معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{لِيُحِقَّ ٱلۡحَقَّ وَيُبۡطِلَ ٱلۡبَٰطِلَ وَلَوۡ كَرِهَ ٱلۡمُجۡرِمُونَ} (8)

قوله تعالى : { ليحق الحق } ، ليثبت الإسلام .

قوله تعالى : { ويبطل الباطل } ، أي : يفني الكفر .

قوله تعالى : { ولو كره المجرمون } ، المشركون ، وكانت وقعة بدر يوم الجمعة صبيحة سبع عشرة ليلة من شهر رمضان .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{لِيُحِقَّ ٱلۡحَقَّ وَيُبۡطِلَ ٱلۡبَٰطِلَ وَلَوۡ كَرِهَ ٱلۡمُجۡرِمُونَ} (8)

لِيُحِقَّ الْحَقَّ بما يظهر من الشواهد والبراهين على صحته وصدقه ، . وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ بما يقيم من الأدلة والشواهد على بطلانه وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ فلا يبالي اللّه بهم .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{لِيُحِقَّ ٱلۡحَقَّ وَيُبۡطِلَ ٱلۡبَٰطِلَ وَلَوۡ كَرِهَ ٱلۡمُجۡرِمُونَ} (8)

ثم بين - سبحانه - الحكمة في اختيار ذات الشوكة لهم ، ونصرتهم عليهم فقال : { لِيُحِقَّ الحق وَيُبْطِلَ الباطل وَلَوْ كَرِهَ المجرمون } .

أى : فعل ما فعل من النصرة والظفر بالأعداد { لِيُحِقَّ الحق } أى : ليثبت الدين الحق دين الإِسلام { وَيُبْطِلَ الباطل } أى : ويمحق الدين الباطل وهو ما عليه المشركون من كفر وطغيان .

وقوله : { وَلَوْ كَرِهَ المجرمون } بيان لنفاذ إرادته - سبحانه - أى : اقتضت إرادته أن يعز الدين الحق وهو دين الإِسلام ، وأن يمحق ما سواه ، ولو كره المشركون ذلك ، لأن كراهيتهم لا وزن لها ، ولا تعويل عليها . .

وبهذا يتبين أنه لا تكرار بين الآيتيتن السابقتين ، لأن المراد بإحقاق الحق في قوله - تعالى - { وَيُرِيدُ الله أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ } : إعلاؤه وإظهاره ونصرته عن طريق قتال المؤمنين للمشركين .

والمراد بإحقاق الحق في قوله بعد ذلك في الآية الثانية { لِيُحِقَّ الحق وَيُبْطِلَ الباطل } : تثبيت دين الإِسلام وتقويته وإظهار شريعته ، ويمحق دين الكفر .

فكان ما اشتملت عليه الآية الأولى هو الوسيلة والسبب وما اشتملت عليه الآية الثانية هو المقصد والغاية .

وقد بسط هذا المعنى الإِمام الرازى فقال ما ملخصه : فإن قيل : أليس قوله : { وَيُرِيدُ الله أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ } ثم قوله بعد ذلك : { لِيُحِقَّ الحق } تكرارا محضا ، فالجواب : ليس ههنا تكرير ؛ لأن المراد بالأول سبب ما وعد به في هذه الواقعة من النصر والظفر بالأعداء ، والمراد بالثانى ؛ تقوية القرآن والدين ونصرة هذه الشريعة ، لأن الذي وقع من المؤمنين يوم بدر بالكافرين ، كان سببا لعزة الدين وقوته ، ولهذا السبب قرنه بقوله { وَيُبْطِلَ الباطل } الذي هو الشرك ، وذلك في مقابلة { الحق } الذي هو الدين والإِيمان .

وإلى هنا نرى السورة الكريمة قد حدثتنا في الأربع الآيات الأولى منها عن حكم الله - تعالى - في غنائم بدر بعد أن اختلف بعض المؤمنين في شأنها ، وعن صفات المؤمنين الصادقين الذين يستحقون من الله - تعالى - أرفع الدرجات .

ثم حدثتنا في الأربع الثانية منها عن حال بعض المؤمنين عندما دعاهم النبى - صلى الله عليه وسلم - إلى قتال أعدائهم ، وعن مجادلتهم له في ذلك ، وعن إيثارهم المال على القتال ، وعن إرادة ما هو خير لهم في دنياهم وآخرتهم ، وفى ذلك ما فيه من العبر والعظات لقوم يعقلون .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{لِيُحِقَّ ٱلۡحَقَّ وَيُبۡطِلَ ٱلۡبَٰطِلَ وَلَوۡ كَرِهَ ٱلۡمُجۡرِمُونَ} (8)

5

( ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ، ويقطع دابر الكافرين ، ليحق الحق ويبطل الباطل ، ولو كره المجرمون ) . .

لقد أراد الله - وله الفضل والمنة - أن تكون ملحمة لا غنيمة ؛ وأن تكون موقعة بين الحق والباطل ، ليحق الحق ويثبته ، ويبطل الباطل ويزهقه . وأراد أن يقطع دابر الكافرين ، فيقتل منهم من يقتل ، ويؤسر منهم من يؤسر ، وتذل كبرياؤهم ، وتخضد شوكتهم ، وتعلو راية الإسلام وتعلو معها كلمة الله ، ويمكن الله للعصبة المسلمة التي تعيش بمنهج الله ، وتنطلق به لتقرير ألوهية الله في الأرض ، وتحطيم طاغوت الطواغيت . وأراد أن يكون هذا التمكين عن استحقاق لا عن جزاف - تعالى الله عن الجزاف - وبالجهد والجهاد وبتكاليف الجهاد ومعاناتها في عالم الواقع وفي ميدان القتال .

نعم . أراد الله للعصبة المسلمة أن تصبح أمة ؛ وأن تصبح دولة ؛ وأن يصبح لها قوة وسلطان . وأراد لها أن تقيس قوتها الحقيقية إلى قوة أعدائها . فترجح ببعض قوتها على قوة أعدائها ! وأن تعلم أن النصر ليس بالعدد وليس بالعدة ، وليس بالمال والخيل والزاد . . . إنما هو بمقدار اتصال القلوب بقوة الله التي لا تقف لها قوة العباد . وأن يكون هذا كله عن تجربة واقعية ، لا عن مجرد تصور واعتقاد قلبي . ذلك لتتزود العصبة المسلمة من هذه التجربة الواقعية لمستقبلها كله ؛ ولتوقن كل عصبة مسلمة أنها تملك في كل زمان وفي كل مكان أن تغلب خصومها وأعداءها مهما تكن هي من القلة ويكن عدوها من الكثرة ؛ ومهما تكن هي من ضعف العدة المادية ويكن عدوها من الاستعداد والعتاد . . وما كانت هذه الحقيقة لتستقر في القلوب كما استقرت بالمعركة الفاصلة بين قوة الإيمان وقوة الطغيان .

وينظر الناظر اليوم ، وبعد اليوم ، ليرى الآماد المتطاولة بين ما أرادته العصبة المسلمة لنفسها يومذاك وما أراده الله لها . بين ما حسبته خيراً لها وما قدره الله لها من الخير . . ينظر فيرى الآماد المتطاولة ؛ ويعلم كم يخطئ الناس حين يحسبون أنهم قادرون على أن يختاروا لأنفسهم خيراً مما يختاره الله لهم ؛ وحين يتضررون مما يريده الله لهم مما قد يعرضهم لبعض الخطر أو يصيبهم بشيء من الأذى . بينما يكمن وراءه الخير الذي لا يخطر لهم ببال ، ولا بخيال !

فأين ما أرادته العصبة المسلمة لنفسها مما أراده الله لها ? لقد كانت تمضي - لو كانت لهم غير ذات الشوكة -قصة غنيمة . قصة قوم أغاروا على قافلة فغنموها ! فأما بدر فقد مضت في التاريخ كله قصة عقيدة . قصة نصر حاسم وفرقان بين الحق والباطل . قصة انتصار الحق على أعدائه المدججين بالسلاح المزودين بكل زاد ؛ والحق في قلة من العدد ، وضعف في الزاد والراحلة . قصة انتصار القلوب حين تتصل بالله ، وحين تتخلص من ضعفها الذاتي . بل قصة انتصار حفنة من القلوب من بينها الكارهون للقتال ! ولكنها ببقيتها الثابتة المستعلية على الواقع المادي ، وبيقينها في حقيقة القوى وصحة موازينها ، قد انتصرت على نفسها ، وانتصرت على من فيها ، وخاضت المعركة والكفة راجحة رجحاناً ظاهراً في جانب الباطل ؛ فقلبت بيقينها ميزان الظاهر ؛ فإذا الحق راجح غالب .

ألا إن غزوة بدر - بملابساتها هذه - لتمضي مثلاً في التاريخ البشري . ألا وإنها لتقرر دستور النصر والهزيمة ؛ وتكشف عن أسباب النصر وأسباب الهزيمة . . الأسباب الحقيقية لا الأسباب الظاهرة المادية . . ألا وإنها لكتاب مفتوح تقرؤه الأجيال في كل زمان وفي كل مكان ، لا تتبدل دلالتها ولا تتغير طبيعتها . فهي آية من آيات الله ، وسنة من سننه الجارية في خلقه ، ما دامت السماوات والأرض . . ألا وإن العصبة المسلمة التي تجاهد اليوم لإعادة النشأة الإسلامية في الأرض - بعد ما غلبت عليها الجاهلية - لجديرة بأن تقف طويلاً أمام [ بدر ] وقيمها الحاسمة التي تقررها ؛ والأبعاد الهائلة التي تكشفها بين ما يريده الناس لأنفسهم وما يريده الله لهم :

( وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم ، وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم . ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين . ليحق الحق ويبطل الباطل ، ولو كره المجرمون ) . . .

إن العصبة المسلمة التي تحاول اليوم إعادة نشأة هذا الدين في دنيا الناس وفي عالم الواقع ، قد لا تكون اليوم من الناحية الحركية في المرحلة التي كانت فيها العصبة المسلمة الأولى يوم بدر . ولكن الموازين والقيم والتوجيهات العامة لبدر وملابساتها ونتائجها والتعقيبات القرآنية عليها ما تزال تواجه وتوجه موقف العصبة المسلمة في كل مرحلة من مراحل الحركة ، ذلك أنها موازين وقيم وتوجيهات كلية ودائمة ما دامت السماوات والأرض ، وما كانت عصبة مسلمة في هذه الأرض ، تجاهد في وجه الجاهلية لإعادة النشأة الإسلامية . . .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{لِيُحِقَّ ٱلۡحَقَّ وَيُبۡطِلَ ٱلۡبَٰطِلَ وَلَوۡ كَرِهَ ٱلۡمُجۡرِمُونَ} (8)

قال الإمام أبو جعفر الطبري : اختلف المفسرون في السبب الجالب لهذه " الكاف " في قوله : { كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ } فقال بعضهم : شُبِّه به في الصلاح للمؤمنين ، اتقاؤهم ربهم ، وإصلاحهم ذات بينهم ، وطاعتهم الله ورسوله .

ثم روى عن عكرمة نحو هذا .

ومعنى هذا أن الله تعالى يقول : كما أنكم لما اختلفتم في المغانم وتشاححتم فيها فانتزعها الله منكم ، وجعلها إلى قسمه وقسم رسوله صلى الله عليه وسلم{[12667]} فقسمها على العدل والتسوية ، فكان هذا هو المصلحة التامة لكم ، وكذلك لما كرهتم الخروج إلى الأعداء من قتال ذات الشوكة - وهم النفير{[12668]} النفير الذين خرجوا لنصر دينهم ، وإحراز عيرهم - فكان عاقبة ، كراهتكم للقتال - بأن قدَّره لكم ، وجَمَع به بينكم وبين عدوكم على غير ميعاد - رَشَدَا وهدى ، ونصرا وفتحا ، كما قال تعالى : { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ } [ البقرة : 216 ]

قال ابن جرير : وقال آخرون : معنى ذلك : { كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ } على كره من فريق من المؤمنين ، كذلك هم كارهون للقتال ، فهم يجادلونك فيه بعد ما تبين لهم ، ثم روى نحوه عن مجاهد أنه قال : { كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ } قال : كذلك يجادلونك في الحق .

وقال السُّدِّي : أنزل الله في خروجه{[12669]} إلى بدر ومجادلتهم إياه فقال : { كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ } لطلب المشركين { يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ }

وقال بعضهم : يسألونك عن الأنفال مجادلة ، كما جادلوك يوم بدر فقالوا : أخرجتنا للعِير ، ولم تعلمنا قتالا فنستعد له .

قلت : رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما خرج من المدينة طالبا لعير أبي سفيان ، التي بلغه خبرها أنها صادرة من الشام ، فيها أموال جزيلة لقريش فاستنهض رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين من خَف منهم ، فخرج في ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا وطلب نحو الساحل من على طريق بدر ، وعلم أبو سفيان بخروج رسول الله صلى الله عليه وسلم في طلبه ، فبعث ضَمْضَم بن عمرو نذيرا إلى مكة ، فنهضوا في قريب من ألف مُقَنَّع ، ما بين التسعمائة إلى الألف ، وتيامن أبو سفيان بالعير إلى سيف البحر فنجا ، وجاء النفير فوردوا ماء بدر ، وجمع الله المسلمين والكافرين على غير ميعاد ، لما يريد الله تعالى من إعلاء كلمة المسلمين

ونصرهم على عدوهم ، والتفرقة{[12670]} بين الحق والباطل ، كما سيأتي بيانه .

والغرض : أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بلغه خروج النفير ، أوحى الله إليه يَعدهُ إحدى الطائفتين : إما العير وإما النَّفير ، ورغب كثير من المسلمين إلى العير ؛ لأنه كسب بلا قتال ، كما قال تعالى : { وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ }

قال الحافظ أبو بكر بن مَرْدُويه في تفسيره : حدثنا سليمان بن أحمد الطبراني ، حدثنا بكر بن سهل ، حدثنا عبد الله بن يوسف ، حدثنا ابن لَهِيعة ، عن يزيد بن أبي حبيب ، عن أسلم أبي عمران حدثه أنه سمع أبا أيوب الأنصاري يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن بالمدينة : إني أخبرت عن عير أبي سفيان أنها مقبلة فهل لكم أن نخرج قبل هذه العير لعل الله يُغْنمناهَا ؟ " فقلنا : نعم ، فخرج وخرجنا ، فلما سِرْنا يوما أو يومين قال لنا : " ما ترون في قتال القوم ؛ فإنهم قد أخبروا بمخرجكم ؟ " فقلنا : لا والله ما لنا طاقة بقتال العدو ، ولكنا أردنا العير ، ثم قال : " ما ترون في قتال القوم ؟ " فقلنا مثل ذلك فقال المقداد بن عمرو : إذًا لا نقول لك يا رسول الله كما قال قوم موسى لموسى : { فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ } [ المائدة : 24 ]قال : فتمنينا - معشر الأنصار - أن لو قلنا كما قال المقداد أحب إلينا من أن يكون لنا مال عظيم ، قال : فأنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم : { كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ } وذكر تمام الحديث{[12671]}

ورواه ابن أبي حاتم ، من حديث ابن لهيعة ، بنحوه .

ورواه ابن مَرْدُوَيْه أيضًا من حديث محمد بن عمرو بن عَلْقَمة بن وقاص الليثي ، عن أبيه ، عن جده قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بدر ، حتى إذا كان بالرَّوْحاء ، خطب الناس فقال : " كيف تَرَون ؟ " فقال أبو بكر : يا رسول الله ، بلغنا أنهم بمكان كذا وكذا . قال : ثم خطب الناس فقال : " كيف ترون ؟ " فقال عمر مثل قول أبي بكر . ثم خطب الناس فقال : " كيف ترون ؟ " فقال سعد بن معاذ : يا رسول الله إيانا تريد ؟ فو الذي أكرمك [ بالحق ]{[12672]} وأنزل عليك الكتاب ، ما سلكتها قط ولا لي بها علم ، ولئن سرت [ بنا ]{[12673]} حتى تأتي " بَرْك الغماد " من ذي يمن لنسيرن معك ، ولا نكون كالذين قالوا لموسى { فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ } ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما متبعون ، ولعلك أن تكون خرجت لأمر ، وأحدث الله إليك غيره ، فانظر الذي أحدث الله إليك ، فامض له ، فَصِلْ حبال من شئت ، واقطع حبال من شئت ، وعاد من شئت ، وسالم من شئت ، وخذ من أموالنا ما شئت ، فنزل القرآن على قول سعد : { كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ } الآيات .

وقال العَوْفي ، عن ابن عباس : لما شاور النبي صلى الله عليه وسلم في لقاء العدو ، وقال له سعد بن عبادة ما قال وذلك يوم بدر ، أمر الناس فعبئوا للقتال ، وأمرهم بالشوكة ، فكره ذلك أهل الإيمان ، فأنزل الله : { كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ }

وقال مجاهد : يجادلونك في الحق : في القتال . وقال محمد بن إسحاق : { يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ [ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ ] }{[12674]} أي : كراهية للقاء المشركين ، وإنكارا لمسير قريش حين ذكروا لهم .

وقال السُّدِّي : { يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ } أي : بعد ما تبين لهم أنك لا تفعل إلا ما أمرك الله به .

قال ابن جرير : وقال آخرون : عنى بذلك المشركين .

حدثني يونس ، أنبأنا ابن وَهْب قال : قال ابن زيد في قوله تعالى : { يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ } قال : هؤلاء المشركون ، جادلوه في الحق { كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ } حين يدعون إلى الإسلام { وَهُمْ يَنْظُرُونَ } قال : وليس هذا من صفة الآخرين ، هذه صفة مبتدأة لأهل الكفر .

ثم قال ابن جرير : ولا معنى لما قاله ؛ لأن الذي قبل قوله : { يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ } خبر عن أهل الإيمان ، والذي يتلوه خبر عنهم ، والصواب قول ابن عباس وابن إسحاق أنه خبر عن المؤمنين .

وهذا الذي نصره ابن جرير هو الحق ، وهو الذي يدل عليه سياق الكلام ، والله أعلم . .

وقال الإمام أحمد ، رحمه الله : حدثنا يحيى بن أبي بكير وعبد الرزاق قالا حدثنا إسرائيل ، عن سِمَال ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين فرغ من بدر : عليك بالعير ليس دونها شيء فناداه العباس بن عبد المطلب - قال عبد الرزاق : وهو أسير في وثاقه - ثم اتفقا : إنه لا يصلح لك ، قال : ولم ؟ قال : لأن الله عز وجل إنما وعدك إحدى الطائفتين ، وقد أعطاك ما وعدك{[12675]}

إسناد جيد ، ولم يخرجه{[12676]}

ومعنى قوله تعالى { وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ } أي : يحبون أن الطائفة التي لا حَدَّ لها ولا منعة ولا قتال ، تكون لهم وهي العير { وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ } أي : هو يريد أن يجمع بينكم وبين الطائفة التي لها الشوكة والقتال ، ليُظَفِّرَكم بهم ويظهركم عليهم ، ويظهر دينه ، ويرفع كلمة الإسلام ، ويجعله غالبا على الأديان ، وهو أعلم بعواقب الأمور ، وهو الذي دبركم بحسن تدبيره ، وإن كان العباد يحبون خلاف ذلك فيما يظهر لهم ، كما قال تعالى : { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ [ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ] [ البقرة : 216 ] }{[12677]}

وقال محمد بن إسحاق ، رحمه الله : حدثني محمد بن مسلم الزهري ، وعاصم بن عمر بن قتادة ، وعبد الله بن أبي بكر ، ويزيد بن رومان ، عن عُرْوَة بن الزبير وغيرهم من علمائنا ، عن عبد الله بن عباس - كل قد حدثني بعض هذا الحديث ، فاجتمع حديثهم فيما سقت من حديث بدر - قالوا : لما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبي سفيان مقبلا من الشام نَدب المسلمين إليهم ، وقال : " هذه عيرُ قريش فيها أموالهم فاخرجوا إليها لعل الله أن يُنْفلكُموها " فانتدب الناسُ ، فخف بعضهم وثقل بعضهم ، وذلك أنهم لم يظنوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يلقى حربا ، وكان أبو سفيان قد استنفر حين دنا من الحجاز يتجسس الأخبار ، ويسأل من لقى من الركبان ، تخوفا على أمر الناس ، حتى أصاب خبرًا من بعض الركبان : أن محمدًا قد استنفر أصحابه لك ولعيرك ، فَحَذِرَ عند ذلك ، فاستأجر ضَمْضَم بن عمرو الغفاري ، فبعثه إلى أهل مكة ، وأمره أن يأتي قريشا فيستنفرهم إلى أموالهم ، ويخبرهم أن محمدًا قد عرض لها في أصحابه ، فخرج ضمضم بن عمرو سريعًا إلى مكة ، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه حتى بلغ واديا يقال له " ذَفرَان " ، فخرج منه حتى إذا كان ببعضه نزل ، وأتاه الخبر عن قُريش بمسيرهم ليمنعوا عيرهم فاستشار النبي صلى الله عليه وسلم الناس ، وأخبرهم عن قريش ، فقام أبو بكر ، رضي الله عنه ، فقال فأحسن ، ثم قام عمر ، رضي الله عنه ، فقال فأحسن ، ثم قام المقداد بن عمرو فقال : يا رسول الله ، امض لما أمرك الله به ، فنحن معك ، والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى : { فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ } [ المائدة : 24 ]ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما{[12678]} مقاتلون ، فوالذي بعثك بالحق ، لو سرت بنا إلى " بَرْك الغِماد " - يعني مدينة الحبشة - لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرا ، ودعا له بخير ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أشيروا علي أيها الناس " - وإنما يريد الأنصار - وذلك أنهم كانوا عَدد الناس ، وذلك أنهم حين بايعوه بالعقبة قالوا : يا رسول الله ، إنا برآء من ذِمَامك حتى تصل إلى دارنا ، فإذا وصلت إلينا فأنت في ذمَمنا نمنعك مما نمنع منه أبناءنا ونساءنا ، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخوف ألا تكون الأنصار ترى عليها نصرته إلا ممن دهمه بالمدينة ، من عدوه ، وأن ليس عليهم أن يسير بهم إلى عدو من بلادهم ، فلما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك ، قال له سعد بن معاذ : والله لكأنك تريدنا يا رسول الله ؟ قال : " أجل " قال : فقال : فقد آمنا بك ، وصدقناك ، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق ، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة ، فامض يا رسول الله لما أردت . فوالذي بعثك بالحق ، إن استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ، ما يتخلف منا رجل واحد ، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدا ، إنا لصُبُر عند الحرب ، صُدُق عند اللقاء ، ولعل الله [ أن ]{[12679]} يريك منا ما تَقَرّ به عينك ، فسِرْ بنا على بركة الله . فسُرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول سعد ، ونَشَّطه ذلك ، ثم قال : " سيروا على بركة الله وأبشروا ، فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين ، والله لكأني الآن أنظر إلى مصارع القوم " {[12680]}

وروى العَوْفي عن ابن عباس نحو هذا ، وكذلك قال السدي ، وقتادة ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، وغير واحد من علماء السلف والخلف ، اختصرنا أقوالهم اكتفاء بسياق محمد بن إسحاق .


[12667]:في ك، م، أ: "صلوات الله وسلامه عليه".
[12668]:في د: "وهو".
[12669]:في د: "خروجهم".
[12670]:في د: "التفريق".
[12671]:رواه الطبراني في المعجم الكبير (4/174).
[12672]:زيادة من م.
[12673]:زيادة من أ.
[12674]:زيادة من أ.
[12675]:المسند (1/229) من رواية يحيى بن أبي بكير و (1/314) من رواية عبد الرزاق.
[12676]:في ك، م، أ: "يخرجوه".
[12677]:زيادة من م، أ.
[12678]:في د، ك، م: "معكم".
[12679]:زيادة من م.
[12680]:رواه الطبري في تفسيره (13/399).

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{لِيُحِقَّ ٱلۡحَقَّ وَيُبۡطِلَ ٱلۡبَٰطِلَ وَلَوۡ كَرِهَ ٱلۡمُجۡرِمُونَ} (8)

القول في تأويل قوله تعالى : { لِيُحِقّ الْحَقّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ } . .

يقول تعالى ذكره : ويريد الله أن يقطع دابر الكافرين كيما يحقّ الحقّ ، كيما يعبد الله وحده دون الاَلهة والأصنام ، ويعزّ الإسلام ، وذلك هو تحقيق الحقّ ويُبْطِلَ البَاطِلَ يقول ويبطل عبادة الاَلهة والأوثان والكفر ولو كَرِهَ ذلك الذين أجرموا ، فاكتسبوا المآثم والأوزار من الكفار .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : لِيُحِقّ الحَقّ وَيُبْطِلَ الباطِلَ وَلَوْ كَرِهَ المُجْرِمُونَ هم المشركون .

وقيل : إن الحقّ في هذا الموضع : الله عزّ وجلّ .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{لِيُحِقَّ ٱلۡحَقَّ وَيُبۡطِلَ ٱلۡبَٰطِلَ وَلَوۡ كَرِهَ ٱلۡمُجۡرِمُونَ} (8)

{ ليُحقّ الحق ويُبطل الباطل } أي فعل ما فعل وليس بتكرير ، لأن الأول لبيان المراد وما بينه وبين مرادهم من التفاوت ، والثاني لبيان الداعي إلى حمل الرسول على اختيار ذات الشوكة ونصرة عليها . { ولو كره المجرمون } ذلك .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{لِيُحِقَّ ٱلۡحَقَّ وَيُبۡطِلَ ٱلۡبَٰطِلَ وَلَوۡ كَرِهَ ٱلۡمُجۡرِمُونَ} (8)

{ ليحق الحق } أي ليظهر ما يجب إظهاره وهو الإسلام { ويبطل الباطل } أي الكفر ، { ولو كره } أي وكراهتهم واقعة فهي جملة في موضع الحال .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{لِيُحِقَّ ٱلۡحَقَّ وَيُبۡطِلَ ٱلۡبَٰطِلَ وَلَوۡ كَرِهَ ٱلۡمُجۡرِمُونَ} (8)

وفي قوله : { ليُحق الحَق } جناس الاشتقاق . وفيه دلالة على أن أصل مادة الحق هو فعل حق . وأن أصل مادة الباطل هي فعل بَطل . ونظيره قول النبي صلى الله عليه وسلم للذين قالوا في التشهد السلام على الله فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم إن الله هو السلام .

وكلمات الله ما يدل على مراده وعلى كلامه النفسي ، حقيقه من أقوال لفظية يخلقها خلقاً غير متعارف ليفهمها أحد البشر ويبلغها عن الله ، مثل القرآن ، أو مجازاً من أدلة غير لفظية ، مثل ما يخاطب به الملائكة المحكي في قوله تعالى : { حتى إذا فُزّع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العليّ الكبير } [ سبأ : 23 ] وفسره قول رسول الله صلى الله عليه وسلم « إذا قضى الله الأمر في السماء ضَربت الملائكة بأجنحتها خُضعانا لقوله كأنه سلسلة على صفوان فإذا فُزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قال للذي قالَ : الحق وهو العلي الكبير » .

والجمع المعرف بالإضافة يفيد العموم ، فقوله : { بكلماته } يعم أنواع الكلام الذي يوحي به الله الدال على إرادته تثبيت الحق . مثل آيات القرآن المنزلة في قتال الكفار وما أمر به الملائكة من نصرتهم المسلمين يوم بدر .

والباء في { بكلماته } للسببية ، وذكر هذا القيد للتنويه بإحقاق هذا الحق وبيان أنه مما أراد الله ويسره وبينه للناس من الأمر ، ليقوم كل فريق من المأمورين بما هو حظه من بعض تلك الأوامر ، وللتنبيه على أن ذلك واقع لا محالة لأن كلمات الله لا تتخلف كما قال تعالى : { يريدون أن يبدلو كلام الله قل لن تتبعونا كذلكم قال الله من قبل } [ الفتح : 15 ] ، ولمدح هذا الإحقاق بأنه حصل بسبب كلمات الله .

وقطع دابر الشيء إزالة الشيء كله إزالة تأتي على آخر فرد منه يَكون في مؤخرته من ورائه وتقدم في قوله { فقطع دابر القوم الذين ظلموا } في سورة [ الأنعام : 45 ] .

والمعنى : أردتم الغنيمة وأراد الله إظهار أمركم وخضذ شوكه عدوكم وإن كان ذلك يَحرمكم الغنى العارض فإن أمنكم واطمئنان بالكم خير لكم وأنتم تحسبون أن لا تستطيعوا هزيمة عدوكم .

واللام في قوله : { ليحق الحق ويبطل الباطل } لام التعليل . وهي متعلقة بقوله { ويريد الله أن يحق الحق بكلماته } أي إنما أراد ذلك وكون أسبابه بكلماته لأجل تحقيقه الحق وإبطاله الباطلَ .

وإذ قد كان محصول هذا التعليل هو عين محصول المعلل في قوله : { ويريد الله أن يحق الحق بكلماته } وشأن العلة أن تكون مخالفة للمعلل ، ولو في الجملة ، إذ فائدة التعليل إظهار الغرض الذي يقصده الفاعل من فعله ، فمقتضى الظاهر أن لا يكون تعليل الفعل بعين ذلك الفعل ، لأن السامع لا يجهل أن الفاعل المختار ما فعل فعلاً إلا وهو مرادٌ له ، فإذا سمعنا من كلام البليغ تعليل الفعل بنفس ذلك الفعل ، كان ذلك كناية عن كونه ما فعل ذلك الفعل إلا لذاتتِ الفعل ، لا لغرض آخر عائد عليه ، فإفادة التعليل حينئذ معنى الحصر حاصلة من مجرد التعليل بنفس المعلّل .

والحصر هنا من مستتبعات التركيب ، وليس من دلالة اللفظ ، فافهمه فإنه دقيق وقد وقعت فيه غفلات .

ويجوز أن يكون الاختلاف بين المعلل والعلة بالعموم والخصوص أي يريد الله أن يحق الحق في هذه الحادثة لأنه يريد إحقاق الحق عموماً .

وأما قوله : { ويبطل الباطل } فهو ضد معنى قوله : { ليُحق الحق } وهو من لوازم معنى ليُحق الحق ، لأنه إذا حصل الحق ذهب الباطل كما قال تعالى : { بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهقٌ } [ الأنبياء : 18 ] ، ولما كان الباطل ضد الحق لزم من ثبوت أحدهما انتفاء الآخر . ومن لطائف عبد الله بن عباس أنه قال لعُمر بن أبي ربيعة : كم سِنّك فقال ابن أبي ربيعة وُلدت يوم مات عمر بن الخطاب ، فقال ابن عباس : « أي حق رُفع وأيّ باطل وضع » أي في ذلك اليوم ، ففائدة قوله : { ويبطل الباطل } التصريح بأن الله لا يرضى بالباطل ، فكان ذكر بعد قوله : { ليحق الحق } بمنزلة التوكيد لقوله { ليحق الحق } لأن ثبوت الشيء قد يُؤكد بنفي ضده كقوله تعالى : { قد ضلوا وما كانوا مهتدين } [ الأنعام : 140 ] .

ويجيء في قوله : { ويبطل الباطل } من معنى الكلام ، ومن جناس الاشتقاق ، ما جاء في قوله : { أن يحق الحق } ثم في مقابلة قوله : { ليُحق الحق } بقوله { ويُبطل الباطل } محسن الطباق .

{ ولو كره المجرمون } شرط اتصالي . و { لو } اتصالية تدل على المبالغة في الأحوال ، وهو عطف على { يريد الله } ، أو على { ليُحِق الحق } أي يريد ذلك لذلك لا لغيره ، ولا يصد مراده ما للمعاندين من قوة بأن يكرهَه المجرمون وهم المشركون .

والكراهة هنا كناية عن لوازمها وهي الاستعداد لمقاومة المراد من تلك الإرادة ، فإن المشركين ، بكثرة عددهم وعُددهم ، يريدون إحقاق الباطل ، وإرادة الله تنفذ بالرغم على كراهة المجرمين ، وأمّا مجرد الكراهة فليس صالحاً أن يكون غاية للمبالغة في أحوال نفوذ مراد الله تعالى إحقاقَ الحق : لأنه إحساس قاصر على صاحبه ، ولكنه إذا بعثه على مدافعة الأمر المكروه كانت أسباب المدافعة هي الغاية لنفوذ الأمر المكروه على الكاره .

وتقدم الكلام على { لو } الاتصالية عند قوله تعالى : { ولو افتدى به } في سورة [ آل عمران : 91 ] وقوله تعالى : { أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً } في سورة [ البقرة : 170 ] .