قوله تعالى : { بل فعله كبيرهم هذا } غضب من أن يعبد معه هذه الصغار وهو أكبر منها فكسرهن ، وأراد بذلك إبراهيم إقامة الحجة عليهم ، فذلك قوله : { فاسألوهم إن كانوا ينطقون } حتى يخبروا من فعل ذلك بهم . قال القتيبي : معناه بل فعله كبيرهم إن كانوا ينطقون على سبيل الشرط ، فجعل النطق شرطاً للفعل ، أي : إن قدروا على النطق قدروا على الفعل ، فأراهم عجزهم عن النطق ، وفي ضميره أنا فعلت ، . وروي عن الكسائي أنه كان يقف عند قوله { بل فعله } ويقول : معناه فعله من فعله والأول أصح لما روي عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات ، اثنتان منهن في ذات الله ، قوله : { إني سقيم } وقوله : { بل فعله كبيرهم } ، وقوله لسارة :هذه أختي . وقيل في قوله : { إني سقيم } أي : سأسقم ، وقيل : سقم القلب أي مغتم بضلالتكم ، وقوله لسارة : هذه أختي أي في الدين ، وهذه التأويلات لنفي الكذب عن إبراهيم ، والأول : هو الأولى للحديث فيه ، ويجوز أن يكون الله عز وجل أذن له في ذلك لقصد الصلاح وتوبيخهم والاحتجاج عليهم ، كما أذن ليوسف حتى أمر مناديه فقال لإخوته : { أيتها العير إنكم لسارقون } ولم يكونوا سرقوا .
فقال إبراهيم والناس شاهدون : { بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا ْ } أي : كسرها غضبا عليها ، لما عبدت معه ، وأراد أن تكون العبادة منكم لصنمكم الكبير وحده ، وهذا الكلام من إبراهيم ، المقصد منه إلزام الخصم وإقامة الحجة عليه ، ولهذا قال : { فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ ْ } وأراد الأصنام المكسرة اسألوها لم كسرت ؟ والصنم الذي لم يكسر ، اسألوه لأي شيء كسرها ، إن كان عندهم نطق ، فسيجيبونكم إلى ذلك ، وأنا وأنتم ، وكل أحد يدري أنها لا تنطق ولا تتكلم ، ولا تنفع ولا تضر ، بل ولا تنصر نفسها ممن يريدها بأذى .
وهنا يرد عليهم إبراهيم - عليه السلام - بتهكم ظاهر ، واستهزاء واضح فيقول : { بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا } يعنى الذى تركه بدون تحطيم ، فإن كنتم لم تصدقوا قولى { فَاسْأَلُوهُمْ } عمن فعل بهم ذلك { إِن كَانُواْ يِنْطِقُونَ } أى : إن كانوا ممن يتمكن من النطق أجابوكم وأخبروكم عمن فعل بهم ما فعل .
فأنت ترى أن إبراهيم - عليه السلام - لم يقصد بقوله هذا الإخبار بأن كبير الأصنام هو الذى حطمها ، أو سؤالهم للأصنام عمن حطمها ، وإنما الذى يقصده هو الاستهزاء بهم ، والسخرية بأفكارهم ، فكأنه يقول لهم : إن هذه التماثيل التى تعبدونها من دون الله . لا تدرى إن كنت أنا الذى حطمتها أم هذا الصنم الكبير ، وأنتم تعرفون أنى قد بقيت قريبا منها بعد أن وليتم عنها مدبرين ، وإذا كان الأمر كذلك فانظروا من الذى حطمها إن كانت لكم عقول تعقل ؟
قال صاحب الكشاف : هذا - أى قول إبراهيم لهم : بل فعله كبيرهم هذا - من معاريض الكلام ، ولطائف هذا النوع لا يتغلغل فيها إلا أذهان الخاصة من علماء المعانى .
والقول فيه أن قصد إبراهيم - عليه السلام - لم يكن إلى أن ينسب الفعل الصادر عنه إلى الصنم ، وإنما قصد تقريره لنفسه ، وإثباته لها على أسلوب تعريضى ، يبلغ فيه غرضه من إلزامهم الحجة وتبكيتهم .
وهذا كما لو قال لك صاحبك ، وقد كتبت كتابا بخط رشيق - وأنت شهير بحسن الخط - : أأنت كتبت هذا ؟ وصاحبك أمى لا يحسن الخط ، ولا يقدر إلى على خربشة فاسدة - أى كتابة رديئة - فقلت له : بل كتبته أنت ، كان قصدك بهذا الجواب ، تقرير أن هذه الكتابة لك . مع الاستهزاء به . . .
وهذا التفسير للآية الكريمة من أن إبراهيم - عليه السلام - قد قال لقومه ما قال من سبيل الاستهزاء بهم ، هو الذى تطمئن إليه قلوبنا ، وقد تركنا أقوالا أخرى للمفسرين فى معنى الآية ، نظرا لضعف هذه الأقوال بالنسبة لهذا القول .
فأما إبراهيم فهو يتهكم بهم ويسخر منهم ، وهو فرد وحده وهم كثير . ذلك أنه ينظر بعقله المفتوح وقلبه الواصل فلا يملك إلا أن يهزأ بهم ويسخر ، وأن يجيبهم إجابة تناسب هذا المستوى العقلي الدون :
( قال : بل فعله كبيرهم هذا . فاسألوهم إن كانوا ينطقون ) . .
والتهكم واضح في هذا الجواب الساخر . فلا داعي لتسمية هذه كذبة من إبراهيم - عليه السلام - والبحث عن تعليلها بشتى العلل التي اختلف عليها المفسرون . فالأمر أيسر من هذا بكثير ! إنما أراد أن يقول لهم : إن هذه التماثيل لا تدري من حطمها إن كنت أنا أم هذا الصنم الكبير الذي لا يملك مثلها حراكا . فهي جماد لا إدراك له أصلا . وأنتم كذلك مثلها مسلوبو الإدراك لا تميزون بين الجائز والمستحيل . فلا تعرفون إن كنت أنا الذي حطمتها أم إن هذا التمثال هو الذي حطمها ! ( فاسألوهم إن كانوا ينطقون ) !
قوله : { بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا } وقوله { إِنِّي سَقِيمٌ } قال : " وبينا هو يسير في أرض جبار من الجبابرة ومعه سارة ، إذ نزل منزلا فأتى الجبار رجل ، فقال : إنه قد نزل بأرضك رجل معه امرأة أحسن الناس ، فأرسل إليه فجاء ، فقال : ما هذه المرأة منك ؟ قال : هي أختي . قال : فاذهب فأرسل بها إليّ ، فانطلق إلى سارة فقال : إن هذا الجبار{[19677]} سألني عنك فأخبرته أنك أختي فلا تكذبيني عنده ، فإنك أختي في كتاب الله ، وأنه ليس في الأرض مسلم غيري وغيرك ، فانطلق بها إبراهيم ثم قام يصلي . فلما أن دخلت عليه فرآها أهوى إليها ، فتناولها ، فأخذ أخذًا شديدًا ، فقال : ادعي الله لي ولا أضرك ، فدعت له فأرسل ، فأهوى إليها ، فتناولها فأخذ بمثلها أو أشد . ففعل ذلك الثالثة فأخذ ، [ فذكر ]{[19678]} مثل المرتين الأوليين{[19679]} فقال ادعي الله فلا أضرك . فدعت ، له فأرسل ، ثم دعا أدنى حجابه ، فقال : إنك لم تأتني بإنسان ، وإنما{[19680]} أتيتني بشيطان ، أخرجها وأعطها هاجر ، فأخرجت وأعطيت هاجر ، فأقبلت ، فلما أحس إبراهيم بمجيئها انفتل من صلاته ، قال{[19681]} : مَهْيَم ؟ قالت : كفى الله كيد الكافر الفاجر ، وأخدمني هاجر " قال محمد بن سيرين{[19682]} وكان{[19683]} : أبو هريرة إذا حدث بهذا الحديث قال : فتلك أمكم يا بني ماء السماء{[19684]}
{ قال بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون } أسند الفعل إليه تجوزا لأن غيظه لما رأى من زيادة تعظيمهم له تسبب لمباشرته إياه ، أو تقريرا لنفسه مع الاستهزاء والتبكيت على أسلوب تعريضي كما لو قال لك من لا يحسن الخط فيما كتبته بخط رشيق : أأنت كتبت هذا فقلت بل كتبته أنت ، أو حكاية لما يلزم من مذهبهم جوازه ، وقيل إنه في المعنى متعلق بقوله { إن كانوا ينطقون } وما بينهما اعتراض أو ضمير { فتى } أو { إبراهيم } ، وقوله { كبيرهم هذا } مبتدأ وخبر ولذلك وقف على فعله . وما روي أنه عليه الصلاة والسلام قال " لإبراهيم ثلاث كذبات " تسمية للمعاريض كذبا لما شابهت صورتها صورته .