اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{لَّـٰكِنَّا۠ هُوَ ٱللَّهُ رَبِّي وَلَآ أُشۡرِكُ بِرَبِّيٓ أَحَدٗا} (38)

قوله : { لَّكِنَّ هُوَ الله رَبِّي } : قرأ ابن عامر{[21069]} ، ويعقوب ، ونافع في رواية بإثبات الألف وصلاً ووقفاً ، والباقون بحذفها وصلاً ، وبإثباتها وقفاً وهي رواية عن نافعٍ ، فالوقفُ وفاقٌ .

والأصل في هذه الكلمة : " لكن أنَا " فنقل حركة همزة " أنَا " إلى نون " لكِنْ " وحذف الهمزة ، فالتقى مثلان ، فأدغم ، وهذا أحسنُ الوجهين في تخريج هذا ، وقيل : حذف همزة " أنا " [ اعتباطاً ]{[21070]} ، فالتقى مثلان ، فأدغم ، وليس بشيءٍ ؛ لجري الأول على القواعد ، فالجماعة جروا على مقتضى قواعدهم في حذف ألف " أنا " وصلاً ، وإثباتها وقفاً ، وقد تقدم لك : أنَّ نافعاً يثبت ألفه وصلاً قبل همزة مضمومة ، أو مكسورة ، أو مفتوحة ؛ بتفصيلٍ مذكورٍ في البقرة ، وهنا لم يصادف همزة ، فهو على أصله أيضاً ، ولو أثبت الألف هنا ، لكان أقرب من إثبات غيره ؛ لأنه أثبتها في الوصلِ جملة .

وأمَّا ابن عامرٍ ، فإنه خرج عن أصله في الجملة ؛ إذ ليس من مذهبه إثبات هذه الألف وصلاً في موضع [ ما ] ، وإنما اتَّبع الرسم . وقد تقدَّم أنها لغة تميمٍ أيضاً .

وإعراب ذلك : أن يكون " أنَا " مبتدأ ، و " هو " مبتدأ ثانٍ ، و " هو " ضمير الشأن ، و " اللهُ " مبتدأ ثالث و " ربِّي " خبر الثالث ، والثالث وخبره خبر الثاني ، والثاني وخبره خبر الأول ، والرابط [ بين الأول ] وبين خبره الياء في " ربِّي " ويجوز أن تكون الجلالة بدلاً من " هُوَ " أو نعتاً ، أو بياناً ، إذا جعل " هو " عائداً على ما تقدَّم من قوله " بالذي خلقك من تراب " لا على أنَّه ضمير الشأن ، وإن كان أبو البقاء{[21071]} أطلق ذلك ، وليس بالبيِّن .

وخرَّجه الفارسي على وجهٍ غريب : وهو أن تكون " لكِنَّا " " لكنَّ " واسمها وهو " نا " والأصل : " لكنَّنا " فحذف إحدى النونات ؛ نحو : { إنَّا نَحْنُ } [ الحجر : 9 ] وكان حق التركيب أن يكون " ربُّنا " " ولا نُشرِكُ بربِّنا " قال : " ولكنه اعتبر المعنى ، فأفرد " وهو غريبٌ جدًّا .

قال الكسائي{[21072]} : فيه تقديمٌ وتأخيرٌ ، تقديره : " لكنَّ الله هُوَ ربِّي " .

وقرأ أبو عمرو " لكنَّهْ " بهاء السَّكت وقفاً ؛ لأنَّ القصد بيان حركة نون " أنَا " فتارة تبيَّن بالألف ، وتارة بهاء السكت ، وعن حاتم الطائي : [ الرمل المجزوء ]

هَكذَا فَرْدِي أَنَهْ{[21073]} ***

وقال ابن عطية عن أبي عمرو : روى عنه هارون " لكنَّه هو الله " بضمير لحق " لكن " قال شهاب الدين : فظاهر هذا أنه ليس بهاء السَّكت ، بل تكون الهاءُ ضميراً اسماً ل " لكِنْ " وما بعدها الخبر ويجوز أن يكون " هو " مبتدأ ، وما بعده خبره ، وهو وخبره خبر " لكنَّ " ويجوز أن يكون تأكيداً للاسم ، وأن يكون فصلاً ، ولا يجوز أن يكون ضمير شأنٍ ؛ لأنه حينئذ لا عائد على اسم " لكنَّ " من هذه الجملة الواقعة خبراً .

وأمَّا في قراءة العامة : فلا يجوز أن تكون " لكنَّ " مشددة عاملة ؛ لوقوع الضمير بعدها بصيغة المرفوع .

وقرأ عبد الله{[21074]} " لكنْ أنَا هُوَ " على الأصل من غير نقل ، ولا إدغامٍ ، وروى عنه ابنُ خالويه " لكنْ هُو الله " بغير " أنا " . وقرئ{[21075]} أيضاً " لكننا " .

وقال الزمخشريُّ : " وحسَّن ذلك - يعني إثبات الألف في الوصل - وقوع الألف عوضاً عن حذف الهمزة " ونحوه - يعني إدغام نون " لكن " في نون " نَا " بعد حذف الهمزة - قول القائل :

وتَرْمِينَنِي بالطَّرْفِ أيْ أنْتَ مُذنِبٌ *** وتَقْلِيننِي لكنَّ إيَّاكِ لا أقْلِي{[21076]}

الأصل : لكن أنا ، فنقل ، وحذف ، وأدغم ، قال أبو حيان : " ولا يتعيَّن ما قاله في البيت ؛ لجواز أن يكون حذف اسم " لكنَّ " [ وحذفه ] لدليلٍ كثيرٌ ، وعليه قوله :

فَلوْ كُنْتَ ضَبيًّا عَرفْتَ قَرابتِي *** ولكنَّ زَنْجِيٌّ عَظِيمُ المَشافرِ{[21077]}

أي : ولكنَّك ، وكذا ها هنا : ولكنَّني إيَّاك " قال شهاب الدين : لم يدَّع الزمخشري تعين ذلك في البيت ؛ حتَّى يردَّ عليه بما ذكره .

ويقرب من هذا ما خرَّجه البصريُّون في بيت استدلَّ به الكوفيون عليهم في جواز دخولِ لام الابتداء في خبر " لكنَّ " وهو : [ الطويل ]

. . . . . . . . . . . . . . *** ولكنَّني من حُبِّهَا لعَمِيدُ{[21078]}

فأدخل اللام في خبر " لكنَّ " وخرَّجه البصريون على أن الأصل : " ولكن من حُبِّها " في قوله : " ولكنَّني من حُبِّها لعمِيدُ " ، فأدغم اللام في خبر " لكنَّ " ، وجوَّزه البصريُّون ، وخرَّجه طائفة من البصريِّين على أنَّ الأصل ولكن إنِّي من حُبِّها ، ثم نقل حركة همزة " إنِّي " إلى نون " لكن " بعد حذف الهمزة ، وأدغم على ما تقدَّم ، فلم تدخل اللام إلا في خبر " إنَّ " ، هذا على تقدير تسليم صحة الرواية ، وإلا فقالوا : إنَّ البيت مصنوعٌ ، ولا يعرف له قائلٌ .

والاستدراك من قوله " أكَفرْتَ " كأنَّه قال لأخيه : أنت كافرٌ ؛ لأنَّه استفهام تقرير ، لكنَّني أنَّا مؤمنٌ ؛ نحو قولك : " زَيْدٌ غَائبٌ ، لكنَّ عمراً حاضرٌ " لأنه قد يتوهَّم غيبةُ عمرو أيضاً .

فصل في المقصود بالشرك في الآية

معنى { وَلاَ أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً } .

ذكر القفال فيه وجهين{[21079]} :

الأول : أنِّي لا أرى الفقر والغنى إلاَّ منه ؛ فأحمده إذا أعطى ، وأصبر ، إذا ابتلى ، ولا أتكبَّر عندما ينعم عليَّ ، ولا أرى كثرة [ المال ]{[21080]} ، والأعوان من نفسي ، وذلك لأنَّ الكافر ، لمَّا [ اعتزَّ ]{[21081]} بكثرة المال والجاه ، فكأنه قد أثبت لله شريكاً في إعطاء العزِّ والغنى .

الثاني : أنَّ هذا الكافر ، لمَّا أعجز الله عن البعث والحشر ، فقد جعله مساوياً للخلق في هذا العجز ، وإذا أثبت المساواة ، فقد أثبت الشَّريك .


[21069]:ينظر: السبعة 391، والحجة 317، والتيسير 143، والنشر 2/311، والحجة للقراء السبعة 5/144، والقرطبي 10/263، والبحر 6/121، والدر 4/456.
[21070]:في ب: اعتياضا.
[21071]:ينظر: الإملاء 2/103.
[21072]:ينظر: معالم التنزيل 3/162.
[21073]:ينظر: شرح المفصل 9/84، والدر المصون 4/457.
[21074]:ينظر: الشواذ 80، والدر المصون 4/457.
[21075]:ينظر: البحر 6/121، والدر المصون 4/457.
[21076]:البيت في شرح المفصل لابن يعيش 8/140، المغني 1/76، شواهد المغني 83، الهمع 1/148، الدرر 1/207، معاني الفراء 2/144، البحر المحيط 6/122، القرطبي 10/263، الدر المصون 4/456.
[21077]:البيت للفرزدق ينظر: ديوانه 481، الكتاب 1/282، المحتسب 2/182، الخزانة 4/378، ابن يعيش 8/81.
[21078]:ينظر: ابن يعيش 8/62، الهمع 1/140، الدرر 1/116، العين 2/247، الإنصاف 209، الخزانة 4/323، وقال فيها: لا يعرف له قائل ولا تتمة ولا نظير، والدر المصون 4/457.
[21079]:ينظر: الفخر الرازي 21/108.
[21080]:في ب: الأموال.
[21081]:في ب: اغتر.