قوله تعالى : { لكنا هو الله ربي } ، قرأ ابن عامر و يعقوب : ( لكنا ) بالألف في الوصل ، وقرأ الباقون بلا ألف ، واتفقوا على إثبات الألف في الوقف ، وأصله : لكن أنا ، فحذفت الهمزة طلباً للتخفيف ، لكثرة استعمالها ، ثم أدغمت إحدى النونين في الأخرى ، قال الكسائي : فيه تقديم وتأخير ، مجازه : لكن الله هو ربي ، { ولا أشرك بربي أحداً } .
ولهذا لما رأى صاحبه المؤمن حاله واستمراره على كفره وطغيانه ، قال مخبرا عن نفسه ، على وجه الشكر لربه ، والإعلان بدينه ، عند ورود المجادلات والشبه : { لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا } فأقر بربوبية لربه ، وانفراده فيها ، والتزم{[489]} طاعته وعبادته ، وأنه لا يشرك به أحدا من المخلوقين ،
ثم أخبره أن نعمة الله عليه بالإيمان والإسلام ، ولو مع قلة ماله وولد ، أنها هي النعمة الحقيقية ، وأن ما عداها معرض للزوال والعقوبة عليه والنكال ، فقال : { إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا }
ثم يعلن الرجل الصالح موقفه بشجاعة ووضوح ، فيقول لصاحبه صاحب الجنتين : { لكنا هُوَ الله رَبِّي وَلاَ أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً } .
أى : إن كنت أنت يا هذا قد كفرت بالله الذى خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلا ، فإنى لست بكافر ، ولكنى أنا مؤمن ، أعترف له بالعبادة والطاعة وأقول : هو الله - تعالى - وحده ربى ، ولا أشرك معه أحدا من خلقه لا فى الربوبية ، ولا فى الألوهية ، ولا فى الذات ولا فى الصفات .
وقوله - سبحانه - فى هذه الآية { لكنا . . . } أصله : " لكن أنا " أى : لكن أنا أقول هو الله ربى . فحذفت همزة " أنا " وأدغمت نون " لكن " فى نون أنا بعد حذف الهمزة .
وجمهور القراء يقرءون فى الوصل " لكن " بدون ألف بعد النون المشددة وقرأ أبو عامر فى الوصل " لكنا " بالألف - أما فى حالة الوقف فقد اتفق الجميع على إثبات الألف .
قال صاحب الكشاف : قوله : { لكنا هُوَ الله رَبِّي } أصله : لكن أنا فحذفت الهمزة ، وألقيت حركتها على نون لكن ، فتلاقت النونان فكان الإِدغام ، ونحوه قول القائل :
وترميننى بالطَّرف أى أنت مذنب . . . وتقلينَنى ، لكنَّ إياك لا أَقْلِى
و " هو " ضمير الشأن : أى : والشأن أن الله ربى : والجملة خبر أنا . والراجع منها إليه ياء الضمير .
فإن قلت : هو استدراك لأى شئ ؟ قلت : لقوله { أكفرت . . } قال لأخيه أنت كافر بالله ، لكنى مؤمن موحد ، كما تقول : زيد غائب لكن عمرا حاضر .
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمّ مِن نّطْفَةٍ ثُمّ سَوّاكَ رَجُلاً * لّكِنّ هُوَ اللّهُ رَبّي وَلاَ أُشْرِكُ بِرَبّي أَحَداً } .
يقول تعالى ذكره : قال لصاحب الجنتين صاحبه الذي هو أقلّ منه مالاً وولدا ، وَهُوَ يُحاوِرُهُ : يقول : وهو يخاطبه ويكلمه : أكَفَرْتَ بالّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ يعني خلق أباك آدم من تراب ثُمّ مِنْ نُطْفَةٍ يقول : ثم أنشأك من نطفة الرجل والمرأة ، ثم سوّاك رَجُلاً يقول : ثم عَد لك بشرا سويا رجلاً ، ذكرا لا أنثى ، يقول : أكفرت بمن فعل بك هذا أن يعيدك خلقا جديدا بعد ما تصير رفاتا لَكِنّا هُوَ اللّهُ رَبّي يقول : أما أنا فلا أكفر بربي ، ولكن أنا هو الله ربي ، معناه أنه يقول : ولكن أنا أقول : هو الله ربي وَلا أُشْرِكُ بِرَبيّ أحَدا . وفي قراءة ذلك وجهان : أحدهما لكنّ هو الله ربي بتشديد النون وحذف الألف في حال الوصل ، كما يقال : أنا قائم فتحذف الألف من أنا ، وذلك قراءة عامة قرّاء أهل العراق . وأما في الوقف فإن القرأة كلها تثبت فيها الألف ، لأن النون إنما شدّدت لاندغام النون من لكن ، وهي ساكنة في النون التي من أنا ، إذ سقطت الهمزة التي في أنا ، فإذا وقف عليها ظهرت الألف التي في أنا ، فقيل : لكنا ، لأنه يقال في الوقف على أنا بإثبات الألف لا بإسقاطها . وقرأ ذلك جماعة من أهل الحجاز : لَكِنّا بإثبات الألف في الوصل والوقف ، وذلك وإن كان مما ينطق به في ضرورة الشعر ، كما قال الشاعر :
أنا سَيْفُ العَشِيرَةِ فاعْرِفُونِي *** حُمَيْدا قد تَذَرّيْتُ السّنامَا
فأثبت الألف في أنا ، فليس ذلك بالفصيح من الكلام ، والقراءة التي هي القراءة الصحيحة عندنا ما ذكرنا عن العراقيين ، وهو حذف الألف من «لكنّ » في الوصل ، وإثباتها في الوقف .
واختلف القراءة في قوله { لكنا } فقرأ ابن عامر ونافع في رواية المسيبي «لكنا » في الوصل والوقف ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم وحمزة والكسائي «لكن » في الوصل و «لكنا » في الوقف ، ورجحها الطبري ، وهي رواية ورش وقالون عن نافع ، وقرأ ابن مسعود وأبي بن كعب والحسن «لكن أنا هو الله ربي » ، وقرأ عيسى الثقفي والأعمش بخلاف «لكن هو الله ربي » فأما هذه الأخيرة فبين على الأمر والشأن ، وأما الذي قبلها فعلى معنى لكن أنا أقول ومن هذه الفرقة ، من قرأ «لكننا » ، على حذف الهمزة وتخفيف النونين ، وفي هذا نظر ، وأما من قرأ «لكننا » ، فأصله عنده لكن أنا : حذفت الهمزة على غير قياس ، وأدغمت النون في النون ، وقد قال بعض النحويين : نقلت حركة الهمزة إلى النون فجاء لكننا ، ثم أدغمت بعد ذلك فجاء «لكنا » ، فرأى بعض القراء أن بالإدغام استغني عن الألف الأخيرة ، فمنهم من حذفها في الوصل ، ومنهم من أثبتها في الوصل والوقف ، ليدل على أصل الكلمة ، ويتوجه في «لكنا » أن تكون لكن لحقتها نون الجماعة التي في «خرجنا وضربنا » ، ووقع الإدغام لاجتماع المثلين ، ثم وجد في { ربي } على المعنى ، ولو اتبع اللفظ لقال ربنا ذكره أبو علي ، ويترجح بهذا التعليل قول من أثبت الألف في حال الوصل ، والوقف ، ويتوجه في { لكنا } أن تكون المشهورة من أخوات إن ، المعنى : لكن قولي : هو { الله ربي } ، أما أني لا أعرف من يقرأ بها وصلاً ووقفاً ، وذلك يلزم من يوجه هذا الوجه ، وروى هارون عن أبي عمرو «ولكنه هو الله ربي » بضمير لحق «لكن » وباقي الآية بين .
لفظ { لكنا } مركب من ( لكنْ ) بسكون النون الذي هو حرف استدراك ، ومن ضمير المتكلم ( أنا ) . وأصله : لكن أنا ، فحذفت الهمزة تخفيفاً كما قال الزجاج ، أي على غير قياس لا لعلة تصريفية ، ولذلك لم يكن للهمزة حكم الثابت فلم تمنع من الإدغام الذي يمنع منه ما هو محذوف لعلة بناءً على أن المحذوف لعلةٍ بمنزلة الثابت ، ونقلت حركتها إلى نون ( لكنْ ) الساكنة دليلاً على المحذوف فالتقى نونان متحركتان فلزم إدغامهما فصار ( لكنا ) . ولا يجوز أن تكون ( لكِنّ ) المشددة النون المفتوحتها أشبعت فتحتها ، لأن لكن المشددة من أخوات إنّ تقتضي أن يكون الاسم بعدها منصوباً وليس هنا ما هو ضمير نصب ، ولا يجوز اعتبار ضمير ( أنا ) ضمير نصب اسم ( لكنّ ) لأن ضمير المتكلم المنصوب يجب أن يكون بياء المتكلم ، ولا اعتبارهُ ضميرَ المتكلم المشارك لمنافاته لإفراد ضمائره بعده في قوله : { هو الله ربي ولا أشرك بربي أحداً } .
( فأنا ) مبتدأ ، وجملة { هو الله ربي } ضمير شأن وخبرُه ، وهي خبر ( أنا ) ، أي شأني هو الله ربي . والخبر في قوله : { هو الله ربي } مستعمل في الإقرار ، أي أعترف بأنه ربي خلافاً لك .
وموقع الاستدراك مضادةُ ما بعد ( لكن ) لما قبلها ، ولا سيما إذا كان الرجلان أخوين أو خليلين كما قيل فإنه قد يتوهم أن اعتقادهما سواء .
وأكد إثبات اعترافه بالخالق الواحد بمؤكدات أربعة ، وهي : الجملتان الاسميتان ، وضمير الشأن في قوله : { لكنا هو الله ربي } ، وتعريف المسند والمسند إليه في قوله : { الله ربي } المفيد قصر صفة ربوبية الله على نفس المتكلم قصراً إضافياً بالنسبة لمخاطبه ، أي دونك إذ تعبد آلهة غير الله ، وما القصر إلا توكيد مضاعف ، ثم بالتوكيد اللفظي للجملة بقوله : { ولا أشرك بربي أحداً } .