ثم استنكر موقف قومه منه فقال : { وياقوم مَا لي أَدْعُوكُمْ إِلَى النجاة } من العذاب الدنيوى والأخروى ، بأن آمركم بالإيمان والعمل الصالح ، وأنهاكم عن قتل رجل يقول ربى الله ، وقد جاءكم بالبينات من ربكم وهو موسى - عليه السلام - .
وأنتم { وتدعونني إِلَى النار } أى : تدعوننى لما يوصل إلى النار وهو عبادة غير الله - تعالى - ، والموافقة على قتل الصالحين أو إيذائهم . .
قال صاحب الكشاف : فإن قلت : لم كرر نداء قومه ؟ ولم جاء بالواو فى النداء الثالث دون الثانى ؟
قلت : أما تكرير النداء ففيه زيادة تنبيه لهم ، وإيقاظ عن سنة الغفلة ، وفيه : أنهم قومه وعشيرته . . ونصيحتهم عليه واجبة ، فهو يتحزن لهم ، ويتلطف بهم ، ويستدعى بذلك أن لا يتهموه - فإن سرورهم سروره ، وغمهم غمه - وأن ينزلوا على تنصيحه لهم ، كما كرر إبراهيم - عليه السلام - فى نصيحة أبيه قوله :
وأما المجئ بالواو العاطفة فى النداء الثالث دون الثانى ، فلأن الثانى داخل على كلام هو بيان للمجمل ، وتفسير له فأعطى الداخل عليه حكمه فى امتناع دخول الواو . وأما الثالث : فداخل على كلام ليس بتلك المثابة .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَيَقَوْمِ مَا لِيَ أَدْعُوكُمْ إِلَى النّجَاةِ وَتَدْعُونَنِيَ إِلَى النّارِ * تَدْعُونَنِي لأكْفُرَ بِاللّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَاْ أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفّارِ } .
يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل هذا المؤمن لقومه من الكفرة : مَالِي أدْعُوكُمْ إلَى النّجَاة من عذاب الله وعقوبته بالإيمان به ، واتباع رسوله موسى ، وتصديقه فيما جاءكم به من عند ربه وَتَدْعُونَنِي إلى النّارِ يقول : وتدعونني إلى عمل أهل النار . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : مالِي أدْعُوكُمْ إلى النّجاةِ قال : الإيمان بالله .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : مَالِي أدْعُوكُمْ إلَى النّجَاة وَتَدْعُونَنِي إلى النّارِ قال هذا مؤمن آل فرعون ، قال : يدعونه إلى دينهم والإقامة معهم .
أعاد نداءهم وعطفت حكايته بواو العطف للإشارة إلى أن نداءه اشتمل على ما يقتضي في لغتهم أن الكلام قد تخطى من غرض إلى غرض وأنه سَيَطْرَق ما يغاير أول كلامه مغايرة مَّا تُشبه مغايرة المتعاطفين في لغة العرب ، وأنه سيرتقي باستدراجهم في دَرَج الاستدلال إلى المقصود بعد المقدمات ، فانتقل هنا إلى أن أنكر عليهم شيئاً جرى منهم نحوه وهو أنهم أعقبوا موعظتَهُ إياهم بدعوته للإقلاع عن ذلك وأن يتمسك بدينهم وهذا شيء مطوي في خلال القصة دلت عليه حكاية إنكاره عليهم ، وهو كلامُ آيسسٍ من استجابتهم لقوله فيه : { فَسَتَذكُرُونَ مَا أقولُ لَكُم } [ غافر : 44 ] ، ومُتَوقِّععٍ أذاهم لقوله : { وَأُفَوِّضُ أمْرِي إلَى الله } [ غافر : 44 ] ، ولقوله تعالى آخر القصة : { فوقاه الله سيئات ما مكروا } [ غافر : 45 ] . فصرّح هنا وبينّ بأنه لم يزل يدعوهم إلى اتباع ما جاء به موسى وفي اتّباعه النجاة من عذاب الآخرة فهو يدعوهم إلى النجاة حقيقة ، وليس إطلاق النجاة على ما يدعوهم إليه بمجاز مرسل بل يدعوهم إلى حقيقة النجاة بوسائط .
والاستفهام في { مَا لِي أدْعُوكم إلى النجاة } استفهام تعجبي باعتبار تقييده بجملة الحال وهي { وتَدْعُونَنِي إلَى النَّارِ } فجملة { وتَدْعُونَنِي إلَى النَّارِ } في موضع الحال بتقدير مبتدأ ، أي وأنتم تدعونني إلى النار وليست بعطف لأن أصل استعمال : ما لي أفعل ، وما لي لا أفعل ونحوه ، أن يكون استفهاماً عن فعل أو حاللٍ ثبت للمجرور باللام ( وهي لام الاختصاص ) ، ومعنى لام الاختصاص يَكسب مدخولها حالةً خَفيًّا سببُها الذي عُلق بمدخول اللام نحو قوله تعالى : { ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل اللَّه اثّاقلتم إلى الأرض } [ التوبة : 38 ] { ما لي لا أرى الهدهد } [ النمل : 20 ] وقولك لمن يستوقفك : ما لك ؟ فتكون الجملة التي بعد اسم الاستفهام وخبره جملة فعلية .
وتركيب : ما لي ونحوه ، هو كتركيب : هل لك ونحوه في قوله تعالى : { فقل هل لك إلى أن تزكى } [ النازعات : 18 ] وقول كعب بن زهير :
ألا بلغا عني بُجيرا رسالة *** فهل لك فيما قلتَ ويحْك هلْ لَكَ
فإذا قامت القرينة على انتفاء إرادة الاستفهام الحقيقي انصرف ذلك إلى التعجب من الحالة ، أو إلى الإِنكار أو نحو ذلك . فالمعنى هنا على التعجب يعني أنه يعجب من دعوتهم إياه لدينهم مع ما رأوا من حرصه على نصحهم ودعوتهم إلى النجاة وما أتاهم به من الدلائل على صحة دعوته وبطلان دعوتهم .