اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{لِيُحِقَّ ٱلۡحَقَّ وَيُبۡطِلَ ٱلۡبَٰطِلَ وَلَوۡ كَرِهَ ٱلۡمُجۡرِمُونَ} (8)

قوله : " لِيُحِقَّ " فيه وجهان :

أحدهما : أنَّه متعلقٌ بما قبله ، أي : ويقطع ليحق الحقَّ ، والثاني : أن يتعلَّق ، بمحذوفٍ تقديره : ليحقَّ الحقَّ فعل ذلك ، أي : ما فعله إلاَّ لهما ، وهو إثباتُ الإسلامِ وإظهاره وزوالُ الكُفْرِ ومحقه .

قال الزمخشريُّ{[17175]} : " ويجب أن يُقدَّر المحذوفُ مؤخراً ليفيد الاختصاص وينطبق عليه المعنى " . وهذا على رأيه ، وهو الصحيحُ .

فإن قيل : قوله : { وَيُرِيدُ الله أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ } ثم قوله بعد ذلك : " لِيُحِقَّ الحقَّ " تكرير محضٌ .

فالجوابُ : أنَّ المراد بالأوَّل سبب ما وعد اللَّه به هذه الواقعة من النَّصر والظَّفر بالأعداد .

والمراد بالثاني : تقوية القرآن والدِّين ونصرة هذه الشَّريعةِ ؛ لأنَّ الذي وقع مع المؤمنين يوم بدر بالكافرين سبب لعزة الدِّين وقوته ، ولهذا قرنه بقوله : " ويُبْطِلَ الباطلَ " الذي هو الشرك ، وذلك في مقابلة : " الحقّ " الذي هو الدين والإيمان .

فإن قيل : الحقُّ حقٌّ لذاته ، والباطلُ باطلٌ لذاته ، وما ثبت للشيء لذاته ؛ فإنَّه يمتنع تحصيله بجعل جاعل فما المرادُ من تحقيق الحقِّ وإبطال الباطل .

الجوابُ : المرادُ من تحقيق الحقِّ وإبطال الباطل إظهار كون ذلك الحقِّ حقّاً ، وإظهار كون الباطل باطلاً ، وذلك يكون تارةً بإظهار الدَّلائل والبينات ، وتارةً بتقوية رؤسَاءِ الباطل .

فصل

احتجوا بقوله : " لِيُحِقَّ الحَقَّ " في مسألة خلْقِ الأفعال .

قالوا : يجبُ حمله على أنه يوجدُ الحقَّ وبكونه ، والحقُّ ليس إلاَّ الدين والاعتقاد ، فدل على أنَّ العقائد الحقة لا تحصل إلاَّ بتكوين الله ، ولا يمكنُ حمل تحقيق الحقِّ على إظهار آثاره ؛ لأنَّ ذلك الظُّهُورَ حصل بفعل العبادِ ، فامتنع إضافة ذلك الإظهار إلى اللَّهِ تعالى ، ولا يمكنُ أن يقال : المرادُ من إظهاره وضع الدلائل عليها ، لأنَّ هذا المعنى حاصلٌ في حق الكافر والمسلم .

وقبل هذه الواقعة وبعدها فلا يَبْقَى لتخصيص هذه الواقعة بهذا المعنى فائدة أصلاً .

قالت المعتزلةُ : هذه الآيةُ تدلُ على أنَّهُ يريدُ تحقيق الباطل وإبطال الحق ألبتَّة ، إنَّما يريد تحقيق الحقِّ ، وإبطال الباطل ، وذلك يبطلُ قول من يقول إنَّه لا باطل ولا كفر إلاَّ والله تعالى مريدٌ له .

وأجيبوا : بأنه ثبت في أصول الفقة أنَّ المفرد المحلى بالألف واللاَّم ينصرفُ إلى المعهود السَّابقِ فهذه الآية دلَّت على أنَّه تعالى أراد تحقيق الحق ، وإبطال الباطل في الصُّورة ، فلم قُلْتُم إنَّ الأمر كذلك في جميع الصُّور ؟

وقد بيَّنا أيضاً بالدَّليلِ أنَّ هذه الآية تدلُّ على صحَّة قولنا .

ثم قال تعالى : { وَلَوْ كَرِهَ المجرمون } أي : المشركون .


[17175]:ينظر: الكشاف 2/200.