قوله تعالى : { وهو الذي جعل الليل والنهار خلفةً } اختلفوا فيها ، قال ابن عباس والحسن وقتادة : يعني خلفاً وعوضاً ، يقوم أحدهما مقام صاحبه ، فمن فاته عمله في أحدهما قضاه في الآخر . قال شقيق : جاء رجل إلى عمر بن الخطاب ، قال : فاتتني الصلاة الليلة ، فقال : أدرك ما فاتك من ليلتك في نهارك ، فإن الله عز وجل ( جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر ) . وقال مجاهد : يعني جعل كل واحد منهما مخالفاً لصاحبه ، فجعل هذا أسود وهذا أبيض . وقال ابن زيد وغيره يعني يخلف أحدهما صاحبه إذا ذهب أحدهما جاء الآخر فهما يتعاقبان في الضياء والظلمة والزيادة والنقصان . { لمن أراد أن يذكر } قرأ حمزة بتخفيف الذال والكاف وضمها من الذكر ، وقرأ الآخرون بتشديدهما أي : يتذكر ويتعظ { أو أراد شكوراً } قال مجاهد : أي : شكر نعمة ربه عليه فيهما .
{ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً } أي : يذهب أحدهما فيخلفه الآخر ، هكذا أبدا لا يجتمعان ولا يرتفعان ، { لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا } أي : لمن أراد أن يتذكر بهما ويعتبر ويستدل بهما على كثير من المطالب الإلهية ويشكر الله على ذلك ، ولمن أراد أن يذكر الله ويشكره وله ورد من الليل أو النهار ، فمن فاته ورده من أحدهما أدركه في الآخر ، وأيضا فإن القلوب تتقلب وتنتقل في ساعات الليل والنهار فيحدث لها النشاط والكسل والذكر والغفلة والقبض والبسط والإقبال والإعراض ، فجعل الله الليل والنهار يتوالى على العباد ويتكرران ليحدث لهم الذكر والنشاط والشكر لله في وقت آخر ، ولأن أوراد العبادات تتكرر بتكرر الليل والنهار ، فكما تكررت الأوقات أحدث للعبد همة غير همته التي كسلت في الوقت المتقدم فزاد في تذكرها وشكرها ، فوظائف الطاعات بمنزلة سقي الإيمان الذي يمده فلولا ذلك لذوى غرس الإيمان ويبس . فلله أتم حمد وأكمله على ذلك .
ثم تنتقل السورة الكريمة إلى الحديث عن نعمة أخرى فتقول : { وَهُوَ الذي جَعَلَ الليل والنهار خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً } .
والخلفة . كل شىء يجىء بعد شىء آخر غيره . ومنخ خلفة النبات . أى : الورق الذى يخرج منه بعد أن تساقط الورق السابق عليه .
أى : وهو - سبحانه - الذى جعل الليل والنهار متعاقبين . بحيث يخلف كل واحد منهما الآخر بنظام دقيق ، ليكونا مناسبين " لمن أراد أن يذكر " . أى : يتعظ ويعتبر ويتذكر أن الله - تعالى - لم يجعلهما على هذه الهيئة عبثا فيتدارك ما فاته من تقصير وتفريط فى حقوق الله - عز وجل - " أو أراد شكورا " .
أى : وجعلهما كذلك لمن أراد أن يزداد من شكر الله على نعمه التى لا تحصى ، والتى من أعظمها وجود الليل ولانهار على هذه الهيئة الحكيمة ، التى تدل على وحدانية الله - تعالى - وعظيم قدرته ، وسعة رحمته .
وبعد هذا الحديث المتنوع عن شبهات المشركين والرد عليها ، وعن مظاهر قدرة الله ونعمه على عباده ، وعن الذين إذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن . . .
ويعرض كذلك مشهد الليل والنهار وتعاقبهما . وهما آيتان مكرورتان ينساهما الناس ، وفيهما الكفاية : ( لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا ) . ولولا أن جعلهما كذلك يتعاوران الناس ، ويخلف أحدهما أخاه ، ما أمكنت الحياة على ظهر هذا الكوكب لإنسان ولا لحيوان ولا لنبات . بل لو أن طولهما تغير لتعذرت كذلك الحياة .
جاء في كتاب : " الإنسان لا يقوم وحده " [ العلم يدعو إلى الإيمان ] .
" تدور الكرة الأرضية حول محورها مرة في كل أربع وعشرين ساعة ، أو بمعدل نحو ألف ميل في الساعة . والآن افرض أنها تدور بمعدل مائة فقط في الساعة . ولم لا ? عندئذ يكون ليلنا ونهارنا أطول مما هما الآن عشر مرات . و في هذه الحالة قد تحرق شمس الصيف الحارة نباتاتنا في كل نهار . وفي الليل يتجمد كل نبت في الأرض !
. فتبارك الذي خلق السماوات والأرض ، وخلق كل شيء فقدره تقديرا . وتبارك الذي جعل في السماء بروجا وجعل فيها سراجا وقمرا منيرا . ( وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا . .
ثم قال : { وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً } أي : يخلف كل واحد منهما الآخر ، يتعاقبان لا يفتران . إذا ذهب هذا جاء هذا ، وإذا جاء هذا ذهب ذاك{[21573]} ، كما قال : { وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ } [ إبراهيم : 33 ] ، وقال { يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ } [ الأعراف : 54 ]وقال : { لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } [ يس : 40 ] .
وقوله : { لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا } {[21574]} أي : جعلهما يتعاقبان ، توقيتا لعبادة عباده له ، فمن فاته عمل في الليل استدركه في النهار ، ومن فاته عمل في النهار استدركه في الليل . وقد جاء في الحديث الصحيح : " إن الله تعالى يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل " {[21575]} .
قال أبو داود الطيالسي : حدثنا أبو حُرّة{[21576]}عن الحسن : أن عمر بن الخطاب أطال صلاة الضحى ، فقيل له : صنعت اليوم شيئا لم تكن تصنعه ؟ فقال : إنه بقي علي من وردي شيء ، فأحببت أن أتمه - أو قال : أقضيه - وتلا هذه الآية : { وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً [ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا ] } {[21577]}-{[21578]} .
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس [ قوله : { وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً } {[21579]} ] يقول : من فاته شيء من الليل أن يعمله ، أدركه بالنهار ، أو من النهار أدركه بالليل . وكذا قال عكرمة ، وسعيد بن جبير . والحسن .
وقال مجاهد ، وقتادة : { خِلْفَة } أي : مختلفين ، هذا بسواده ، وهذا بضيائه .
{ وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة } أي ذوي خلفة يخلف كل منهما الآخر بأن يقوم مقامه فيما ينبغي أن يعمل فيه ، أو بأن يعتقبا لقوله تعالى : { واختلاف الليل والنهار } . وهي للحالة من خلف كالركبة والجلسة . { لمن أراد أن يذكر } بأن يتذكر آلاء الله ويتفكر في صنعه فيعلم أن لا بد له من صانع حكيم واجب الذات رحيم على العباد . { أوأراد شكورا } أن يشكر الله تعالى على ما فيه من النعم ، أو ليكونا وقتين للمتذكرين والشاكرين من وفاته ورده في أحدهما تداركه في الآخرة ، وقرأ حمزة { أن يذكر } من ذكر بمعنى تذكر وكذلك ليذكروا وافقه الكسائي فيه .