { عَابِدِينَ ْ } أي : مديمين على العبادات القلبية والقولية والبدنية في أكثر أوقاتهم ، فاستحقوا أن تكون العبادة وصفهم ، فاتصفوا بما أمر الله به الخلق ، وخلقهم لأجله .
{ وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا } أى : وجعلنا هؤلاء المذكورين ، أئمة فى الخير ، يهدون ويرشدون غيرهم إلى الدين الحق بسبب أمرنا لهم بذلك ، وتكليفهم بتبليغ وحينا إلى الناس .
قال صاحب الكشاف : قوله - سبحانه - : { يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا } فيه أن من صلح ليكون قدوة فى دين الله ، فالهداية محتومة عليه ، مأمور بها من جهة الله ليس له أن يخل بها ، ويتثاقل عنها ، وأول ذلك أن يهتدى بنفسه ، لأن الانتفاع بهداه أعم ، والنفوس إلى الاقتداء بالمهدى أميل " .
وقوله : { وَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِمْ فِعْلَ الخيرات } أى : وأوحينا إليهم أن يفعلوا الطاعات ، وأن يأمروا الناس بفعلها ، وأوحينا إليهم كذلك { وَإِقَامَ الصلاة وَإِيتَآءَ الزكاة } أى : أن يقيموا الصلاة وأن يؤدوا الزكاة وأن يأمروا غيرهم بذلك .
وعطف إقام الصلاة وإيتاء الزكاة على فعل الخيرات من باب عطف الخاص على العام . للاهتمام به إذ الصلاة أفضل العبادات البدنية والزكاة أفضل العبادات المالية { وَكَانُواْ لَنَا عَابِدِينَ } لا لغيرنا ، فهم لم يخطر ببالهم عبادة أحد سوانا ، لأنهم من المصطفين الأخيار .
هذا ، والمتأمل فى هذه الآيات الكريمة التى وردت فى قصة إبراهيم مع قومه . يراها قد حكت لنا غيرة إبراهيم - عليه السلام - على دين الله - تعالى - وقوة حجته فى الدفاع عن الحق ، ومجاهدته بما يعتقده بدون خوف من قومه ، وجمعه فى دعوته بين القول والعمل .
كما يراها قد بينت لنا أن من يدافع عن دين الله - تعالى - يدافع الله - سبحانه - عنه ، وينصره على أعدائه ، ويرد كيدهم فى نحورهم .
كما يراها - أيضا - قد أشارت إلى أن من هاجر من أرض إلى أخرى من أجل إعلاء كلمة الله - تعالى - رزقه الله نظير ذلك الخير والبركة ، والذرية الصالحة التى تهدى غيرها إلى الطريق المستقيم .
و { يهدون } معناه يرشدون غيرهم و «الإقام » مصدر وفي هذا نظر{[4]} .
إعادة فعل « جعل » في قوله تعالى : { وجعلناهم أيمة يهدون بأمرنا } دون أن يقال : وأيمةً يهْدُون ، بعطف { أيمة } على { صالحين ، } اهتماماً بهذا الجعل الشريف ، وهو جعلهم هادين للناس بعد أن جعلهم صالحين في أنفسهم فأعيد الفعل ليكون له مزيد استقرار .
ولأن في إعادة الفعل إعادة ذكر المفعول الأول فكانت إعادته وسيلة إلى إعادة ذكر المفعول الأول .
وفي تلك الإعادة من الاعتناء ما في الإظهار في مقام الإضمار كما يظهر بالذوق .
والأيمة : جمع إمام وهو القدوة والذي يُعمل كعمله . وأصل الإمام المثال الذي يصنع الشيء على صورته في الخير أو في الشر .
وجملة { يهدون } في موضع الحال مقيدة لمعنى الإمامة ، أي أنهم أيمة هُدى وإرشاد .
وقوله { بأمرنا } أي كانوا هادين بأمر الله ، وهو الوحي زيادة على الجعل . وفي « الكشاف » : « فيه أن من صلح ليكون قدوة في دين الله فالهداية محتومة عليه مأمور هُو بها ليس له أن يخل بها ويتثاقل عنها .
وأول ذلك أن يهتدي بنفسه لأن الانتفاع بهداه أعم والنفوس إلى الاهتداء بالمهدي أميلُ » اه .
وهذا الهدي هو تزكية نفوس الناس وإصلاحها وبث الإيمان ويشمل هذا شؤون الإيمان وشُعبه وآدابه .
وأما قوله تعالى : { وأوحينا إليهم فعل الخيرات } فذلك إقامة شرائع الدين بين الناس من العبادات والمعاملات . وقد شملها قوله تعالى { فعل الخيرات } .
و { فعل الخيرات } مصدر مضاف إلى { الخيرات } ، ويتعين أنه مضاف إلى مفعوله لأن الخيرات مفعولة وليست فاعلة فالمصدر هنا بمنزلة الفعل المبني للمجهول لأن المقصود هو مفعوله ، وأما الفاعل فتبع له ، أي أن يفعلوا هُم ويفعَلَ قومهم الخيرات ، حتى تكون الخيرات مفعولة للناس كلهم ، فحذف الفاعل للتعميم مع الاختصار لاقتضاء المفعول إياه .
واعتبارُ المصدر مصدراً لفعل مبني للنائب جائزٌ إذا قامت القرينة . وهذا ما يؤذن به صنيع الزمخشري . على أن الأخفش أجازه بدون شرط .
ويجوز أن يكون { فعل الخيرات } هو الموحى به ، أي وأوحينا إليهم هذا الكلام ، فيكون المصدر قائماً مقام الفعل مراداً به الطلب ، والتقدير : افعلوا الخيرات ، كقوله تعالى : { فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب } [ محمد : 4 ] .
وتخصيص { إقام الصلاة وإيتاء الزكاة } بالذكر بعد شمول الخيرات إياهما تنويه بشأنهما لأن بالصلاة صلاح النفس إذ الصلاة تنهَى عن الفحشاء والمنكر ، وبالزكاة صلاحَ المجتمع لكفاية عوز المعوزين .
وهذا إشارة إلى أصل الحنيفية التي أرسل بها إبراهيم عليه السلام .
ومعنى الوحي بفعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة أنه أوحي إليهم الأمر بذلك كما هو بيّن .
ثم خصّهم بذكر ما كانوا متميزين به على بقية الناس من ملازمة العبادة لله تعالى كما دلّ عليه فعل الكَون المفيد تمكُّن الوصف ، ودلت عليه الإشارة بتقديم المجرور إلى أنهم أفردوا الله بالعبادة فلم يعبدوا غيره قط كما تقتضيه رتبة النبوءة من العصمة عن عبادة غير الله من وقت التكليف كما قال يوسف : { ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء } [ يوسف : 38 ] وقال تعالى في الثناء على إبراهيم : { وما كان من المشركين } [ البقرة : 135 ] .