بحر العلوم لعلي بن يحيى السمرقندي - السمرقندي  
{لِيُحِقَّ ٱلۡحَقَّ وَيُبۡطِلَ ٱلۡبَٰطِلَ وَلَوۡ كَرِهَ ٱلۡمُجۡرِمُونَ} (8)

{ لِيُحِقَّ الحق } ، أي يظهر الإسلام . { وَيُبْطِلَ الباطل } ، يعني الشرك . { وَلَوْ كَرِهَ المجرمون } ، أي المشركون .

فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم : « سِيرُوا عَلَىَ بَرَكَةِ الله ، فَإِنِي رَأَيْتُ مَصَارِعَ القَومِ » . وجاءت قريش وأدركوا العير وأفلتوهم ، فقال بعضهم لبعض : إنما خرجتم لأجل العير ، فلما وجدتم العير فارجعوا سالمين . فقال أبو جهل : لا نرجع حتى نقتل محمداً ومن معه . فسار النبي صلى الله عليه وسلم حتى نزل بدراً بجانب الوادي الأدنى ، ونزل المشركون على جانبه الأقصى على الماء ، والوادي فيما بينهما . فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الليلة ، حتى أوتر . وكانت ليلة النصف من شهر رمضان ، وقال في قنوته : " اللَّهُمَّ لا تُفْلِتَنَّ أَبَا جَهْلِ بْنِ هِشّامِ وَفُلاَناً وفلاناً " فباتوا تلك الليلة وقد أجنبوا وليس معهم ماء ، فأتاهم الشيطان عند ذلك ووسوس إليهم ، فقال لهم : تزعمون أنكم على دين الله ، وأنكم تصلون محدثين مجنبين ، والمشركون على الماء . وكان الوادي ذا رمل تغيب فيه الأقدام ، فمطرت السماء حتى سال الوادي ، فاشتد ذلك الرمل واغتسل المسلمون من جنابتهم وشرّبوا دوابهم ؛ فذلك قوله : { إِذْ يُغَشِّيكُمُ النعاس أَمَنَةً مِّنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم من السمآء مَآءً لِّيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشيطان وَلِيَرْبِطَ على قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأقدام } [ الأنفال : 11 ] إلى قوله : { إِذْ يُغَشِّيكُمُ النعاس أَمَنَةً مِّنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السمآء مَآءً لِّيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشيطان وَلِيَرْبِطَ على قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الاقدام } [ الأنفال : 11 ]

وكان عليّ والزبير يحرسان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجاء سقاة قريش يسقون الماء ، فأخذهم عليّ والزبير ، فسألاهم عن أبي سفيان ، فقالوا : ما لنا بأبي سفيان من علم . فقالا : فمع من أنتم ؟ فقالوا : مع قريش من أهل مكة . فقالا : كم هم ؟ قالوا : لا ندري ، هم كثير فضرباهم فقالوا : هم قليل فتركاهم . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « تَضْرِبُونَهُمْ إنْ صَدَقُوكُمْ ، وَتَتْرُكُونَهُمْ إنْ كذَبُوكُمْ » . فدعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال :

« كَم القَوْمُ » فقالوا : هم كثير فلا ندري كم هم . فقال : « كَمْ يُنْحَرُ لَهُمْ في كُلِّ يَوْمٍ » فقالوا : في يوم ينحر لهم عشرة جزر ، وفي يوم تسعة . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : « القَوْمُ ما بَيْنَ تِسْعِمائَةٍ إلى أَلْفٍ » وكانت عدتهم تسعمائة وخمسين ، وكانوا قد خرجوا من مكة ألفاً ومائتين وخمسين ، فرجع الأخنس بن شريق مع ثلاثمائة من بني زهرة مع العير ، وبقي تسعمائة وخمسون رجلاً . فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الغداة ورفع يديه وقال : « اللَّهُمَّ لا تُهْلِكْ هذه العِصَابَةَ فَإنَّكَ إنْ أَهْلَكْتُهُمْ ، لا تعْبَد عَلَى وَجْهِ الأرض أبَداً » فقال أبو بكر : يا رسولَ الله ، قد دنا القوم . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : « أَبْشِرْ يا أبا بَكْرٍ ، فإنِّي رَأَيْتُ جِبْرِيلَ مُعْتَمراً بِعِمَامةٍ ، يقودُ فَرَساً بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأرض » . فأمدَّه الله بجبريل في ألف من الملائكة ، وميكائيل في ألف من الملائكة ، وإسرافيل في ألف من الملائكة ؛ فذلك قوله { بلى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُمْ مِّن فَوْرِهِمْ هذا يُمدكُمْ رَبُّكُمْ بِثلاثة ءالاف مِّنَ الملائكة مُنزلِينَ } [ آل عمران : 124 ] .

فقال أبو جهل : اللهم انصر أحب الدينين إليك ، ديننا العتيق ودين محمد الحديث . وقال عتبة بن ربيعة : يا معشر قريش ، إنّ محمداً رجل منكم ، فإن يكن نبياً فأنتم أسعد الناس به ، وإن يكن ملكاً تعيشوا في ملك أخيكم ، وإن يكن كاذباً يقتله سواكم ، لا يكون هذا منكم . وإني مع ذلك لأرى قوماً زرق العيون لا يموتون ، حتى يقتلوا عدداً منكم . فقال أبو جهل : يا أبا الوليد ، جبنت وانتفخ سحرك . فقال له عتبة يا كذاب ستعلم اليوم أيّنا الجبان فلبس لأمته ، وخرج معه أخوه شيبة بن ربيعة ، وخرج معه ابنه الوليد بن عتبة ، فتقدموا إلى القوم وقالوا : يا محمد ، ابعث لنا أكفاءنا . فخرج إليهم قوم من الأنصار ، فقالوا : من أنتم ؟ فقالوا : نحن أنصار الله ورسوله فقالوا : لا نريدكم ولكن نريد إخواننا من قريش ، فانصرفوا . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : « يا بَنِي هَاشمٍ تَقَدَّمُوا إلَيْهِمْ » فقام عليّ بن أبي طالب ، وحمزة بن عبد المطلب ، وعبيدة بن الحارث بن عبد المطلب ، وعليهم البيض فقال لهم عتبة : تكلموا حتى نعرفكم . فقال حمزة : أنا أسد الله وأسد رسوله . فقال عتبة : كفوء كريم . قال : فمن هذان معك ؟ فقال : عليّ بن أبي طالب وعبيدة بن الحارث بن عبد المطلب . فذهب الشيخ إلى الشيخ والشاب إلى الشاب والكهل إلى الكهل ؛ فذهب عبيدة بن الحارث إلى شيبة بن ربيعة وكلاهما شيخان ، وذهب عليّ إلى الوليد بن عتبة وكلاهما شابان ، وذهب حمزة إلى عتبة بن ربيعة وكلاهما كهلان . فقتل حمزة بن عبد المطب عتبة بن ربيعة ، وقتل عليّ بن أبي طالب الوليد بن عتبة ، واختلف عبيدة بن الحارث وشيبة بن ربيعة في ضربتين ، ضرب عبيدة بالسيف على رأس شيبة بن ربيعة ، وضرب شيبة ضربة في رجل عبيدة .

فمال حمزة وعليٌّ على شيبة بن ربيعة ، فقتلاه وحملا عبيدة إلى العسكر ، فمات عبيدة في حال انصرافهم قبل أن يصل إلى المدينة ، فدفن بمضيق الصفراء . ففي هذا الخبر دليل من الفقه أن المشركين إذا طلبوا البراز ، فلا بأس للمؤمنين بأن يخرجوا بغير إذن الإمام ، ما لم ينههم عن ذلك ؛ لأن الأنصار قد خرجوا قبل أن يأذن لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ وفيه دليل أنه لا بأس بأن ينصر أحد المبارزين صاحبه ، لأن حمزة وعليّاً قد أعانا عبيدة على قتل شيبة ؛ وفيه دليل أنه لا بأس بالافتخار عند الحرب ، لأن حمزة قال : أنا أسد الله ، وأسد رسوله . ولا بأس بأن يتبختر في مشيته في حال القتال . ثم خرج مهجع مولى عمر بن الخطاب ، فأصابته رمية بين الصفين ؛ فكان أول قتيل يوم بدر وحرض رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس على القتال ، فقال عمير بن الحمام السلمي ، وهو قائم وفي يده تمرات يأكلها : يا رسول الله ، إن قتلت في سبيل الله فلي الجنة ؟ قال : نعم . فألقى التمرات ، وأخذ سيفه وشدّ على القوم ، فقاتل حتى قتل . فخرج أبو جهل بن هشام على جمل له لعنه الله فخرج إليه شاب من الأنصار ، يقال له معاذ بن عمرو بن الجموح ، فضربه ضربة على فخذه فخر أبو جهل عن بعيره . فخرج إليه عبد الله بن مسعود ، فلما رآه أبو جهل ، قال : يا ابن أم عبد لمن الدولة ؟ وعلى من الدائرة ؟ فقال له ابن مسعود : لله ولرسوله يا عدو الله لأنت أعتى من فرعون ، لأن فرعون جزع عند الغرق وأنت لم يزدك هذا الصرع إلاَّ تمادياً في الضلالة ؟ ثم وضع رجله على عاتق أبي جهل ، فقال له أبو جهل : لأنت رويعنا بالأمس ، لقد ارتقيت مرتقًى عظيماً . فقتله ابن مسعود وحز رأسه ، وجاء برأسه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فخر رسول الله صلى الله عليه وسلم ساجداً ثم قال لأبي بكر ، ويقال لعليّ : « نَاوِلْنِي كَفّاً مِنْ تُرَابٍ » . فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم قبضة من التراب ، وَرَمَاهَا في وجوه القوم وقال : « شَاهَتِ الوُجُوهُ » لت في أعين القوم كلهم ، فأقبل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقتلونهم ويأسرون منهم ، وحملوا على المشركين والملائكة معهم وقُذِف في قلوب المشركين الرعب ، فقتلوا في تلك المعركة منهم سبعين ، وأسروا سبعين ، واستشهد يومئذ من المهاجرين ثلاثة عشر رجلاً . ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأسارى والغنائم إلى المدينة ، واستشار النبي صلى الله عليه وسلم في أمر الأسارى ، فأقبل على أبي بكر فقال :

« مَا تَقُولُ يَا أبَا بَكْرٍ » ؟ فقال : قومك وبنو عمك ، فإن قتلتهم صاروا إلى النار ، وإن تُقِدْهُمْ فلعل الله يهديهم إلى الإسلام ، ويكون ما نأخذه منهم قوة للمسلمين وقوة على جهاد أعدائهم . ثم أقبل على عمر فقال : « مَا تَقُولُ يَا أبَا حَفْصٍ » فقال عمر : إن في يديك رؤوس المشركين وصناديدهم ، فاضرب أعناقهم وسيغني الله المؤمنين من فضله . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : « إِنَّ مَثَلَكَ يَا أبَا بَكْرٍ مِنَ المَلاَئِكَةِ مَثَلُ مِيكائِيلَ فَإنَّهُ لاَ يَنْزِلُ إلاَّ بالرَّحْمَةَ ، وَمَثَلَكَ مِنَ الأَنْبِياءِ مَثَلُ إبْرَاهِيمَ ، حَيْثَ قَالَ { رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِّنَ الناس فَمَن تَبِعَنِى فَإِنَّهُ مِنِّى وَمَنْ عَصَانِى فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ إبراهيم : 36 ] وَمَثَلُ عِيسَى ، حَيْثُ قَال { إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم } [ المائدة : 118 ] وَمَثْلُكَ يا عُمَرُ من الملائكة مَثَلُ جِبْرِيلَ فَإنَّهُ يَنْزِلُ بِالعَذَابِ وَالشِّدَّةِ ، وَمَثَلُكَ مِنَ الأنْبِيَاءِ مَثَلُ نُوْحٍ ، حَيْثُ قَالَ : { وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأرض مِنَ الكافرين دَيَّاراً } [ نوح : 26 ] وَمَثَلُ مُوسَى ، حَيْثُ قَالَ : { وَقَالَ موسى رَبَّنَآ إِنَّكَ ءاتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلاّهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِى الحياة الدنيا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطمس على أموالهم واشدد على قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حتى يَرَوُاْ العذاب الأليم } [ يونس : 88 ] » . وروى سماك بن حرب ، عن عكرمة ، عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال قيل للنبي صلى الله عليه وسلم حين فرغ من بدر : عليك بالعير ، فإنه ليس دونها شيء . فناداه العباس وهو أسير في وثاقه : إنه لا يصلح . فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : « لِمَ » ؟ قال : لأن الله تعالى وعدك إحدى الطائفتين ، وقد أعطاك ما وعدك .