{ 9-10 } { إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا * وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا }
يخبر تعالى عن شرف القرآن وجلالته وأنه { يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ } أي : أعدل وأعلى من العقائد والأعمال والأخلاق ، فمن اهتدى بما يدعو إليه القرآن كان أكمل الناس وأقومهم وأهداهم في جميع أموره .
{ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ } من الواجبات والسنن ، { أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا } أعده الله لهم في دار كرامته لا يعلم وصفه إلا هو .
قال الفخر الرازى : اعلم أنه - تعالى - لما شرح ما فعله فى حق عباده المخلصين ، وهو الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإيتاء الكتاب لموسى - عليه السلام - ، وما فعله فى حق العصاة والمتمردين وهو تسليط أنواع البلايا عليهم ، كان ذلك تنبيها على أن طاعة الله توجب كل خير وكرامة ، ومعصيته توجب كل بلية وغرامة ، لا جرم أثنى - سبحانه - على القرآن فقال : { إِنَّ هذا القرآن يَِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ } .
والفعل { يهدى } مأخوذ من الهداية ، ومعناها : الإِرشاد والدلالة بلطف إلى ما يوصل إلى البغية . والمفعول محذوف . أى : يهدى الناس .
وقوله - سبحانه - { لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ } صفة لموصوف محذوف ، أى يهدى الناس إلى الطريقة أو الملة التى هى أقوم .
قال صاحب الكشاف : { لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ } أى : للحالة التى هى أقوم الحالات وأسدها ، أو للملة أو للطريقة . وأينما قدرت لم تجد مع الإِثبات ذوق البلاغة الذى تجده مع الحذف ، لما فى إيهام الموصوف بحذفه من فخامة تفقد مع إيضاحه .
والمعنى : إن هذا القرآن الكريم ، الذى أنزله الله - تعالى - عليك يا محمد صلى الله عليه وسلم ، يرشد الناس ويدلهم ويهديهم - فى جميع شئونهم الدينية والدنيوية - إلى الملة التى هى أقوم الملل وأعدلها ، وهى ملة الإِسلام . فمنهم من يستجيب لهذه الهداية فيظفر بالسعادة ، ومنهم من يعرض عنها فيبوء بالشقاء .
قال صاحب الظلال ما ملخصه : إن هذا القرآن يهدى للتى هى أقوم فى عالم الضمير والشعور ، بالعقيدة الواضحة التى لا تعقيد فيها ولا غموض ، والتى تطلق الروح من أثقال الوهم والخرافة ، وتطلق الطاقات البشرية الصالحة للعمل والبناء ، وتربط بين نواميس الكون الطبيعية ، ونواميس الفطرة البشرية فى تناسق واتساق .
ويهدى للتى هى أقوم ، فى التنسيق بين ظاهر الإِنسان وباطنه ، وبين مشاعره وسلوكه وبين عقيدته وعمله .
ويهدى للتى هى أقوم فى عالم العبادة ، بالموازنة بين التكاليف والطاقة ، فلا تشق التكاليف على النفس حتى تمل ، ولا تسهل حتى تشيع فى النفس الرخاوة والاستهتار ، ولا تتجاوز القصد والاعتدال وحدود الاحتمال .
ويهدى للتى هى أقوم ، فى علاقات الناس بعضهم ببعض : أفرادا وأزواجا وحكومات وشعوبا ، ودولا وأجناسا .
ويهدى للتى هى أقوم فى نظام الحكم ، ونظام المال ، ونظام الاجتماع ، ونظام التعامل . .
وقوله - سبحانه - : { وَيُبَشِّرُ المؤمنين الذين يَعْمَلُونَ الصالحات أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً } صفة ثانية من صفات القرآن الكريم .
أى : أن هذا القرآن بجانب هدايته للتى هى أقوم ، فهو - أيضا - يبشر المؤمنين الذين يعملون الأعمال الصالحات بأن لهم أجرا كبيرا من خالقهم - عز وجل - : أجرا كبيرا لا يعلم مقداره إلا مسديه ومانحه ، وهو الله رب العالمين .
ومن هذه الحلقة من سيرة بني إسرائيل ، وكتابهم الذي آتاه الله لموسى ليهتدوا به فلم يهتدوا ؛ بل ضلوا فهلكوا . ينتقل السياق إلى القرآن . القرآن الذي يهدي للتي هي أقوم :
( إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ، ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا كبيرا ، وأن الذين لا يؤمنون بالآخرة أعتدنا لهم عذابا أليما ) . .
( إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ) . .
هكذا على وجه الإطلاق فيمن يهديهم وفيما يهديهم ، فيشمل الهدى أقواما وأجيالا بلا حدود من زمان أو مكان ؛ ويشمل ما يهديهم إليه كل منهج وكل طريق ، وكل خير يهتدي إليه البشر في كل زمان ومكان .
يهدي للتي هي أقوم في عالم الضمير والشعور ، بالعقيدة الواضحة البسيطة التي لا تعقيد فيها ولا غموض ، والتي تطلق الروح من أثقال الوهم والخرافة ، وتطلق الطاقات البشرية الصالحة للعمل والبناء ، وتربط بين نواميس الكون الطبيعية ونواميس الفطرة البشرية في تناسق واتساق .
ويهدي للتي هي أقوم في التنسيق بين ظاهر الإنسان وباطنه ، وبين مشاعره وسلوكه ، وبين عقيدته وعمله ، فإذا هي كلها مشدودة إلى العروة الوثقى التي لا تنفصم ، متطلعة إلى أعلى وهي مستقرة على الأرض ، وإذا العمل عبادة متى توجه الإنسان به إلى الله ، ولو كان هذا العمل متاعا واستمتاعا بالحياة .
ويهدي للتي هي أقوم في عالم العبادة بالموازنة بين التكاليف والطاقة ، فلا تشق التكاليف على النفس حتى تمل وتيأس من الوفاء . ولا تسهل وتترخص حتى تشبع في النفس الرخاوة والاستهتار . ولا تتجاوز القصد والاعتدال وحدود الاحتمال .
ويهدي للتي هي أقوم في علاقات الناس بعضهم ببعض : أفرادا وأزواجا ، وحكومات وشعوبا ، ودولا وأجناسا ، ويقيم هذه العلاقات على الأسس الوطيدة الثابتة التي لا تتأثر بالرأي والهوى ، ولا تميل مع المودة والشنآن ؛ ولا تصرفها المصالح والأغراض . الأسس التي أقامها العليم الخبير لخلقه ، وهو أعلم بمن خلق ، وأعرف بما يصلح لهم في كل أرض وفي كل جيل ، فيهديهم للتي هي أقوم في نظام الحكم ونظام المال ونظام الاجتماع ونظام التعامل الدولي اللائق بعالم الإنسان .
ويهدي للتي هي أقوم في تبني الديانات السماوية جميعها والربط بينها كلها ، وتعظيم مقدساتها وصيانة حرماتها فإذا البشرية كلها بجميع عقائدها السماوية في سلام ووئام .
( إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ) . . ( ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا كبيرا ، وأن الذين لا يؤمنون بالآخرة أعتدنا لهم عذابا أليما ) فهذه هي قاعدته الأصيلة في العمل والجزاء . فعلى الإيمان والعمل الصالح يقيم بناءه . فلا إيمان بلا عمل ، ولا عمل بلا إيمان . الأول مبتور لم يبلغ تمامه ، والثاني مقطوع لا ركيزة له . وبهما معا تسير الحياة على التي هي أقوم . . وبهما معا تتحقق الهداية بهذا القرآن .
وقوله تعالى : { إن هذا القرآن } الآية ، { يهدي } في هذه الآية بمعنى يرشد ، ويتوجه فيها أن تكون بمعنى يدعو ، و { التي } يريد بها الحالة والطريقة ، وقالت فرقة ، { للتي هي أقوم } لا إله إلا الله .
قال القاضي أبو محمد : والأول أعم وكلمة الإخلاص وغيرها من الأقوال داخلة في الحال «التي هي أقوم » من كل حال تجعل بإزائها ، والاقتصار على { أقوم } ولم يذكر من كذا إيجاز ، والمعنى مفهوم ، أي { للتي هي أقوم } من كل ما غايرها فهي النهاية في القوام ، وقيد المؤمنين بعمل الصالحات إذ هو كمال الإيمان وإن لم يكن في نفسه ، والمؤمن المفرط في العمل له بإيمانه حظ في عمل الصالحات : و «الأجر الكبير » الجنة ، وكذلك حيث وقع في كتاب الله فضل كبير وأجر كبير فهو الجنة ، وقوله { أن } الأولى في موضع نصب ب { يبشر } ، و { أن } الثانية عطف على الأولى ، وهي داخلة في جملة بشارة المؤمنين ، بشرهم القرآن بالجنة ، وأن الكفار لهم عذاب أليم ، وذلك أن علم المؤمنين بهذا مسرة لهم ، وفي هذه البشارة وعيد للكفار بالمعنى ، هذا الذي تقتضيه ألفاظ الآية ، وقرأ الجمهور ، «ويُبَشِّر » بضم الياء وفتح الباء وكسر الشين ، وقرأ ابن مسعود ويحيى ين وثاب وطلحة «ويَبْشُر » بفتح الياء وسكون الباء وضم الشين ،
استئناف ابتدائي عاد به الكلام إلى الغرض الأهم من هذه السورة وهو تأييد النبي صلى الله عليه وسلم بالآيات والمعجزات ، وإيتاؤه الآيات التي أعظمها آية القرآن كما قدمناه عند قوله تعالى : { وآتينا موسى الكتاب } [ الإسراء : 2 ] . وأعقب ذلك بذكر ما أنزل على بني إسرائيل من الكُتب للهدى والتحذير ، وما نالهم من جراء مخالفتهم ما أمرهم الله به ، ومن عدولهم عن سَنن أسلافهم من عهد نوح . وفي ذلك فائدة التحذير من وقوع المسلمين فيما وقع فيه بنو إسرائيل ، وهي الفائدة العظمى من ذكر قصص القرآن ، وهي فائدة التاريخ .
وتأكيد الجملة مراعى فيه حال بعض المخاطبين وهم الذين لم يذعنوا إليه ، وحالُ المؤمنين من الاهتمام بهذا الخبر ، فالتوكيد مستعمل في معنييه دفع الإنكار والاهتمام ، ولا تعارض بين الاعتبارين .
وقوله : { هذا القرآن } إشارة إلى الحاضر في أذهان الناس من المقدار المنزل من القرآن قبل هذه الآية .
وبُينت الإشارة بالاسم الواقع بعدها تنويهاً بشأن القرآن .
وقد جاءت هذه الآية تنفيساً على المؤمنين من أثر القصص المهولة التي قصت عن بني إسرائيل وما حل بهم من البلاء مما يثير في نفوس المسلمين الخشية من أن يصيبهم مثل ما أصاب أولئك ، فأخبروا بأن في القرآن ما يعصمهم عن الوقوع فيما وقع فيه بنو إسرائيل إذ هو يهدي للطريق التي هي أقوم مما سلكه بنو إسرائيل ، ولذلك ذكر مع الهداية بشارة المؤمنين الذين يعملون الصالحات ، ونذارة الذين لا يؤمنون بالآخرة . وفي التعبير ب { التي هي أقوم } نكتة لطيفة ستأتي . وتلك عادة القرآن في تعقيب الرهبة بالرغبة وعكسه .
و { التي هي أقوم } صفة لمحذوف دل عليه { يهدي } ، أي للطريق التي هي أقوم ، لأن الهداية من ملازمات السير والطريق ، أو للملة الأقوم ، وفي حذف الموصوف من الإيجاز من جهة ومن التفخيم من جهة أخرى ما رجح الحذف على الذكر .
والأقوم : تفضيل القويم . والمعنى : أنه يهدي للتي هي أقوم من هُدى كتاب بني إسرائيل الذي في قوله : { وجعلناه هدى لبني إسرائيل } [ الإسراء : 2 ] . ففيه إيماء إلى ضمان سلامة أمة القرآن من الحيدة عن الطريق الأقوم ، لأن القرآن جاء بأسلوب من الإرشاد قويم ذي أفنان لا يحول دونه ودون الولوج إلى العقول حَائل ، ولا يغادر مسلكاً إلى ناحية من نواحي الأخلاق والطبائع إلا سلكهُ إليها تحريضاً أو تحذيراً ، بحيث لا يعدم المتدبر في معانيه اجتناء ثمار أفنانه ، وبتلك الأساليب التي لم تبلغها الكتب السابقة كانت الطريقة التي يهدي إلى سلوكها أقومَ من الطرائق الأخرى وإن كانت الغاية المقصود الوصول إليها واحدة .
وهذا وصف إجمالي لمعنى هدايته إلى التي هي أقوم لو أريد تفصيله لاقتضى أسفاراً ، وحسبك مثالاً لذلك أساليب القرآن في سد مسالك الشرك بحيث سلمت هذه الآية في جميع أطوارها من التخليط بين التقديس البشري وبين التمجيد الإلهي ، فلم تنزل إلى حضيض الشرك بحال ، فمحل التفضيل هو وسائل الوصول إلى الغاية من الحق والصدق ، وليس محل التفضيل تلك الغاية حتى يقال : إن الحق لا يتفاوت .
والأجر الكبير فُسر بالجنة ، والعذابُ الأليم بجهنم ، والأظهر أن يحمل على عموم الأجر والعذاب ، فيشمل أجر الدنيا وعذابها ، وهو المناسب لما تقدم من سعادة عيش بني إسرائيل وشقائه ، فجعل اختلاف الحالين فيهما موعظة لحالي المسلمين والمشركين .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{إن هذا القرآن يهدي}، يعني: يدعو، {للتي هي أقوم}، يعني: أصوب، {ويبشر} القرآن، {المؤمنين}، يعنى المصدقين،
{الذين يعملون الصالحات} من الأعمال بما فيه من الثواب، فذلك قوله سبحانه: {أن لهم أجرا كبيرا}، يعني: جزاء عظيما في الآخرة...
قال ابن وهب: سمعت مالكا يقول: إن استطعت أن تجعل القرآن إماما فافعل فهو الإمام الذي يهدي إلى الجنة...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: إن هذا القرآن الذي أنزلناه على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم يرشد ويسدّد من اهتدى به "للّتِي هِيَ أقْوَمُ "يقول: للسبيل التي هي أقوم من غيرها من السبل، وذلك دين الله الذي بعث به أنبياءه وهو الإسلام. يقول جلّ ثناؤه: فهذا القرآن يهدي عباد الله المهتدين به إلى قصد السبيل التي ضلّ عنها سائر أهل الملل المكذّبين به... قال ابن زيد، في قوله: "إنّ هَذَا القُرآنَ يَهْدِي للّتِي هِيَ أقْوَمُ" قال: للتي هي أصوب: هو الصواب وهو الحقّ قال: والمخالف هو الباطل...
"وَيُبَشّرُ المُؤْمِنِينَ" يقول: ويبشر أيضا مع هدايته من اهتدى به للسبيل الأقصد الذين يؤمنون بالله ورسوله، ويعملون في دنياهم بما أمرهم الله به، وينتهون عما نهاهم عنه "بأن لهُمْ أجْرا" من الله على إيمانهم وعملهم الصالحات "كَبِيرا" يعني ثوابا عظيما، وجزاء جزيلاً، وذلك هو الجنة التي أعدّها الله تعالى لمن رضي عمله...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قيل: إن هدى القرآن يهدي للتي للملة التي {هي أقوم} الملل وأعدلها. الملة هي الدين، دين الله.
وقال بعضهم: يهدي إلى الأمور التي هي أعدل الأمور وأصوبها.
وقيل: يهدي إلى السبيل التي هي أقوم السبل وأعدلها. يحتمل هذه الوجوه الثلاثة التي ذكرناها.
وجائز أن يكون قوله: {يهدي للتي هي أقوم} أي للأعمال الصالحات وللخيرات لأن الأعمال الصالحات، قوامها به...
والثاني: يدعو. فهو يهدي الكل لو استهدوا، لكن خص هؤلاء لما (أن المنفعة) تكون لمن ذكر...
{ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات} البشارة المطلقة إنما جعل للمؤمنين الذين عملوا الصالحات...
{أن لهم أجرا كبيرا} سماه كبيرا لكبير خطره عند الله... أو سماه كبيرا لأنه أكبر ما يقصد إليه ويرغب فيه وهو ثواب الجنة...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
... يحتمل أن يكون المراد يهدي الجميع سبل الدين، التي هي أصوب من غيرها: من توحيد الله، وعدله، وصدق أنبيائه، والعمل بشريعته، وفعل طاعاته، وتجنب معاصيه.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
القرآنُ يدل على الحقِّ والصواب.
و {أَقْوَمُ}: هنا بمعنى المستقيم الصحيح كأكبر بمعنى الكبير؛ فالقرآن يدل على الحق والصواب، والقرآنُ نورٌ؛ مَنْ استضاء به خَلَصَ من ظُلُماتِ جَهْلِه، وخرج من غمار شَكِّه. ومَنْ رَمَدَتُ عيونُ نظرِه التبس رُشْدُه.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{لِلَّتِي هِي أَقْوَمُ} للحالة التي هي أقوم الحالات وأسدّها. أو للملة. أو للطريقة. وأينما قدرت لم تجد مع الإثبات ذوق البلاغة الذي تجده مع الحذف، لما في إبهام الموصوف بحذفه من فخامة تفقد مع إيضاحه ...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{إن هذا القرآن} الآية، {يهدي} في هذه الآية بمعنى يرشد، ويتوجه فيها أن تكون بمعنى يدعو، و {التي} يريد بها الحالة والطريقة، وقالت فرقة، {للتي هي أقوم} لا إله إلا الله. والأول أعم وكلمة الإخلاص وغيرها من الأقوال داخلة في الحال «التي هي أقوم» من كل حال تجعل بإزائها، والاقتصار على {أقوم} ولم يذكر من كذا إيجاز، والمعنى مفهوم، أي {للتي هي أقوم} من كل ما غايرها فهي النهاية في القوام. وقيد المؤمنين بعمل الصالحات إذ هو كمال الإيمان وإن لم يكن في نفسه، والمؤمن المفرط في العمل له بإيمانه حظ في عمل الصالحات: و «الأجر الكبير» الجنة، وكذلك حيث وقع في كتاب الله فضل كبير وأجر كبير فهو الجنة، وقوله {أن} الأولى في موضع نصب ب {يبشر}، و {أن} الثانية عطف على الأولى، وهي داخلة في جملة بشارة المؤمنين، بشرهم القرآن بالجنة، وأن الكفار لهم عذاب أليم، وذلك أن علم المؤمنين بهذا مسرة لهم، وفي هذه البشارة وعيد للكفار بالمعنى...
... أما قوله: {ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا كبيرا} فاعلم أنه تعالى وصف القرآن بثلاثة أنواع من الصفات:
الصفة الأولى: أنه يهدي للتي هي أقوم.
والصفة الثانية: أنه يبشر الذين يعملون الصالحات بالأجر الكبير، وذلك لأن الصفة الأولى لما دلت على كون القرآن هاديا إلى الاعتقاد الأصوب والعمل الأصلح، وجب أن يظهر لهذا الصواب والصلاح أثر، وذلك هو الأجر الكبير لأن الطريق الأقوم لا بد وأن يفيد الربح الأكبر والنفع الأعظم...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما ثبت أن كتاب موسى عليه السلام الذي أنزل عليه فيما بين مصر وبيت المقدس في تلك المدة المتطاولة هو هدى لبني إسرائيل كأنه قال: قد علم أن كتاب موسى عليه السلام الذي أنزل في مسيرة لقصد محل المسجد الأقصى قيم في الهداية والوعود الصادقة، فما حال كتاب محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم الذي أنزل عليه منه في سبب مسيره إليه في ذلك؟ {إن هذا القرءان} أي الجامع لكل حق والفارق بين كل ملتبس {يهدي}. ولما كان صاحب الذوق السليم يجد لحذف الموصوف هزة وروعة، لما يجد من الفخامة بإبهامه لا يجدها عند ذكره وإيضاحه قال {للتي} أي للطرائق والأحوال والسنن التي {هي أقوم} من كل طريقة وسنة وحال دعا إليها كتاب من الكتب السماوية، أما في الصورة فباعتبار ما علا به من البيان، وأما في الوعود فباعتبار العموم لجميع الخلق في الدارين، وأما في الأصول فبتصريف الأمثال وتقريب الوسائل، وحسم مواد الشبه وإيضاح وجوه الدلائل، وأما الفروع فباعتبار الأحسنية تارة في السهولة والخفة، وتارة في غير ذلك -كما هو واضح عند من تأمل ما بين الأمرين. ولما انقسم الناس إلى مهتد به وضال، أتبع سبحانه ذلك بيانه، وكان التعبير عن حالهما بالبشرى في قوله تعالى: {ويبشر المؤمنين} أي الراسخين في هذا الوصف، ولهذا قيدهم بياناً لهم بقوله تعالى: {الذين} يصدقون إيمانهم بأنهم {يعملون} أي على سبيل التجديد والاستمرار والبناء على العلم {الصالحات} من التقوى والإحسان {أن لهم} أي جزاء لهم في ظاهرهم وبواطنهم {أجراً كبيراً} إشارة إلى صلاح هذه الأمة وثباتهم على دينهم وأنه لا يزال أمرهم ظاهراً كما كان إنذار كتاب موسى عليه السلام قومه إشارة إلى إفسادهم وتبديلهم دينهم.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
يخبر تعالى عن شرف القرآن وجلالته وأنه {يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} أي: أعدل وأعلى من العقائد والأعمال والأخلاق، فمن اهتدى بما يدعو إليه القرآن كان أكمل الناس وأقومهم وأهداهم في جميع أموره... {وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ} من الواجبات والسنن، {أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا} أعده الله لهم في دار كرامته لا يعلم وصفه إلا هو...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم).. هكذا على وجه الإطلاق فيمن يهديهم وفيما يهديهم، فيشمل الهدى أقواما وأجيالا بلا حدود من زمان أو مكان؛ ويشمل ما يهديهم إليه كل منهج وكل طريق، وكل خير يهتدي إليه البشر في كل زمان ومكان... يهدي للتي هي أقوم في عالم الضمير والشعور، بالعقيدة الواضحة البسيطة التي لا تعقيد فيها ولا غموض، والتي تطلق الروح من أثقال الوهم والخرافة، وتطلق الطاقات البشرية الصالحة للعمل والبناء، وتربط بين نواميس الكون الطبيعية ونواميس الفطرة البشرية في تناسق واتساق. ويهدي للتي هي أقوم في التنسيق بين ظاهر الإنسان وباطنه، وبين مشاعره وسلوكه، وبين عقيدته وعمله، فإذا هي كلها مشدودة إلى العروة الوثقى التي لا تنفصم، متطلعة إلى أعلى وهي مستقرة على الأرض، وإذا العمل عبادة متى توجه الإنسان به إلى الله، ولو كان هذا العمل متاعا واستمتاعا بالحياة. ويهدي للتي هي أقوم في عالم العبادة بالموازنة بين التكاليف والطاقة، فلا تشق التكاليف على النفس حتى تمل وتيأس من الوفاء. ولا تسهل وتترخص حتى تشبع في النفس الرخاوة والاستهتار. ولا تتجاوز القصد والاعتدال وحدود الاحتمال. ويهدي للتي هي أقوم في علاقات الناس بعضهم ببعض: أفرادا وأزواجا، وحكومات وشعوبا، ودولا وأجناسا، ويقيم هذه العلاقات على الأسس الوطيدة الثابتة التي لا تتأثر بالرأي والهوى، ولا تميل مع المودة والشنآن؛ ولا تصرفها المصالح والأغراض. الأسس التي أقامها العليم الخبير لخلقه، وهو أعلم بمن خلق، وأعرف بما يصلح لهم في كل أرض وفي كل جيل، فيهديهم للتي هي أقوم في نظام الحكم ونظام المال ونظام الاجتماع ونظام التعامل الدولي اللائق بعالم الإنسان. ويهدي للتي هي أقوم في تبني الديانات السماوية جميعها والربط بينها كلها، وتعظيم مقدساتها وصيانة حرماتها فإذا البشرية كلها بجميع عقائدها السماوية في سلام ووئام...
(إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم).. (ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا كبيرا، وأن الذين لا يؤمنون بالآخرة أعتدنا لهم عذابا أليما) فهذه هي قاعدته الأصيلة في العمل والجزاء. فعلى الإيمان والعمل الصالح يقيم بناءه. فلا إيمان بلا عمل، ولا عمل بلا إيمان. الأول مبتور لم يبلغ تمامه، والثاني مقطوع لا ركيزة له. وبهما معا تسير الحياة على التي هي أقوم.. وبهما معا تتحقق الهداية بهذا القرآن...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وتأكيد الجملة مراعى فيه حال بعض المخاطبين وهم الذين لم يذعنوا إليه، وحالُ المؤمنين من الاهتمام بهذا الخبر، فالتوكيد مستعمل في معنييه دفع الإنكار والاهتمام، ولا تعارض بين الاعتبارين... وقوله: {هذا القرآن} إشارة إلى الحاضر في أذهان الناس من المقدار المنزل من القرآن قبل هذه الآية. وبُينت الإشارة بالاسم الواقع بعدها تنويهاً بشأن القرآن... وقد جاءت هذه الآية تنفيساً على المؤمنين من أثر القصص المهولة التي قصت عن بني إسرائيل وما حل بهم من البلاء مما يثير في نفوس المسلمين الخشية من أن يصيبهم مثل ما أصاب أولئك، فأخبروا بأن في القرآن ما يعصمهم عن الوقوع فيما وقع فيه بنو إسرائيل إذ هو يهدي للطريق التي هي أقوم مما سلكه بنو إسرائيل، ولذلك ذكر مع الهداية بشارة المؤمنين الذين يعملون الصالحات، ونذارة الذين لا يؤمنون بالآخرة... و {التي هي أقوم} صفة لمحذوف دل عليه {يهدي}، أي للطريق التي هي أقوم، لأن الهداية من ملازمات السير والطريق، أو للملة الأقوم، وفي حذف الموصوف من الإيجاز من جهة ومن التفخيم من جهة أخرى ما رجح الحذف على الذكر... والأقوم: تفضيل القويم. والمعنى: أنه يهدي للتي هي أقوم من هُدى كتاب بني إسرائيل الذي في قوله: {وجعلناه هدى لبني إسرائيل} [الإسراء: 2]. ففيه إيماء إلى ضمان سلامة أمة القرآن من الحيدة عن الطريق الأقوم... والأجر الكبير فُسر بالجنة، والعذابُ الأليم بجهنم، والأظهر أن يحمل على عموم الأجر والعذاب، فيشمل أجر الدنيا وعذابها، وهو المناسب لما تقدم من سعادة عيش بني إسرائيل وشقائه، فجعل اختلاف الحالين فيهما موعظة لحالي المسلمين والمشركين...
أضواء البيان في تفسير القرآن بالقرآن للشنقيطي 1393 هـ :
وهذه الآية الكريمة أجمل الله جلَّ وعلا فيها جميع ما في القرآن من الهدى إلى خير الطرق وأعدلها وأصوبها، فلو تتبعنا تفصيلها على وجه الكمال لأتينا على جميع القرآن العظيم؛ لشمولها لجميع ما فيه من الهدى إلى خيري الدنيا والآخرة...
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
{إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم} أي يهدي للعقيدة التي هي أقوم، والشريعة التي هي أقوم، والحياة التي هي أقوم.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ} فيؤدون لله حقه من خلال ما ألهمهم من الإيمان به وبتوحيده كحقيقةٍ تفرض نفسها على الفكر والوجدان والشعور، فيقومون بالعبادات التي فرضها عليهم لتعميق الجانب الروحي في ذواتهم، وللإيحاء الدائم بالحضور الإلهي في حركة الحياة من حولهم؛ يجسدون هذا الإيمان واقعاً حياً في كلماتهم وعلاقاتهم ومعاملاتهم ومشاريعهم العملية... وبذلك يكونون مخلصين لله من خلال انفتاحهم عليه والتزامهم بأوامره ونواهيه، ولأنفسهم بتوجيهها إلى ما يحقق لها سعادة الدنيا والآخرة، وللناس وللحياة وذلك بالتزامهم الضوابط والحدود وبذلهم الطاقات وتفجيرهم ينابيع الخير وتحريكهم مواقع الحق والعدالة والإيمان...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
أقصر الطرق للهداية والسعادة: الآيات السابقة تحدثَّت عن بني إِسرائيل وكتابهم السماوي «التوراة» وكيف تخلفوا عن برنامج الهداية الإِلهية ليلقوا بعض جزائهم في هذه الحياة الدنيا، والباقي مدخرٌ ليوم القيامة. وفي هذا المقطع مِن الآيات، انتقل الحديث إلى القرآن الكريم، الكتاب السماوي للمسلمين، وآخر حلقة في الكتب السماوية، فقال تعالى أوّلاً: (إِنّ هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم).
وبما أنّ «أقوم» هي «أفعل تفضيل» بمعنى الأكثر ثباتاً واستقامةً واعتدالا، فإِنَّ معنى الآية أعلاه، هو أنَّ القرآن الكريم يمثل أقصر وأفضل طرق الاستقامة والثبات والهداية وبهذا فإنّ الطريق القويم... وإِزاء المفهوم الذي تطرحهُ هذه النقطة نرى أنفسنا بحاجة إلى إِثارة الحديث على النحو الآتي. أوّلاً: إِذ كانت أطراف المقايسة هي الأديان السماوية الأخرى، فلا شك أنَّ كل دين وشريعة منها كانت أفضل وأقوم لوقتها وزمانها، ولكن وفق قانون التكامل الذي وِصلت البشرية بُمقتضاه إلى أقصى حالات رشدها وتكاملها، في زمن الرسالة الإِسلامية الخاتمة والنّبوة الخاتمة، فإِنَّ القرآن الكريم يعبِّر تبعاً لذلك عن أرقى وأقوم مضامين الهداية والاستقامة والاعتدال. ثانياً: أمّا إِذا كانَ طرف المقايسة هو المذاهب والعقائد الوضعية، فمن الطبيعي جدّاً أن يكون القرآن كتاب السماء الواصل إِلينا مِن اللّه ذي العلم المطلق، هو الأقوم والأظهر عليها، لأنَّ العقائد الوضعية مهما بلغت مزاياها فهي نتاج الفهم المحدود للبشر. ثالثاً: أشرنا في غير مكان إلى أن «أفعل تفضيل» لا يدلُّ دائماً على أنَّ الموضوع لابدّ وأن يكون طرفاً للمقايسة، كما في قوله تعالى: (أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أم من لا يهدي إِلاّ أن يُهدى)...