فهل تليق بالمؤمنين هذه الحالة الذميمة ؟ أم من أكبر المقت عند الله أن يقول العبد ما لا يفعل ؟ ولهذا ينبغي للآمر بالخير أن يكون أول الناس إليه مبادرة ، وللناهي عن الشر أن يكون أبعد الناس منه ، قال تعالى : { أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ } وقال شعيب عليه الصلاة والسلام لقومه : { وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه } .
وقوله - سبحانه - : { كَبُرَ مَقْتاً عِندَ الله أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ } بيان للآثار السيئة التى تترتب على القول الذى يخالفه الفعل .
وقوله : { كَبُرَ } بمعنى عظم ، لأن الشىء الكبير ، لا يوصف بهذا الوصف ، إلا إذا كان فيه كثرة وشدة فى نوعه .
والمقت : البغض الشديد ، ومنه قوله - تعالى - { وَلاَ تَقْرَبُواْ الزنى }{ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتاً وَسَآءَ سَبِيلاً } وهو منصوب على التمييز المحول عن الفاعل : للإشعار بأن قولهم هذا مقت خالص لا تشوبه شائبة من الرضا .
أي : كبر وعظم المقت الناشىء عن قولكم قولا لا تطابقه أفعالكم .
وقال - سبحانه - : { كَبُرَ مَقْتاً عِندَ الله } للإشعار بشناعة هذا البغض من الله - تعالى - لهم ، بسبب مخالفة قولهم لفعلهم ، لأنه إذا كانت هذه الصفة عظيمة الشناعة عند الله ، فعلى كل عاقل أن يجتنبها ، ويبتعد عنها .
قال صاحب الكشاف ما ملخصه ، ونداؤهم بالإيمان تهكم بهم وبإيمانهم وهذا من أفصح الكلام وأبلغه فى معناه . وقصد فى " كَبُرَ " التعجب من غير لفظه . . . . ومعنى التعجب : تعظيم الأمر فى قلوب السامعين ، لأن التعجب لا يكون إلا من شىء خارج عن نظائره وأشكاله ، وأُسْنِد إلى { أَن تَقُولُواْ } ونُصِب { مَقْتاً } على التمييز ، للدلالة على أن قولهم مالا يفعلون مقت خالص لا شوب فيه ، لفَرْط تمكن المقت منه . واختير لفظ المقت ، لأنه أشد البغض وأبلغه ، ومنه قيل : نكاح المقت - وهو أن يتزوج الرجل امرأة أبيه - .
وإذا ثبت كِبر مقته عند الله ، فقد تم كبره وشدته ، وانزاحت عنه الشكوك . .
فأنت ترى أن الله - تعالى - قد ذم الذين يقولون مالا يفعلون ذما شديدا ، ويندرج تحت هذا الذم ، الكذب فى القول ، والخلف فى الوعد ، وحب الشخص للثناء دون أن يكون قد قدم عملا يستحق من أجله الثناء .
و «المقت » : البغض من أجل ذنب أو ريبة أو دناءة يصنعها الممقوت ، وهذا حد المقت فتأمله ، و { مقتاً } نصب على التمييز ، والتقدير { كبر } فعلكم { مقتاً } ، والمراد كبر مقت فعلكم فحذف المضاف إليه ونصب المضاف على التمييز ، وهذا كما تريد تفقأ شحم بطنك فتقول : تفقأ بطنك شحماً ، و { أن تقولوا } ، يحتمل أن يكون بدلاً من المقدر ، ويحتمل أن يكون فاعلاً ب { كبر } ، وقول المرء ما لا يفعل موجب مقت الله تعالى ، ولذلك فر كثير من العلماء عن الوعظ والتذكير وآثروا السكوت .
وجملة { كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون } بيان لجملة { لم تقولون ما لا تفعلون } تصريحاً بالمعنى المكنَّى عنه بها .
وهو خبر عن كون قولهم : { ما لا تفعلون } أمراً كبيراً في جنس المقت .
والكِبَر : مستعار للشدة لأن الكبير فيه كثرة وشدة في نوعه .
و { أن تقولوا } فاعل { كبر } .
والمقت : البغض الشديد . وهو هنا بمعنى اسم المفعول .
وانتصب { مقتاً } على التمييز لِجهة الكبر . وهو تمييز نسبة .
والتقدير : كبر ممقوتاً قَولُكم ما لا تفعلونه .
ونُظِم هذا الكلام بطريقة الإِجمال ثم التفصيل بالتمييز لتهويل هذا الأمر في قلوب السامعين لكون الكثير منهم بمِظنة التهاون في الحيطة منه حتى وقعوا فيما وقعوا يوم أُحد . ففيه وعيد على تجدد مثله ، وزيد المقصود اهتماماً بأن وصف المقت بأنه عند الله ، أي مقتٌ لا تسامح فيه .
وعدل عن جعل فاعل { كبر } ضمير القول بأن يقتصر على { كبر مقتاً عند الله } أو يقال : كبر ذلك مقتاً ، لقصد زيادة التهويل بإعادة لفظه ، ولإِفادة التأكيد .
و { مَا } في قوله : { ما لا تفعلون } في الموضعين موصولة ، وهي بمعنى لام العهد ، أي الفعل الذي وَعدتم أن تفعلوه وهو أحبّ الأعمال إلى الله أو الجهادُ . 4 فاقتضت الآية أن الوعد في مثل هذا يجب الوفاء به لأن الموعود به طاعة فالوعد به من قبيل النذر المقصودِ منه القُربة فيجب الوفاء به .