مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{إِنَّ هَٰذَا ٱلۡقُرۡءَانَ يَهۡدِي لِلَّتِي هِيَ أَقۡوَمُ وَيُبَشِّرُ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ ٱلَّذِينَ يَعۡمَلُونَ ٱلصَّـٰلِحَٰتِ أَنَّ لَهُمۡ أَجۡرٗا كَبِيرٗا} (9)

قوله تعالى { إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا كبيرا وأن الذين لا يؤمنون بالآخرة اعتدنا لهم عذابا أليما } .

اعلم أنه تعالى لما شرح ما فعله في حق عباده المخلصين وهو الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإيتاء الكتاب لموسى عليه الصلاة والسلام ، وما فعله في حق العصاة والمتمردين وهو تسليط أنواع البلاء عليهم ، كان ذلك تنبيها على أن طاعة الله توجب كل خير وكرامة ومعصيته توجب كل بلية وغرامة ، لا جرم أثنى على القرآن فقال : { إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم } .

واعلم أن قوله تعالى : { دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا } يدل على كون هذا الدين مستقيما ، وقوله في هذه الآية : { للتي هي أقوم } يدل على أن هذا الدين أقوم من سائر الأديان . وأقول : قولنا هذا الشيء أقوم من ذاك ، إنما يصح في شيئين يشتركان في معنى الاستقامة ، ثم كان حصول معنى الاستقامة في إحدى الصورتين أكثر وأكمل من حصوله في الصورة الثانية ، وهذا محال لأن المراد من كونه مستقيما كونه حقا وصدقا ، ودخول التفاوت في كون الشيء حقا وصدقا محال ، فكان وصفه بأنه أقوم مجازا ، إلا أن لفظ الأفعل قد جاء بمعنى الفاعل كقولنا : الله أكبر أي الله كبير ، وقولنا : الأشج والناقص أعدلا بني مروان ، أي : عادلا بني مروان ، أو يحمل هذا اللفظ على الظاهر المتعارف ، والله أعلم .

البحث الثاني : قوله : { للتي هي أقوم } نعت لموصوف محذوف ، والتقدير : يهدي للملة أو الشريعة أو الطريقة التي هي أقوم الملل والشرائع والطرق ، ومثل هذه الكناية كثيرة الاستعمال في القرآن كقوله : { ادفع بالتي هي أحسن } أي بالخصلة التي هي أحسن .

أما قوله : { ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا كبيرا } فاعلم أنه تعالى وصف القرآن بثلاثة أنواع من الصفات :

الصفة الأولى : أنه يهدي للتي هي أقوم ، وقد مر تفسيره .

والصفة الثانية : أنه يبشر الذين يعملون الصالحات بالأجر الكبير ، وذلك لأن الصفة الأولى لما دلت على كون القرآن هاديا إلى الاعتقاد الأصوب والعمل الأصلح ، وجب أن يظهر لهذا الصواب والصلاح أثر ، وذلك هو الأجر الكبير لأن الطريق الأقوم لا بد وأن يفيد الربح الأكبر والنفع الأعظم .