الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع  
{وَجَعَلۡنَٰهُمۡ أَئِمَّةٗ يَهۡدُونَ بِأَمۡرِنَا وَأَوۡحَيۡنَآ إِلَيۡهِمۡ فِعۡلَ ٱلۡخَيۡرَٰتِ وَإِقَامَ ٱلصَّلَوٰةِ وَإِيتَآءَ ٱلزَّكَوٰةِۖ وَكَانُواْ لَنَا عَٰبِدِينَ} (73)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

{وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا} يقول: جعلناهم قادة للخير يدعون الناس إلى أمر الله عز وجل، {وأوحينا إليهم فعل الخيرات} يعني: الأعمال الصالحة، {وإقام الصلاة} {وإيتاء الزكاة وكانوا لنا عابدين}...

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

وقوله:"وَجَعَلْناهُمْ أئمّةً يَهْدُونَ بأمْرِنا" يقول تعالى ذكره: وجعلنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب أئمة يؤتمّ بهم في الخير في طاعة الله في اتباع أمره ونهيه، ويُقْتَدَى بهم، ويُتّبَعون عليه...

وقوله: "وأوْحَيْنا إلَيْهِمْ فِعْلَ الخَيْرَاتِ "يقول تعالى ذكره: وأوحينا فيما أوحينا أن افعلوا الخيرات، وأقيموا الصلاة بأمرنا بذلك.

"وكانُوا لَنا عابِدِينَ" يقول: كانوا لنا خاشعين، لا يستكبرون عن طاعتنا وعبادتنا.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

{يهدون} أي يدعون الناس بأمرنا كقوله: {ولكل قوم هاد} [الرعد: 7] أي داع. وجائز أن يكون قوله: {يهدون بأمرنا} أي يهدون الناس إلى ما به أمر الله وإلى دينه.

{وأوحينا إليهم فعل الخيرات} دل قوله: {وأوحينا إليهم} أنهم كانوا رسلا. ثم يحتمل قوله: {فعل الخيرات}: فعل العبادات.

{و إقام الصلاة وإيتاء الزكاة} فيه أن الصلاة والزكاة كانتا في شرائع المتقدمين.

لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :

الإمامُ مُقَدَّمُ القوم، واستحقاقُ رتبةِ الإمامة باستجماع الخصال المحمودة التي في الأمة فيه، فَمَنْ لم تتجَمعْ فيه مُتَفَرِّقاتُ الخِصالِ المحمودةِ لم يستحق منزلةَ الإمامة.

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

{يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا} فيه أن من صلح ليكون قدوة في دين الله فالهداية محتومة عليه مأمور هو بها من جهة الله، ليس له أن يخل بها ويتثاقل عنها، وأول ذلك أن يهتدي بنفسه؛ لأن الانتفاع بهداه أعم، والنفوس إلى الاقتداء بالمهدي أميل.

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

قال أبو القاسم الأنصاري: الصلاة أشرف العبادات البدنية وشرعت لذكر الله تعالى، والزكاة أشرف العبادات المالية ومجموعهما التعظيم لأمر الله تعالى والشفقة على خلق الله، واعلم أنه سبحانه وصفهم أولا بالصلاح لأنه أول مراتب السائرين إلى الله تعالى ثم ترقى فوصفهم بالإمامة، ثم ترقى فوصفهم بالنبوة والوحي. وإذا كان الصلاح الذي هو العصمة أول مراتب النبوة دل ذلك على أن الأنبياء معصومون، فإن المحروم عن أول المراتب أولى بأن يكون محروما عن النهاية، ثم إنه سبحانه كما بين أصناف نعمه عليهم، بين بعد ذلك اشتغالهم بعبوديته فقال: {وكانوا لنا عابدين} كأنه سبحانه وتعالى لما وفى بعهد الربوبية في الإحسان والإنعام، فهم أيضا وفوا بعهد العبودية وهو الاشتغال بالطاعة والعبادة.

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

ولما ذكر أنه أعطاهم رتبة الصلاح في أنفسهم، ذكر أنه أعطاهم رتبة الإصلاح لغيرهم، فقال معظماً لإمامتهم: {وجعلناهم أئمة} أي أعلاماً ومقاصد يقتدى بهم في الدين بما أعطاهم من النبوة. ولما كان الإمام قد يدعو إلى الردى، ويصد عن الهدى، إذا كانت إمامته ظاهرة لا يصحبها صلاح باطن، احترز عن ذلك بقوله: {يهدون} أي يدعون إلينا من وفقناه للهداية {بأمرنا} وهو الروح الذي هو العمل المؤسس على العلم بإخبار الملائكة به عنا، ولإفهام ذلك عطف عليه قوله معظماً لوحيه إليهم: {وأوحينا إليهم} أي أيضاً {فعل} أي أن يفعلوا {الخيرات} كلها وهي شرائع الدين، ولعله عبر بالفعل دلالة على أنهم امتثلوا كل ما أوحي إليهم.

ولما كانت الصلاة أم الخيرات خصها بالذكر فقال: {وإقام الصلاة} قال الزجاج: الإضافة عوض عن تاء التأنيث. يعني فيكون من الغالب لا من القليل، وكان سر الحذف تعظيم الصلاة لأنها مع نقصها عن صلاتنا -لما أشار إليه الحذف- بهذه المنزلة من العظمة فما الظن بصلاتنا.

ولما كانت الصلاة بين العبد والحق، وكان روحها الإعراض عن كل فان، عطف عليها قوله: {وإيتاء الزكاة} أي التي هي مع كونها إحساناً إلى الخلق بما دعت الصلاة إلى الانسلاخ عنه من الدنيا، ففعلوا ما أوحيناه إليهم {وكانوا لنا} دائماً جبلة وطبعاً {عابدين} أي فاعلين لكل ما يأمرون به غيرهم، فعل العبد مع مولاه من كل ما يجب له من الخدمة، ويحق له من التعظيم والحرمة.

تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :

{يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا} أي: يهدون الناس بديننا، لا يأمرون بأهواء أنفسهم، بل بأمر الله ودينه، واتباع مرضاته، ولا يكون العبد إماما حتى يدعو إلى أمر الله.

{وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ} يفعلونها ويدعون الناس إليها، وهذا شامل لجميع الخيرات كلها، من حقوق الله، وحقوق العباد...

{عَابِدِينَ} أي: مديمين على العبادات القلبية والقولية والبدنية في أكثر أوقاتهم، فاستحقوا أن تكون العبادة وصفهم، فاتصفوا بما أمر الله به الخلق، وخلقهم لأجله.

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

إعادة فعل « جعل» في قوله تعالى: {وجعلناهم أيمة يهدون بأمرنا} دون أن يقال: وأيمةً يهْدُون، بعطف {أيمة} على {صالحين،} اهتماماً بهذا الجعل الشريف، وهو جعلهم هادين للناس بعد أن جعلهم صالحين في أنفسهم فأعيد الفعل ليكون له مزيد استقرار.

ولأن في إعادة الفعل إعادة ذكر المفعول الأول فكانت إعادته وسيلة إلى إعادة ذكر المفعول الأول.

وفي تلك الإعادة من الاعتناء ما في الإظهار في مقام الإضمار كما يظهر بالذوق.

والأئمة: جمع إمام وهو القدوة والذي يُعمل كعمله. وأصل الإمام المثال الذي يصنع الشيء على صورته في الخير أو في الشر.

وجملة {يهدون} في موضع الحال مقيدة لمعنى الإمامة، أي أنهم أئمة هُدى وإرشاد.

وقوله {بأمرنا} أي كانوا هادين بأمر الله، وهو الوحي زيادة على الجعل...

وهذا الهدي هو تزكية نفوس الناس وإصلاحها وبث الإيمان ويشمل هذا شؤون الإيمان وشُعبه وآدابه.

وأما قوله تعالى: {وأوحينا إليهم فعل الخيرات} فذلك إقامة شرائع الدين بين الناس من العبادات والمعاملات، وقد شملها قوله تعالى {فعل الخيرات}.

و {فعل الخيرات} مصدر مضاف إلى {الخيرات}، ويتعين أنه مضاف إلى مفعوله لأن الخيرات مفعولة وليست فاعلة فالمصدر هنا بمنزلة الفعل المبني للمجهول لأن المقصود هو مفعوله، وأما الفاعل فتبع له، أي أن يفعلوا هُم ويفعَلَ قومهم الخيرات، حتى تكون الخيرات مفعولة للناس كلهم، فحذف الفاعل للتعميم مع الاختصار لاقتضاء المفعول إياه...

ويجوز أن يكون {فعل الخيرات} هو الموحى به، أي وأوحينا إليهم هذا الكلام، فيكون المصدر قائماً مقام الفعل مراداً به الطلب، والتقدير: افعلوا الخيرات، كقوله تعالى: {فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب} [محمد: 4].

وتخصيص {إقام الصلاة وإيتاء الزكاة} بالذكر بعد شمول الخيرات إياهما تنويه بشأنهما لأن بالصلاة صلاح النفس إذ الصلاة تنهَى عن الفحشاء والمنكر، وبالزكاة صلاحَ المجتمع لكفاية عوز المعوزين.

وهذا إشارة إلى أصل الحنيفية التي أرسل بها إبراهيم عليه السلام.

ومعنى الوحي بفعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة أنه أوحي إليهم الأمر بذلك كما هو بيّن.

ثم خصّهم بذكر ما كانوا متميزين به على بقية الناس من ملازمة العبادة لله تعالى كما دلّ عليه فعل الكَون المفيد تمكُّن الوصف، ودلت عليه الإشارة بتقديم المجرور إلى أنهم أفردوا الله بالعبادة فلم يعبدوا غيره قط كما تقتضيه رتبة النبوءة من العصمة عن عبادة غير الله من وقت التكليف كما قال يوسف: {ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء} [يوسف: 38] وقال تعالى في الثناء على إبراهيم: {وما كان من المشركين} [البقرة: 135].

زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :

والجملة تدل على استمرار العبادة أولا، لوجود "كان "الدالة على الاستمرار، وثانيا الوصف {عابدين} أي مستمرين حتى تصير العبادة وصفا لهم فهم في عبادة مستمرة آناء الليل وأطراف النهار...

والخيرات جمع خير، وهو كل ما فيه نفع للناس، ويقصد به فعله لنفعه للناس، ولإرضاء الله تعالى.

تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :

{وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا} وذلك عندما جعلهم الله أنبياء يحملون الرسالة ويقومون بمهمة الإمام الذي يقوم بقيادة الأمة نحو أهدافها الكبيرة، في ما يعيشه من فكر وخلق وروحانية وانفتاح على كل معاني الخير والحب والسلام من أجل هداية الناس إلى الله؛ حتى لا يقوموا بشيء ولا يتركوا شيئاً إلا أن يعلموا أن في ذلك لله رضا، وتلك هي مهمة النبوة والإمامة، أن تتحقق للإنسان الصلة العميقة الواسعة بالله في عملية اهتداء روحيّ وعمليّ، فلا انفصال بين حركة إنسانيته وبين حركة عبوديته، بل يتواصلان ويتلاقيان ويتداخلان في وحدة إنسانية روحية لا تجزئة فيها ولا ازدواجية، وهذا هو الخط المستقيم الذي يبدأ من الله وينتهي عنده.

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :

(وجعلناهم أئمّة) أي إنّنا وهبناهم مقام الإمامة إضافةً إلى مقام النّبوّة والرسالة، والإمامة كما أشرنا إلى ذلك سابقاً هي آخر مراحل سير الإنسان التكاملي، والتي تعني القيادة العامّة الشاملة لكلّ الجوانب الماديّة والمعنوية، والظاهرية والباطنية، والجسميّة والروحية للناس. والفرق بين النبوّة والرسالة وبين الإمامة، هو أنّ الأنبياء في مقام النبوّة والرسالة يتلقّون أوامر الله ويبلّغونها الناس إبلاغاً مقترناً بالإنذار أو البشارة فقط، أمّا في مرحلة الإمامة فإنّهم ينفّذون هذا البرنامج الإلهي، سواء كان هذا التنفيذ عن طريق تشكيل حكومة عادلة أو بدون ذلك، فهم في هذه المرحلة مربّون للناس، ومعلّمون لهم، ومنفّذون للأحكام والبرامج في سبيل إيجاد بيئة طاهرة نزيهة إنسانية...

ثمّ يذكر في المرحلة التالية ثمرة هذا المقام، فيقول: (يهدون بأمرنا) ولا يعني بالهداية الإرشاد وبيان الطريق الصحيح، والذي هو من شأن النبوّة والرسالة، بل يعني الأخذ باليد والإيصال إلى المقصود. وهذا بالطبع لمن له الاستعداد واللياقة والأهليّة.

أمّا الموهبة الثّالثة والرّابعة والخامسة فقد عبّر عنها القرآن بقوله: (وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة) وهذا الوحي يمكن أن يكون وحياً تشريعيّاً، أي إنّنا جعلنا كلّ أنواع أعمال الخير وأداء الصلاة وإعطاء الزكاة في مناهجهم الدينيّة. ويمكن أيضاً أن يكون وحياً تكوينيّاً، أي إنّنا وهبنا لهم التوفيق والقدرة والجاذبية المعنوية من أجل تنفيذ هذه الاُمور...

وفي آخر فصل أشار إلى مقام العبودية، فقال: (وكانوا لنا عابدين). والتعبير ب «كانوا» الذي يدلّ على الماضي المستمر في هذا المنهج، ربّما كان إشارة إلى أنّ هؤلاء كانوا رجالا صالحين موحّدين مؤهّلين حتّى قبل الوصول إلى مقام النّبوّة والإمامة، وفي ظلّ ذلك المخطّط وهبهم الله سبحانه مواهب جديدة. وينبغي التذكير بهذه النقطة، وهي أنّ جملة (يهدون بأمرنا) في الحقيقة وسيلة لمعرفة الأئمّة وهداة الحقّ، في مقابل زعماء وقادة الباطل الذين يقوم أساس ومعيار أعمالهم على الأهواء والرغبات الشيطانية.