قوله : { لَّكِنَّ هُوَ الله رَبِّي } : قرأ ابن عامر{[21069]} ، ويعقوب ، ونافع في رواية بإثبات الألف وصلاً ووقفاً ، والباقون بحذفها وصلاً ، وبإثباتها وقفاً وهي رواية عن نافعٍ ، فالوقفُ وفاقٌ .
والأصل في هذه الكلمة : " لكن أنَا " فنقل حركة همزة " أنَا " إلى نون " لكِنْ " وحذف الهمزة ، فالتقى مثلان ، فأدغم ، وهذا أحسنُ الوجهين في تخريج هذا ، وقيل : حذف همزة " أنا " [ اعتباطاً ]{[21070]} ، فالتقى مثلان ، فأدغم ، وليس بشيءٍ ؛ لجري الأول على القواعد ، فالجماعة جروا على مقتضى قواعدهم في حذف ألف " أنا " وصلاً ، وإثباتها وقفاً ، وقد تقدم لك : أنَّ نافعاً يثبت ألفه وصلاً قبل همزة مضمومة ، أو مكسورة ، أو مفتوحة ؛ بتفصيلٍ مذكورٍ في البقرة ، وهنا لم يصادف همزة ، فهو على أصله أيضاً ، ولو أثبت الألف هنا ، لكان أقرب من إثبات غيره ؛ لأنه أثبتها في الوصلِ جملة .
وأمَّا ابن عامرٍ ، فإنه خرج عن أصله في الجملة ؛ إذ ليس من مذهبه إثبات هذه الألف وصلاً في موضع [ ما ] ، وإنما اتَّبع الرسم . وقد تقدَّم أنها لغة تميمٍ أيضاً .
وإعراب ذلك : أن يكون " أنَا " مبتدأ ، و " هو " مبتدأ ثانٍ ، و " هو " ضمير الشأن ، و " اللهُ " مبتدأ ثالث و " ربِّي " خبر الثالث ، والثالث وخبره خبر الثاني ، والثاني وخبره خبر الأول ، والرابط [ بين الأول ] وبين خبره الياء في " ربِّي " ويجوز أن تكون الجلالة بدلاً من " هُوَ " أو نعتاً ، أو بياناً ، إذا جعل " هو " عائداً على ما تقدَّم من قوله " بالذي خلقك من تراب " لا على أنَّه ضمير الشأن ، وإن كان أبو البقاء{[21071]} أطلق ذلك ، وليس بالبيِّن .
وخرَّجه الفارسي على وجهٍ غريب : وهو أن تكون " لكِنَّا " " لكنَّ " واسمها وهو " نا " والأصل : " لكنَّنا " فحذف إحدى النونات ؛ نحو : { إنَّا نَحْنُ } [ الحجر : 9 ] وكان حق التركيب أن يكون " ربُّنا " " ولا نُشرِكُ بربِّنا " قال : " ولكنه اعتبر المعنى ، فأفرد " وهو غريبٌ جدًّا .
قال الكسائي{[21072]} : فيه تقديمٌ وتأخيرٌ ، تقديره : " لكنَّ الله هُوَ ربِّي " .
وقرأ أبو عمرو " لكنَّهْ " بهاء السَّكت وقفاً ؛ لأنَّ القصد بيان حركة نون " أنَا " فتارة تبيَّن بالألف ، وتارة بهاء السكت ، وعن حاتم الطائي : [ الرمل المجزوء ]
هَكذَا فَرْدِي أَنَهْ{[21073]} ***
وقال ابن عطية عن أبي عمرو : روى عنه هارون " لكنَّه هو الله " بضمير لحق " لكن " قال شهاب الدين : فظاهر هذا أنه ليس بهاء السَّكت ، بل تكون الهاءُ ضميراً اسماً ل " لكِنْ " وما بعدها الخبر ويجوز أن يكون " هو " مبتدأ ، وما بعده خبره ، وهو وخبره خبر " لكنَّ " ويجوز أن يكون تأكيداً للاسم ، وأن يكون فصلاً ، ولا يجوز أن يكون ضمير شأنٍ ؛ لأنه حينئذ لا عائد على اسم " لكنَّ " من هذه الجملة الواقعة خبراً .
وأمَّا في قراءة العامة : فلا يجوز أن تكون " لكنَّ " مشددة عاملة ؛ لوقوع الضمير بعدها بصيغة المرفوع .
وقرأ عبد الله{[21074]} " لكنْ أنَا هُوَ " على الأصل من غير نقل ، ولا إدغامٍ ، وروى عنه ابنُ خالويه " لكنْ هُو الله " بغير " أنا " . وقرئ{[21075]} أيضاً " لكننا " .
وقال الزمخشريُّ : " وحسَّن ذلك - يعني إثبات الألف في الوصل - وقوع الألف عوضاً عن حذف الهمزة " ونحوه - يعني إدغام نون " لكن " في نون " نَا " بعد حذف الهمزة - قول القائل :
وتَرْمِينَنِي بالطَّرْفِ أيْ أنْتَ مُذنِبٌ *** وتَقْلِيننِي لكنَّ إيَّاكِ لا أقْلِي{[21076]}
الأصل : لكن أنا ، فنقل ، وحذف ، وأدغم ، قال أبو حيان : " ولا يتعيَّن ما قاله في البيت ؛ لجواز أن يكون حذف اسم " لكنَّ " [ وحذفه ] لدليلٍ كثيرٌ ، وعليه قوله :
فَلوْ كُنْتَ ضَبيًّا عَرفْتَ قَرابتِي *** ولكنَّ زَنْجِيٌّ عَظِيمُ المَشافرِ{[21077]}
أي : ولكنَّك ، وكذا ها هنا : ولكنَّني إيَّاك " قال شهاب الدين : لم يدَّع الزمخشري تعين ذلك في البيت ؛ حتَّى يردَّ عليه بما ذكره .
ويقرب من هذا ما خرَّجه البصريُّون في بيت استدلَّ به الكوفيون عليهم في جواز دخولِ لام الابتداء في خبر " لكنَّ " وهو : [ الطويل ]
. . . . . . . . . . . . . . *** ولكنَّني من حُبِّهَا لعَمِيدُ{[21078]}
فأدخل اللام في خبر " لكنَّ " وخرَّجه البصريون على أن الأصل : " ولكن من حُبِّها " في قوله : " ولكنَّني من حُبِّها لعمِيدُ " ، فأدغم اللام في خبر " لكنَّ " ، وجوَّزه البصريُّون ، وخرَّجه طائفة من البصريِّين على أنَّ الأصل ولكن إنِّي من حُبِّها ، ثم نقل حركة همزة " إنِّي " إلى نون " لكن " بعد حذف الهمزة ، وأدغم على ما تقدَّم ، فلم تدخل اللام إلا في خبر " إنَّ " ، هذا على تقدير تسليم صحة الرواية ، وإلا فقالوا : إنَّ البيت مصنوعٌ ، ولا يعرف له قائلٌ .
والاستدراك من قوله " أكَفرْتَ " كأنَّه قال لأخيه : أنت كافرٌ ؛ لأنَّه استفهام تقرير ، لكنَّني أنَّا مؤمنٌ ؛ نحو قولك : " زَيْدٌ غَائبٌ ، لكنَّ عمراً حاضرٌ " لأنه قد يتوهَّم غيبةُ عمرو أيضاً .
فصل في المقصود بالشرك في الآية
معنى { وَلاَ أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً } .
ذكر القفال فيه وجهين{[21079]} :
الأول : أنِّي لا أرى الفقر والغنى إلاَّ منه ؛ فأحمده إذا أعطى ، وأصبر ، إذا ابتلى ، ولا أتكبَّر عندما ينعم عليَّ ، ولا أرى كثرة [ المال ]{[21080]} ، والأعوان من نفسي ، وذلك لأنَّ الكافر ، لمَّا [ اعتزَّ ]{[21081]} بكثرة المال والجاه ، فكأنه قد أثبت لله شريكاً في إعطاء العزِّ والغنى .
الثاني : أنَّ هذا الكافر ، لمَّا أعجز الله عن البعث والحشر ، فقد جعله مساوياً للخلق في هذا العجز ، وإذا أثبت المساواة ، فقد أثبت الشَّريك .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.