{ فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ . فَإِذَا هُم بالساهرة } .
والزجرة : المرة من الزجر ، وهو الصياح المصحوب بالغضب ، يقال : زجر فلا فلانا ، إذا أمره أو نهاه عن شئ بحدة وغضب .
والساهرة : الأرض المستوية الخالية من النبات .
والمراد بها هنا : الأرض التى يحشر الله - تعالى - فيها الخلائق .
قال القرطبى : قوله : { فَإِذَا هُم بالساهرة } أى : على وجه الأرض ، بعد أن كانوا فى بطنها . سميت بهذا الاسم ، لأن فيها نوم الحيوان وسهرهم ، والعرب تسمى الفلاة ووجه الأرض ساهرة ، بمعنى ذات سهر ، لأنه يسهر فيها خوفا منها ، فوصفها بصفة ما فيها . .
والفاء فى قوله : { فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ . . . } للتفريع على قولهم السابق ، وضمير " هى " يعود إلى الحاة والقصة التى أنكروها ، وهى قيام الساعة .
أى : قل لهم - أيها الرسول الكريم - على سبيل التوبيخ والتقريع : ليس الأمر كما زعمتم من أنه لا بثع ولا جزاء . . بل الحق أن ذلك لآت لا ريب فيه ، وأن عودتكم إلى الحياة مرة أخرى لا تقتضى من خالقكم سوى صيحة واحدة يصيحها ملك من ملائكته بكم ، فإذا أنتم قيام من قبوركم ، ومجتمعون فى المكان الذى يحدده الله - تعالى - لاجتماعكم ولحسابكم وجزائكم .
وعبر - سبحانه - عن اجتماعهم بأرض المحشر بإذا الفجائية فقال : { فَإِذَا هُم بالساهرة } للإيذان بأن اجتماعهم هذا سيكون فى نهاية السرعة والخفة ، وأنه سيتحقق فى أعقاب الزجرة بدون أقل تأخير .
ووصف - سبحانه - الزجرة بأنها واحدة ، لتأكيد ما فى صيغة المرة من معنى الوحدة ، أى : أن الأمر لا يقتضى سوى الإِذن منا بصيحة واحدة لا أكثر ، تنهضون بعدها من قبوركم للحساب والجزاء ، نهوضا لا تملكون معه التأخر أو التردد . . والمراد بها : النفخة الثانية .
وقال - سبحانه - { فَإِذَا هُم } بضمير الغيبة ، إهمالا لشأنهم ، وتحقيرا لهم عن استحقاق الخطاب .
وشبيه بهاتين الآيتين قوله - تعالى - : { وَنُفِخَ فِي الصور فَصَعِقَ مَن فِي السماوات وَمَن فِي الأرض إِلاَّ مَن شَآءَ الله ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أخرى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ } وإلى هنا نجد السورة الكريمة قد حثتنا حديثا بليغا مؤثرا عن أهوال يوم القيامة ، وعن أحوال المجرمين فى هذا اليوم العسير .
هنا - في مواجهة هذا المشهد - يعقب السياق القرآني بحقيقة ما هو كائن :
( فإنما هي زجرة واحدة . فإذا هم بالساهرة ) . .
والزجرة : هي الصيحة . ولكنها تقال هنا بهذا اللفظ العنيف تنسيقا لجو المشهد مع مشاهد السورة جميعا .
والساهرة هي الأرض البيضاء اللامعة . وهي أرض المحشر ، التي لا ندري نحن أين تكون . والخبر عنها لا نعرفه إلا من الخبر الصادق نتلقاه ، فلا نزيد عليه شيئا غير موثوق به ولا مضمون !
وهذه الزجرة الواحدة يغلب - بالاستناد إلى النصوص الأخرى - أنها النفخة الثانية . نفخة البعث والحشر . والتعبير عنها فيه سرعة . وهي ذاتها توحي بالسرعة . وإيقاع السورة كلها فيه هذا اللون من الإسراع والإيجاف . والقلوب الواجفة تأخذ صفتها هذه من سرعة النبض ، فالتناسق ملحوظ في كل حركة وفي كل لمحة ، وفي كل ظل في السياق !
وقوله : { فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ } قال ابن عباس : { بِالسَّاهِرَة } الأرض كلها . وكذا قال سعيد بن جُبَير ، وقتادة ، وأبو صالح .
وقال عكرمة ، والحسن ، والضحاك ، وابن زيد : { بِالسَّاهِرَة } وجه الأرض .
وقال مجاهد : كانوا بأسفلها فأخرجوا إلى أعلاها . قال : و { بِالسَّاهِرَة } المكان المستوي .
وقال الثوري : { بِالسَّاهِرَة } أرض الشام ، وقال عثمان بن أبي العاتكة : { بِالسَّاهِرَة } أرض بيت المقدس . وقال وهب بن مُنَبه : { الساهرة } جبل إلى جانب بيت المقدس . وقال قتادة أيضا : { بِالسَّاهِرَة } جهنم .
وهذه أقوال كلها غريبة ، والصحيح أنها الأرض وجهها الأعلى .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا خَزَر بن المبارك الشيخ الصالح ، حدثنا بشر بن السري ، حدثنا مصعب بن ثابت ، عن أبي حازم ، عن سهل بن سعد الساعدي : { فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ } قال : أرض بيضاء عفراء خالية كالخُبزَة النَّقِيّ .
وقال الربيع بن أنس : { فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ } ويقول الله عز وجل : { يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرْضُ غَيْرَ الأرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ } [ إبراهيم : 48 ] ، ويقول : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا } [ طه : 105 ، 106 ] . وقال : { وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الأرْضَ بَارِزَةً } [ الكهف : 47 ] : وبرزت الأرض التي عليها الجبال ، وهي لا تعد من هذه الأرض ، وهي أرض لم يعمل عليها خطيئة ، ولم يَهرَاق عليها دم .
وفاء { فإذا هم بالساهرة } للتفريع على جملة { إنما هي زجرة واحدة } . و ( إذا ) للمفاجأة ، أي الحصول دون تأخير فحصل تأكيد معنى التفريع الذي أفادته الفاء وذلك يفيد عدم الترتب بين الزجرة والحصول في الساهرة .
والزَّجرة : المرَّة من الزجر ، وهو الكلام الذي فيه أمر أو نهي في حالة غضب ، يقال : زجر البعير ، إذا صاح له لينهض أو يسير ، وعبر بها هنا عن أمر الله بتكوين أجساد الناس الأموات تصويراً لما فيه من معنى التسخير لتعجيل التكوُّن . وفيه مناسبة لإِحياء ما كان هامداً كما يُبعث البعير البارك بزجرة ينهض بها سريعاً خوفاً من زاجره . وقد عبر عن ذلك بالصيحة في قوله تعالى : { يوم يسمعون الصيحة بالحق ذلك يوم الخروج } [ ق : 42 ] وهو الذي عبَّر عنه بالنفخ في الصُّور .
ووصفت الزجرة بواحدة تأكيداً لما في صيغة المرة من معنى الوحدة لئلا يتوهم أن إِفراده للنوعية ، وهذه الزجرة هي النفخة الثانية التي في قوله تعالى : { ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون } [ الزمر : 68 ] فهي ثانية للتي قبلها ، وهي { الرادفة التي تقدم ذكرها آنفاً وإنما أريد بكونها واحدة أنها لا تُتبع بثانيةٍ لها ، وقد وصفت بواحدة في صورة الحاقة بهذا الاعتبار .
والساهرة : الأرض المستوية البيضاء التي لا نبات فيها يُختار مثلُها لاجتماع الجموع ووضْعِ المغانم . وأريد بها أرض يجعلها الله لجمع الناس للحشر .
والإِتيان ب ( إذا ) الفجائية للدلالة على سرعة حضورهم بهذا المكان عقب البعث .
وعطفها بالفاء لتحقيق ذلك المعنى الذي أفادته ( إذا ) لأن الجمع بين المفاجأة والتفريع أشد ما يعبر به عن السرعة مع إيجاز اللفظ .
والمعنى : أن الله يأمر بأمر التكوين بخلق أجسادٍ تحلّ فيها الأرواح التي كانت في الدنيا فتحضر في موقف الحشر للحساب بسرعة .