{ بَلْ فَعَلَهُ } هذا الإضراب عن جملة محذوفة تقديره : لم أفعله إنما الفاعل حقيقة الله تعالى ، وإسناد الفعل إلى «كَبِيرُهُمْ » من أبلغ التعاريض{[28839]} .
قوله{[28840]} : { هَذَا } فيه ستة أوجه :
أحدها : أن يكونَ نعتاً ل «كَبِيرُهُمْ » .
الثاني : أن يكون بدلاً من «كَبِيرُهُمْ » .
الثالث : أن يكون خبراً ل«كَبِيرُهُمْ » على أنَّ الكلام يتم عند قوله { بَلْ فَعَلَهُ } وفاعل الفعل محذوف . كذا نقله أبو البقاء ، وقال : وهذا بعيد ، لأنَّ حذف الفاعل لا يسوغ{[28841]} . قال شهاب الدين : وهذا القول يعزى للكسائي{[28842]} ، وحينئذ لا يحسن الرد عليه بحذف الفاعل فإنه يجيز ذلك ، ويلزمه ، ويجعل التقدير : بل فعله من فعله ويجوز أن يكون أراد بالحذف الإضمار ، لأنه لمّا لم يذكر الفاعل لفظاً سمى ذلك حذفاً{[28843]} .
الرابع : أن يكونَ الفاعل ضمير «فَتًى »{[28844]} .
الخامس : أني كون الفاعل ضمير «إبْرَاهِيم »{[28845]} .
وهذان الوجهان يؤيدان أنَّ المراد بحذف الفاعل إنَّمَا هو الإضمار .
السادس : أن «فَعَلَهُ » ليس فعلاً ، بل الفاء حرف عطف دخلت على «عَلَّ »{[28846]} التي أصلها «لَعَلَّ » حرف ترج وحذف اللام الأولى ثابت{[28847]} ، فصار اللفظ «فَعَلَّهُ » أي : فَلعلّه ، ثم حذف اللام الأولى وخففت الثانية . وهذا يعزى للفراء{[28848]} وهو مرغوب عنه . وقد استدل على مذهبه بقراءة ابن السميفع «فَعَلَّهُ » بتشديد اللام{[28849]} ، وهي قراءة شاذة لا يرجع بالقراءة المشهورة إليها ، وكأن الذي حملهم على هذا خفاء وجه صدور هذا الكلام من النبي -عليه السلام{[28850]} .
فصل{[28851]}
اعلم أن القوم لمّا قالوا له { أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنَا يا إبراهيم } طلبوا منه الاعتراف بذلك ، ليقدموا على إيذائه ، فقلب الأمر عليهم وقال : { بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا } ، وكان قد علق الفأس في رقبته{[28852]} ، وأراد بذلك إقامة الحجة عليهم وإظهار جهلهم في عبادة الأوثان ، وقال : { فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُواْ يِنْطِقُونَ } واعلم أنّ للناس هاهنا قولان :
الأول : قول كافة المحققين ، وهو أنّ قول إبراهيم -عليه السلام{[28853]}- { بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا } من قبيل التعريض ، وهو من وجوه :
أحدها : أنًّ قصد إبراهيم -عليه السلام- تقرير الفعل لنفسه على أسلوب تعريضيّ{[28854]} ، وليس قصده نسبة الفعل إلى الصنم ، وهذا كما لو قال صاحبك وقد كتبت كتاباً بخط رشيق ، وأنت شهير بحسن الخط ، ولا يقدر هو إلا على خرمشة{[28855]} فاسدة : أأنت كتبت هذا ، فقلت له : بل كتبته أنت ، وكأن قصدك بهذا تقريره لك مع الاستهزاء لا نفيه عنك وإثباته للأمي أو المخرمش ، لأن إثباته والأمر دائر بينهما للعاجز منهما استهزاء وإثبات للقادر .
وثانيها : أنَّ إبراهيم -عليه السلام-{[28856]} غاظته تلك الأصنام حين أبصرها مصطفة ، وكان غيظه من كبيرها أشد لما رأى من زيادة تعظيمهم له ، فأسند الفعل إليه لأنه هو السبب في استهانته لها وحطمه لها{[28857]} ، والفعل كما يسند إلى مباشره يسند إلى الحامل عليه .
وثالثها : أن يكون حكاية لما يلزم عن مذهبهم كأنه قال لهم : ما تنكرون أن يفعله كبيرهم ، فإنَّ حق من يُعْبَد ، ويُدْعَى إلهاً أن يقدر على هذا أو أشد منه ذكر هذه الأوجه الثلاثة الزمخشري{[28858]} .
ورابعها : ما تقدم عن الكسائي أنه كان يقف عند قوله «كَبِيرُهُمْ » ثم يبتدئ فيقول : { هذا فَاسْأَلُوهُمْ } . والمعنى : بل فعله كبيرهم ، وعنى نفسه ، لأنّ الإنسان أكبر من كل صنم ، وأنه كناية عن غير مذكور ، أي : فعله من فعله و «كَبِيرهُمْ » ابتداء كلام .
وخامسها : قال الطِّيبي{[28859]} معناه على التقديم والتأخير ، أي بل فعله كبيرهم إن كانوا ينطقون فاسألوهم ، فجعل النطق شرطاً للفعل إن قدروا على النطق قدروا على الفعل فأراهم عجزهم ، وفي ضمنه أنا فعلت ذلك .
وسادسها : قراءة ابن السميفع المتقدمة{[28860]} .
والقول الثاني : قال البغوي : والأصح أن إبراهيم -عليه السلام{[28861]}- أراد بذلك الفعل إقامة الحجة عليهم فذلك قوله : { هذا فَاسْأَلُوهُمْ إنْ كانوا ينطقون } حتى يخبروا من فعل ذلك بهم ، لما روى أبو هريرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : لَمْ يَكْذِبْ إبْرَاهِيمُ{[28862]} إلا ثلاث كذبات ثنتان منهن في ذات الله ، قوله{[28863]} : «إنِّي سَقِيمٌ »{[28864]} ، وقوله : { بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا } ، وقوله لسارة : «هذه أختي »{[28865]} وفي حديث الشفاعة قول إبراهيم -عليه السلام-{[28866]} «إنِّي كَذَبْتُ ثَلاَثَ كَذِبَاتٍ »{[28867]} والقائلون بهذا القول قدروه من جهة العقل وقالوا : الكذب ليس قبيحاً لذاته فإنَّ النبي إذا هرب{[28868]} من ظالم واختفى في دار إنسان فجاء الظالم وسأل عنه ، فإنه يجب الكذب فيه ، وإذا كان كذلك ، فأي بُعْد في أن يأذن الله في ذلك{[28869]} لمصلحة لا يعلمها إلا هو كما أذن ليوسف -عليه السلام{[28870]}- حين أمر مناديه لإخوته : { أَيَّتُهَا العير إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ }{[28871]} ولم يكونوا سرقوا{[28872]} .
قال ابن الخطيب : وهذا القول مرغوب عنه أما الخبر فلأن يضاف الكذب إلى رواته{[28873]} أولى من أن يضاف إلى الأنبياء ، والدليل القاطع عليه أنه لو جاز أن يكذبوا لمصلحة ويأذن الله تعالى فيه فلنجر هذا الاحتمال في كل ما أخبروا عنه ، وفي كل ما أخبر الله عنه ، وذلك يبطل الوثوق بالشرائع ، وتطرق التهمة{[28874]} إلى كلها ، ثم لو صح ذلك الخبر فهو محمول على المعاريض على ما قاله عليه السلام{[28875]}«إنَّ في المَعَارِيضِ لمندوحةً عن الكَذِبِ »{[28876]} .
فأمّا قوله : «إني سَقِيمٌ » فلعله سقيم القلب كما يجيء في موضعه{[28877]} .
وأمّا قوله : { بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ } فقد ظهر الجواب عنه{[28878]} . وأما قوله لسارة : هذه أختي ، أي{[28879]} : في الدين{[28880]} . وأما قصة يوسف -عليه السلام{[28881]}- فتقدم الكلام عليها{[28882]} .
قوله : { إِن كَانُواْ يِنْطِقُونَ } جوابه محذوف لدلالة ما قبله ، ومن جوَّز التقديم جعل { فَاسْألُوهُمْ } هو الجواب{[28883]} .