الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{وَجَعَلۡنَٰهُمۡ أَئِمَّةٗ يَهۡدُونَ بِأَمۡرِنَا وَأَوۡحَيۡنَآ إِلَيۡهِمۡ فِعۡلَ ٱلۡخَيۡرَٰتِ وَإِقَامَ ٱلصَّلَوٰةِ وَإِيتَآءَ ٱلزَّكَوٰةِۖ وَكَانُواْ لَنَا عَٰبِدِينَ} (73)

وقوله : { وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً } : كما تقدَّم إلاَّ أنه لم يُوَسَّطِ العاملُ . و " يَهْدون " صفةٌ ل " أئمة " . و " بأَمْرِنا " متعلق ب " يَهْدُون " . وقد تقدَّم التصريفُ المتعلِّق بلفظ أئمة وقراءةُ القراءِ فيها .

قوله : { فِعْلَ الْخَيْرَاتِ } قال الزمخشري : " أصلُه أن تُفْعَلَ الخيراتُ ، ثم فِعْلاً الخيراتِ ، ثم فِعْلَ الخيراتِ ، وكذلك " وإقامَ الصلاة وإيتاءَ الزكاةِ " . قال الشيخ : " كأنَّ الزمخشريَّ لمَّا رأى أَنَّ فِعْلَ الخيراتِ وإقامَ الصلاةِ وإيتاءَ الزكاةِ ليس من الأحكامِ المختصةِ بالمُوْحى إليهم ، بل هم وغيرُهم في ذلك مشتركون بُني الفعلُ للمفعولِ ، حتى لا يكونَ المصدرُ مضافاً من حيث المعنى إلى ضميرِ المُوْحَى إليهم ، فلا يكونُ التقدير : فِعْلَهم الخيراتِ ، وإقامتَهم الصلاةَ ، وإيتاءَهم الزكاةَ . ولا يلزَمُ ذلك ؛ إذ الفاعلُ مع المصدرِ محذوفٌ . ويجوزُ أَنْ يكونَ من حيث المعنى مضافاً إلى ظاهرٍ محذوفٍ ، ويشملُ المُوْحَى إليهم وغيرَهم . والتقديرُ : فِعْلَ المكلَّفين الخيراتِ . ويجوز أن يكونَ مضافاً إلى ضمير الموحى إليه أي : [ أن ] يفعلوا الخيراتِ ، ويُقيموا الصلاةَ ، ويُؤْتُوا الزكاةَ ، وإذا كانوا هم قد أُوْحي إليهم ذلك فأتباعُهم جارُوْن مَجْراهم في ذلك ، ولا يَلْزَمُ اختصاصُهم به . ثم اعتقادُ بناءِ المصدرِ للمفعولِ مختلَفٌ فيه . أجاز ذلك الأخفشُ . والصحيحُ مَنْعُه فليس ما اختاره الزمخشريُّ بمختارٍ " .

قلت : الذي يَظْهر أنَّ الزمخشريَّ لم يُقَدِّرْ هذا التقديرَ ، لِما ذكره الشيخ ، حتى يُلْزِمَه ما قاله ، بل إنما قَدَّر ذلك لأنَّ نفسَ الفعلِ الذي هو معنى صادرٌ مِنْ فاعلِه لا بوَحْيٍ ، إنما بوحيَ ألفاظٍ تَدُلُّ عليه ، وكأنه قيل : وأَوْحَيْنا هذا اللفظ ، وهو أن تُفْعَلَ الخيراتُ ، ثم صاغ ذلك الحرفَ المصدريَّ مع ما بعده مصدراً منوَّناً ناصباً لِما بعده ، ثم جَعَلَه مصدراً مضافاً لمفعولِه .

وقال ابن عطية : " والإِقام مصدرٌ . وفي هذا نظر " . انتهى . يعني ابن عطية بالنظر أنَّ مصدرَ أَفْعَل على الإِفعال . فإن كان صحيحَ العينِ جاء تامَّاً كالإِكرام ، وإنْ كان معتلَّها حُذِف منه إحدى الألفين ، وعُوِّض منه تاءُ التأنيث فيقال إقامة . فلمَّا لم يُقَلْ كذلك جاء فيه النظر المذكور . قال الشيخ : " وأيُّ نظرٍ في هذا ؟ وقد نَصَّ سيبويه على أنَّه مصدرٌ بمعنى الإِقامة وإنْ كان الأكثرُ الإِقامةَ بالتاء ، وهو المقيسُ في مصدر أفْعَل إذا اعتلَّتْ عينُه . وحَسَّن ذلك أنه قابَلَ { وَإِيتَآءَ الزَّكَاةِ } وهو بغير تاءٍ ، فتقع الموازنةُ بين قولِه { وَإِقَامَ الصَّلاَة وَإِيتَآءَ الزَّكَاةِ } .

وقال الزجاج : " حُذِفَتِ التاءُ مِنْ إقامة لأنَّ الإِضافةَ عوضٌ عنها " وهذا قولُ الفراءِ : زعم أنَّ التاءَ تُحْذَفُ للإِضافةِ كالتنوين . وقد تقدم بَسْطُ القولِ في ذلك عند قراءةِ مَنْ قرأ في براءة { عُدَّةً وَلَكِن كَرِهَ } [ التوبة : 46 ] .