اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{قَالَ بَلۡ فَعَلَهُۥ كَبِيرُهُمۡ هَٰذَا فَسۡـَٔلُوهُمۡ إِن كَانُواْ يَنطِقُونَ} (63)

قوله :

{ بَلْ فَعَلَهُ } هذا الإضراب عن جملة محذوفة تقديره : لم أفعله إنما الفاعل حقيقة الله تعالى ، وإسناد الفعل إلى «كَبِيرُهُمْ » من أبلغ التعاريض{[28839]} .

قوله{[28840]} : { هَذَا } فيه ستة أوجه :

أحدها : أن يكونَ نعتاً ل «كَبِيرُهُمْ » .

الثاني : أن يكون بدلاً من «كَبِيرُهُمْ » .

الثالث : أن يكون خبراً ل«كَبِيرُهُمْ » على أنَّ الكلام يتم عند قوله { بَلْ فَعَلَهُ } وفاعل الفعل محذوف . كذا نقله أبو البقاء ، وقال : وهذا بعيد ، لأنَّ حذف الفاعل لا يسوغ{[28841]} . قال شهاب الدين : وهذا القول يعزى للكسائي{[28842]} ، وحينئذ لا يحسن الرد عليه بحذف الفاعل فإنه يجيز ذلك ، ويلزمه ، ويجعل التقدير : بل فعله من فعله ويجوز أن يكون أراد بالحذف الإضمار ، لأنه لمّا لم يذكر الفاعل لفظاً سمى ذلك حذفاً{[28843]} .

الرابع : أن يكونَ الفاعل ضمير «فَتًى »{[28844]} .

الخامس : أني كون الفاعل ضمير «إبْرَاهِيم »{[28845]} .

وهذان الوجهان يؤيدان أنَّ المراد بحذف الفاعل إنَّمَا هو الإضمار .

السادس : أن «فَعَلَهُ » ليس فعلاً ، بل الفاء حرف عطف دخلت على «عَلَّ »{[28846]} التي أصلها «لَعَلَّ » حرف ترج وحذف اللام الأولى ثابت{[28847]} ، فصار اللفظ «فَعَلَّهُ » أي : فَلعلّه ، ثم حذف اللام الأولى وخففت الثانية . وهذا يعزى للفراء{[28848]} وهو مرغوب عنه . وقد استدل على مذهبه بقراءة ابن السميفع «فَعَلَّهُ » بتشديد اللام{[28849]} ، وهي قراءة شاذة لا يرجع بالقراءة المشهورة إليها ، وكأن الذي حملهم على هذا خفاء وجه صدور هذا الكلام من النبي -عليه السلام{[28850]} .

فصل{[28851]}

اعلم أن القوم لمّا قالوا له { أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنَا يا إبراهيم } طلبوا منه الاعتراف بذلك ، ليقدموا على إيذائه ، فقلب الأمر عليهم وقال : { بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا } ، وكان قد علق الفأس في رقبته{[28852]} ، وأراد بذلك إقامة الحجة عليهم وإظهار جهلهم في عبادة الأوثان ، وقال : { فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُواْ يِنْطِقُونَ } واعلم أنّ للناس هاهنا قولان :

الأول : قول كافة المحققين ، وهو أنّ قول إبراهيم -عليه السلام{[28853]}- { بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا } من قبيل التعريض ، وهو من وجوه :

أحدها : أنًّ قصد إبراهيم -عليه السلام- تقرير الفعل لنفسه على أسلوب تعريضيّ{[28854]} ، وليس قصده نسبة الفعل إلى الصنم ، وهذا كما لو قال صاحبك وقد كتبت كتاباً بخط رشيق ، وأنت شهير بحسن الخط ، ولا يقدر هو إلا على خرمشة{[28855]} فاسدة : أأنت كتبت هذا ، فقلت له : بل كتبته أنت ، وكأن قصدك بهذا تقريره لك مع الاستهزاء لا نفيه عنك وإثباته للأمي أو المخرمش ، لأن إثباته والأمر دائر بينهما للعاجز منهما استهزاء وإثبات للقادر .

وثانيها : أنَّ إبراهيم -عليه السلام-{[28856]} غاظته تلك الأصنام حين أبصرها مصطفة ، وكان غيظه من كبيرها أشد لما رأى من زيادة تعظيمهم له ، فأسند الفعل إليه لأنه هو السبب في استهانته لها وحطمه لها{[28857]} ، والفعل كما يسند إلى مباشره يسند إلى الحامل عليه .

وثالثها : أن يكون حكاية لما يلزم عن مذهبهم كأنه قال لهم : ما تنكرون أن يفعله كبيرهم ، فإنَّ حق من يُعْبَد ، ويُدْعَى إلهاً أن يقدر على هذا أو أشد منه ذكر هذه الأوجه الثلاثة الزمخشري{[28858]} .

ورابعها : ما تقدم عن الكسائي أنه كان يقف عند قوله «كَبِيرُهُمْ » ثم يبتدئ فيقول : { هذا فَاسْأَلُوهُمْ } . والمعنى : بل فعله كبيرهم ، وعنى نفسه ، لأنّ الإنسان أكبر من كل صنم ، وأنه كناية عن غير مذكور ، أي : فعله من فعله و «كَبِيرهُمْ » ابتداء كلام .

وخامسها : قال الطِّيبي{[28859]} معناه على التقديم والتأخير ، أي بل فعله كبيرهم إن كانوا ينطقون فاسألوهم ، فجعل النطق شرطاً للفعل إن قدروا على النطق قدروا على الفعل فأراهم عجزهم ، وفي ضمنه أنا فعلت ذلك .

وسادسها : قراءة ابن السميفع المتقدمة{[28860]} .

والقول الثاني : قال البغوي : والأصح أن إبراهيم -عليه السلام{[28861]}- أراد بذلك الفعل إقامة الحجة عليهم فذلك قوله : { هذا فَاسْأَلُوهُمْ إنْ كانوا ينطقون } حتى يخبروا من فعل ذلك بهم ، لما روى أبو هريرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : لَمْ يَكْذِبْ إبْرَاهِيمُ{[28862]} إلا ثلاث كذبات ثنتان منهن في ذات الله ، قوله{[28863]} : «إنِّي سَقِيمٌ »{[28864]} ، وقوله : { بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا } ، وقوله لسارة : «هذه أختي »{[28865]} وفي حديث الشفاعة قول إبراهيم -عليه السلام-{[28866]} «إنِّي كَذَبْتُ ثَلاَثَ كَذِبَاتٍ »{[28867]} والقائلون بهذا القول قدروه من جهة العقل وقالوا : الكذب ليس قبيحاً لذاته فإنَّ النبي إذا هرب{[28868]} من ظالم واختفى في دار إنسان فجاء الظالم وسأل عنه ، فإنه يجب الكذب فيه ، وإذا كان كذلك ، فأي بُعْد في أن يأذن الله في ذلك{[28869]} لمصلحة لا يعلمها إلا هو كما أذن ليوسف -عليه السلام{[28870]}- حين أمر مناديه لإخوته : { أَيَّتُهَا العير إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ }{[28871]} ولم يكونوا سرقوا{[28872]} .

قال ابن الخطيب : وهذا القول مرغوب عنه أما الخبر فلأن يضاف الكذب إلى رواته{[28873]} أولى من أن يضاف إلى الأنبياء ، والدليل القاطع عليه أنه لو جاز أن يكذبوا لمصلحة ويأذن الله تعالى فيه فلنجر هذا الاحتمال في كل ما أخبروا عنه ، وفي كل ما أخبر الله عنه ، وذلك يبطل الوثوق بالشرائع ، وتطرق التهمة{[28874]} إلى كلها ، ثم لو صح ذلك الخبر فهو محمول على المعاريض على ما قاله عليه السلام{[28875]}«إنَّ في المَعَارِيضِ لمندوحةً عن الكَذِبِ »{[28876]} .

فأمّا قوله : «إني سَقِيمٌ » فلعله سقيم القلب كما يجيء في موضعه{[28877]} .

وأمّا قوله : { بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ } فقد ظهر الجواب عنه{[28878]} . وأما قوله لسارة : هذه أختي ، أي{[28879]} : في الدين{[28880]} . وأما قصة يوسف -عليه السلام{[28881]}- فتقدم الكلام عليها{[28882]} .

قوله : { إِن كَانُواْ يِنْطِقُونَ } جوابه محذوف لدلالة ما قبله ، ومن جوَّز التقديم جعل { فَاسْألُوهُمْ } هو الجواب{[28883]} .


[28839]:انظر البحر المحيط 6/324. التعريض أن تذكر شيئا تدل به على شيء لم تذكره كما يقول المحتاج للمحتاج إليه: جئتك لأسلم عليك ولأنظر إلى وجهك الكريم، ولذلك قالوا: وحسبك بالتسليم مني تقاضيا. وكأنه إمالة الكلام إلى عرض يدل الغرض ويسمى التلويح، لأنه يلوح منه ما يريده. الكشاف 1/143.
[28840]:في الأصل: فصل. وهو تحريف.
[28841]:التبيان 2/921.
[28842]:قد ذكرت في سورة [طه: 128] عند بيان الأوجه في فاعل "يهد" من قوله تعالى : {أفلم يهد لهم كم أهلكنا قبلهم من القرون} رأي الكسائي وما استدل به، وما يستثنى من عدم جواز حذف الفاعل.
[28843]:الدر المصون 5/53.
[28844]:انظر البحر المحيط 6/325.
[28845]:المرجع السابق.
[28846]:في ب: على.
[28847]:وذلك أن (لعل) فيها لغات وهي "لعل" بسيطة ولامها أصل، وقيل: مركبة من "عل" واللام زائدة، وقيل من لام الابتداء، و"عل" بحذف اللام، ولعنّ بإبدال اللام نونا، و(عنّ) بحذف اللام من هذه، و"رعن" بإبدال اللام راء، و"رغنّ" ولغنّ بالغين المعجمة فيهما بدلا من المهملة و (رعلّ) بالمهملة، و(لوان). ونقل البعض زيادة (عل وأل) بفتح اللام في هذين، فإن أراد فتح اللام مشددة لزمه التكرار لتقدم علّ المشددة اللام، وإن أراد فتحها مخففة، فلعل لا يجوز تخفيفها على اختلاف لغاتها، وقال الفارسي: تخفف وتعمل في ضمير الشأن محذوفا. انظر الهمع 1/134، وشرح الأشموني وحاشية الصبان 1/271-294.
[28848]:قال الفراء: (قال بعض الناس: (بل فعلَّه كبيرهم) مشددة يريد: فلعله كبيرهم) معاني القرآن 2/206-207.
[28849]:المختصر (92)، والقرطبي 11/300، البحر المحيط 6/325.
[28850]:في ب: عليه الصلاة والسلام. وانظر البحر المحيط 6/325.
[28851]:هذا الفصل نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ببعض من التصرف 22/185.
[28852]:في ب: زقبته. وهو تصحيف.
[28853]:في ب: عليه الصلاة والسلام.
[28854]:في ب: عليه الصلاة والسلام.
[28855]:الخرمشة: إفساد الكتاب والعمل، اللسان (خرمش).
[28856]:في ب: عليه الصلاة والسلام.
[28857]:في الأصل: وحكمه لهما. وهو تحريف.
[28858]:انظر الكشاف 3/15.
[28859]:في الأصل: القسي، وفي ب: الليث. والصواب ما أثبته. وهو الحسن بن محمد بن عبد الله الطيبي – بكسر الطاء – الإمام المشهور العلامة في المعقول والعربية والمعاني والبيان. صنف شرح الكشاف، التفسير، التبيان في المعاني والبيان، شرحه، شرح المشكاة. مات سنة 540 هـ. بغية الوعاة 1/522-523.
[28860]:تقدم قريبا.
[28861]:في ب: عليه الصلاة والسلام.
[28862]:في ب: إبراهيم عليه الصلاة والسلام.
[28863]:في ب: وقوله.
[28864]:[الصافات: 89].
[28865]:أخرجه مسلم (فضائل) 4/1840، والترمذي (تفسير) 5/321، وأحمد 2/403.
[28866]:في ب: عليه الصلاة والسلام.
[28867]:أخرجه البخاري (نكاح) 3/240، الترمذي (قيامة) 4/623، (تفسير) 5/308، أحمد 1/281/ 295.
[28868]:في النسختين: "هزم".
[28869]:في ب: في ذلك لتوبيخهم والاحتجاج عليهم.
[28870]:في ب: عليه الصلاة والسلام.
[28871]:من قوله تعالى: {فلما جهّزهم بجهازهم جعل السقاية في رحل أخيه ثم أذّن مؤذن أيتها العير إنكم لسارقون} [يوسف: 70].
[28872]:البغوي 5/495-496.
[28873]:في الأصل: روايه.
[28874]:في ب: الفهم. وهو تحريف.
[28875]:في ب: عليه الصلاة والسلام.
[28876]:المعاريض: جمع معراض. من التعريض وهو خلاف التصريح من القول، يقال: عرفت ذاك في معراض كلامه. انظر النهاية في غريب الحديث 3/212، الفالق 2/419.
[28877]:[الصافات: 89].
[28878]:قريبا.
[28879]:أي: سقط من ب.
[28880]:الفخر الرازي 22/185-186.
[28881]:في ب: عليه الصلاة والسلام.
[28882]:في سورة يوسف. انظر اللباب 5/55.
[28883]:وذلك أنه يجوز حذف ما علم من جواب شرطه ماض نحو {وإن كان كبر عليك إعراضهم فإن استطعت أن تبتغي نفقا في الأرض أو سلما في السماء فتأتيهم} [الأنعام: 35]، والتقدير فافعل، ويجب حذف الجواب إن كان الدال عليه ما تقدم مما هو جواب في المعنى، ولا يصح جعله جوابا صناعة إما لكونه جملة اسمية مجردة من الفاء نحو أنت ظالم إن فعلت. وإما لكونه جملة منفية بلم مقرونة بالفاء نحو قوله: فلم ارقه أن ينج منها. وإما لكونه مضارعا مرفوعا لزوما نحو أقوم إن قمت. والجواب في ذلك كله محذوف لدلاله المتقدم عليه. وليس المتقدم بجواب عند جمهور البصريين، لأن أداة الشرط لها صدر الكلام فلا يتقدم عليها الجواب وذهب الكوفيون والمبرد وأبو زيد إلى أنه لا حذف والمتقدم هو الجواب. والصحيح مذهب البصريين. كذلك يحذف جواب الشرط إن كان الدال عليه ما تأخر من جواب قسم سابق عليه نحو قوله تعالى: {لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله} [الإسراء: 88]، فجملة "لا يأتون" جواب القسم السابق على الشرط، وجواب الشرط محذوف لدلالة جواب القسم عليه. انظر شرح التصريح 2/252- 253 شرح الأشموني 4/15،25.