اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَجَعَلۡنَٰهُمۡ أَئِمَّةٗ يَهۡدُونَ بِأَمۡرِنَا وَأَوۡحَيۡنَآ إِلَيۡهِمۡ فِعۡلَ ٱلۡخَيۡرَٰتِ وَإِقَامَ ٱلصَّلَوٰةِ وَإِيتَآءَ ٱلزَّكَوٰةِۖ وَكَانُواْ لَنَا عَٰبِدِينَ} (73)

وقوله :{ وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً } كما تقدم{[28993]} إلا أنه لم يتوسط العامل .

وقوله : { يَهْدُونَ } صفة ل «أئمةً » و «بأَمْرِنَا » متعلق ب «يَهْدُونَ » وقد تقدم التصريف المتعلق بلفظ «أَئِمَّة » وقراءة القراء فيها{[28994]} .

فصل

المعنى : «وَكُلاً » من إبراهيم وإسحاق ويعقوب «جَعَلْنَا صَالِحِينَ » .

قال الضحاك : أي : مرسلين{[28995]} ، وقال آخرون : عاملين{[28996]} بطاعة الله{[28997]} . { وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً } يقتدى بهم في الخير «يَهْدُونَ » يدعون الناس إلى ديننا { بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِمْ فِعْلَ الخيرات } أي : العمل بالشرائع . وقال أبو مسلم : المراد النبوة{[28998]} . { وَإِقَام الصَّلاَةِ } أي : وإقامة الصلاة ، يعني المحافظة . { وَإِيتَآءَ الزكاة وَكَانُواْ لَنَا عَابِدِينَ } موحدين . دلَّت{[28999]} هذه الآية على أنَّ أفعال العباد مخلوقة لله تعالى ، لأنَّ قوله تعالى : { وَكُلاًّ جَعَلْنَا صَالِحِينَ } يدل على أنّ الصلاح من قبله .

وأجاب الجبائي : بأنه لو كان كذلك لما وصفهم بكونهم «صَالِحِيْنَ » وبكونهم «أَئِمَّةٌ » وبكونهم «عَابِدَيْنَ » ، ولما مدحهم بذلك ، وإذا كان كذلك فلا بُدَّ من التأويل وهو من وجهين :

الأول : أنْ يكونَ المراد أنه تعالى أتاهم من لطفه وتوفيقه ما صلحوا به .

والثاني : أنَّ المراد تسميتهم بذلك كما يقال : زيد فسق فلاناً وكفره ، إذا وصفه بذلك وكان مصدقاً عند الناس ، وكما يقال في الحاكم زكى فلاناً ، وعدله ، وجرحه ، إذا حكم بذلك . والجواب : المعارضة بمسألة العلم والداعي{[29000]} ، وأما الحمل على اللطف فباطل ، لأنَّ فعل الإلطاف عام في المكلفين ، فلا بُدَّ في هذا التخصيص من مزيد فائدة ، ولأنّ قوله : جعلته صالحاً كقولك : جعلته متحركاً ، فحمله على تحصيل شيء سوى الصلاح ترك للظاهر . وأما الحمل على التسمية فمحال ، لأنّ ذلك إنما يصار إليه إلا عند الضرورة في بعض المواضع ، ولا ضرورة ههنا إلا أن يرجعوا مرة أخرى إلى فصل المدح والذم وحينئذ نرجع إلى مسألتي الداعي والعلم{[29001]} .

قوله : { فِعْلَ الخَيْرَاتِ } قال الزمخشري : أصله أنْ تفعل الخيرات ، ثم فعلا الخيرات ، ( ثم فعل الخيرات ) {[29002]} وكذلك { إِقَامَ الصلاة وَإِيتَآءَ الزكاة }{[29003]} .

قال أبو حيَّان : كأنَّ الزمخشري لما رأى أنَّ فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ليس من الأحكام المختصة بالموحي إليهم ، بل هم وغيرهم في ذلك مشتركون بنى الفعل للمفعول حتى لا يكون المصدر مضافاً من حيث المعنى إلى ضمير الموحى إليهم ، فلا يكون فعلهم الخيرات وإقامتهم الصلاة وإيتاؤهم الزكاة ، ولا يلزم ذلك إذ الفاعل مع المصدر محذوف{[29004]} . ويجوز أنْ يكونَ من حيث المعنى مضافاً إلى ظاهر محذوف يشمل الموحى إليهم وغيرهم ، والتقدير : فعل المكلفين{[29005]} الخيرات . ويجوز أن يكون مضافاً إلى ضمير الموحى إليهم أي : أن يفعلوا الخيرات ويقيموا الصلاة ويؤتوا{[29006]} الزكاة ، وإذا كانوا هم{[29007]} قد أوحى إليهم ذلك فأتباعهم جارون مجراهم في ذلك ، ولا يلزم اختصاصهم به . ثم اعتقاد بناء المصدر للمفعول مختلف فيه أجاز ذلك الأخفش ، والصحيح منعه{[29008]} ، فليس ما اختاره الزمخشري بمختار{[29009]} . قال شهاب الدين : الذي يظهر أنّ الزمخشري لم يقدر هذا التقدير الذي ذكره الشيخ حتى يلزمه ما قاله بل إنما قدّر ذلك ، لأن نفس الفعل الذي هو معنى صادر من فاعله لا يوحى إنما يوحى ألفاط تدل عليه فكأنه قيل : وأوحينا هذا اللفظ وهو أن نفعل الخيرات ، ثم صاغ ذلك الحرف المصدري مع ما بعده منوناً ناصباً لما بعده ، ثم جعله مصدراً مضافاً لمفعوله{[29010]} .

وقال ابن عطية : والإقام مصدر وفي هذا نظر{[29011]} انتهى ، يعني ابن عطية بالنظر أن مصدر ( أفعل ) على ( الإفعال ) ، فإنْ كان صحيح العين جاء{[29012]} تاماً كالإكرام ، وإنْ كان معتلها حذف منه إحدى الألفين ، وعوض منه تاء التأنيث{[29013]} فيقال : إقامة ، فلما{[29014]} نقل كذلك جاء فيه النظر المذكور .

قال أبو حيان : وأي نظر في هذا ، وقد نص سيبويه على أنه مصدر بمعنى الإقامة{[29015]} وإن كان الأكثر الإقامة بالتاء ، وهو المقيس في مصدر ( أفعل ) إذا اعتلت عينه ، وحسن ذلك أنه قابل : { وَإِيتَاءَ الزَّكاة } وهو بغير تاء فتقع الموازنة بين قوله { وَإِقَامَ الصلاة وَإِيتَآءَ الزكاة } . وقال الزجاج : حذف التاء من إقامة ، لأنَّ الإضافة عوض عنها{[29016]} . وهذا قول الفراء زعم أنَّ التاء تحذف للإضافة كالتنوين{[29017]} {[29018]} .

وقد تقدم بسط القول في ذلك عند قراءة من قرأ في براءة " عُدّة ولكن كَرِه " {[29019]} .


[28993]:من أن "هم" مفعول أول لـ "جعلنا" و "أئمة" مفعول ثان.
[28994]:عند قوله تعالى: {وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون} [التوبة: 12].
[28995]:انظر الفخر الرازي 22/191.
[28996]:في الأصل: عامرين. وهو تحريف، وفي ب: عاملون.
[28997]:انظر الفخر الرازي 22/191.
[28998]:المرجع السابق.
[28999]:من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي 22/191.
[29000]:والداعي: سقط من ب.
[29001]:آخر ما نقله هنا عن الفخر الرازي 22/191.
[29002]:ما بين القوسين سقط من ب.
[29003]:الكشاف 3/16-17.
[29004]:ذلك أن الفاعل يحذف مع المصدر المنون، وأوجبه الفراء فقال: لا يجوز ذكر الفاعل مع المصدر المنون البتة لأنه لم يسمع. الهمع 2/94.
[29005]:في ب: المكلف.
[29006]:في ب: ويؤتون. وهو تحريف.
[29007]:هم: سقط من ب.
[29008]:وذلك أن في رفع المصدر النائب عن الفاعل خلافا، ومذهب البصريين جوازه وقال الأخفش لا يجوز ذلك بل يتعين النصب أو الرفع على الفاعلية، واختاره الشلوبين، ووجه المنع في ذلك ما فيه من الإلباس؛ لأنك إذا قلت مثلا: عجبت من ضرب عمرو. تبادر إلى الذهن المبني للفاعل. وقال أبو حيان يجوز إذا كان فعله ملازما للبناء للمجهول كَزكُمِ َلعدم الإلباس حينئذ فيجوز أعجبني زكام زيد. وزاد الدماميني عن ابن خروف وهو الجواز إذا لم يقع لبس نحو أعجبني قراءة في الحمام القرآن، وأكل الخبر وشرب الماء. انظر الهمع 2/94، شرح الأشموني وحاشية الصبان 2/283.
[29009]:البحر المحيط 6/329.
[29010]:الدر المصون: 5/54.
[29011]:تفسير ابن عطية 10/173.
[29012]:جاء: سقط من ب.
[29013]:اختلف في المحذوف أهو ألف المصدر أم الألف المبدلة من العين؟ فالخليل وسيبويه يذهبان إلى أن المحذوف الألف المبدلة من العين وهو القياس. انظر شرح المفصل 6/58.
[29014]:في ب: فلما لم.
[29015]:قال سيبويه: هذا باب ما لحقته هاء التأنيث عوضا لما ذهب، وذلك قولك: أقمته إقامة، واستعنته استعانة، وأريته إراءة، وإن شئت لم تعوض وتركت الحروف على الأصل، قال الله عز وجل: {لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة} [النور: 37] الكتاب 4/83.
[29016]:قال الزجاج: (إقام مفرد (بدون تاء) قليل في اللغة، تقول: أقمت إقامة، فـأما إقام الصلاة فجائز، لأن الإضافة عوض من الهاء) معاني القرآن وإعرابه 3/398.
[29017]:قال الفراء: (فإن المصدر من ذوات الثلاثة إذا قلت: أفعلت كقيلك أقمت وأجرت وأجبت يقال فيه كله: إقامة وإجارة وإجابة لا يسقط منه الهاء. وإنما أدخلت لأن الحرف قد سقطت منه العين، كان ينبغي أن يقال: أقمته إقواما وإجوابا فلما سكنت الواو وبعدها ألف الإفعال فسكنتا سقطت الأولى منهما، فجعلوا فيه الهاء كأنها تكثير للحرف، ومثله مما أسقط منه بعضه فجعلت فيه الهاء قولهم: وعدته عدة ووجدت في المال جدة، وزنة ودية، ما أشبه ذلك، لما أسقطت الواو من أوله كثِّر من آخره بالهاء، وإنما استجيز سقوط الهاء من قوله: "وإقام الصلاة" لإضافتهم إياه، وقالوا: الخافض وما خفض بمنزلة الحرف الواحد) معاني القرآن 2/254.
[29018]:البحر المحيط 6/329.
[29019]:من قوله تعالى: {ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة ولكن كره الله انبعاثهم فثبّطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين} [التوبة: 46]. قرأ معاوية بن أبي سفيان "لأعدوا له عدده" هاء كناية وزر بن حبيش "لأعدوا له عدة" بكسر العين كناية أيضا. وعنه أيضا "عدة" انظر المختصر (53) وانظر اللباب 4/217-218.