مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{لِيُحِقَّ ٱلۡحَقَّ وَيُبۡطِلَ ٱلۡبَٰطِلَ وَلَوۡ كَرِهَ ٱلۡمُجۡرِمُونَ} (8)

قوله تعالى : { وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنه لكم وتودون أن غير الشوكة تكون لكم ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين } .

اعلم أن قوله : { إذ } منصوب بإضمار اذكر أنها لكم بدل من إحدى الطائفتين . قال الفراء والزجاج : ومثله قوله تعالى : { هل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة } { وأن } في موضع نصب كما نصب الساعة ، وقوله أيضا : { ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموهم أن تطؤهم } { أن } في موضع رفع بلولا . والطائفتان : العير والنفير : وغير ذات الشوكة . العير . لأنه لم يكن فيها إلا أربعون فارسا والشوكة كانت في النفير لعددهم وعدتهم . والشوكة الحدة مستعارة من واحدة الشوك ، ويقال شوك القنا لسنانها ، ومنه قولهم شاكي السلاح . أي تتمنون أن يكون لكم العير لأنها الطائفة التي لا حدة لها ولا شدة ، ولا تريدون الطائفة الأخرى ولكن الله أراد التوجه إلى الطائفة الأخرى ليحق الحق بكلماته ، وفيه سؤالات :

السؤال الأول : أليس أن قوله : { يريد الله أن يحق الحق بكلماته } ثم قوله بعد ذلك : { ليحق الحق } تكرير محض ؟

والجواب : ليس ههنا تكرير لأن المراد بالأول سبب ما وعد به في هذه الواقعة من النصر والظفر بالأعداء ، والمراد بالثاني تقوية القرآن والدين ونصرة هذه الشريعة ، لأن الذي وقع من المؤمنين يوم بدر بالكافرين كان سببا لعزة الدين وقوته ، ولهذا السبب قرنه بقوله : { ويبطل الباطل } الذي هو الشرك ، وذلك في مقابلة { الحق } الذي هو الدين والإيمان .

السؤال الثاني : الحق حق لذاته ، والباطل باطل لذاته ، وما ثبت للشيء لذاته فإنه يمتنع تحصيله بجعل جاعل وفعل فاعل فما المراد من تحقيق الحق وإبطال الباطل ؟

والجواب : المراد من تحقيق الحق وإبطال الباطل ، بإظهار كون ذلك الحق حقا ، وإظهار كون ذلك الباطل باطلا ، وذلك تارة يكون بإظهار الدلائل والبينات ، وتارة بتقوية رؤساء الحق وقهر رؤساء الباطل .

واعلم أن أصحابنا تمسكوا في مسألة خلق الأفعال بقوله تعالى : { ليحق الحق } قالوا وجب حمله على أنه يوجد الحق ويكونه ، والحق ليس إلا الدين والاعتقاد ، فدل هذا على أن الاعتقاد الحق لا يحصل إلا بتكوين الله تعالى . قالوا : ولا يمكن حمل تحقيق الحق على إظهار آثاره لأن ذلك الظهور حصل بفعل العباد ، فامتنع أيضا إضافة ذلك الإظهار إلى الله تعالى ، ولا يمكن أن يقال المراد من إظهاره وضع الدلائل عليها ، لأن هذا المعنى حاصل بالنسبة إلى الكافر وإلى المسلم . وقبل هذه الواقعة ، وبعدها فلا يحصل لتخصيص هذه الواقعة بهذا المعنى فائدة أصلا .

واعلم أن المعتزلة أيضا تمسكوا بعين هذه الآية على صحة مذهبهم . فقالوا هذه الآية تدل على أنه لا يريد تحقيق الباطل وإبطال الحق البتة ، بل إنه تعالى أبدا يريد تحقيق الحق وإبطال الباطل ، وذلك يبطل قول من يقول إنه لا باطل ولا كفر إلا والله تعالى مريد له .

وأجاب أصحابنا بأنه ثبت في أصول الفقه أن المفرد المحلى بالألف واللام ينصرف إلى المعهود السابق فهذه الآية دلت على أنه تعالى أراد تحقيق الحق وإبطال الباطل في هذه الصورة ، فلم قلتم إن الأمر كذلك في جميع الصور ؟ بل قد بينا بالدليل أن هذه الآية تدل على صحة قولنا .

أما قوله : { ويقطع دابر الكافرين } فالدابر الآخر فاعل من دبر إذا أدبر ، ومنه دابرة الطائر وقطع الدابر عبارة عن الاستئصال ، والمراد أنكم تريدون العير للفوز بالمال ، والله تعالى يريد أن تتوجهوا إلى النفير ، لما فيه من إعلاء الدين الحق واستئصال الكافرين .